٭ بقلم عبد الواحد اليحياوي: (محامي والمنسق العام للهيئة التأسيسية لحركة الكرامة والتنمية) يثير الاستغراب في الفترة الاخيرة انتشار الفتاوى السياسية وتناقضها، اذ في اللحظة التي يفتي فيها بعض الفقهاء بحرمة التظاهر والخروج على وليّ الامر ظهر علماء آخرون مثل الشيخ عبد المجيد الزنداني ليؤكدوا على أن التظاهر واجب شرعي، فهل نحن أمام اسلام واحد يتيح القراءة ونقيضها أم نحن أمام اسلامات كما يذهب الى ذلك ماكسيم رودينسون؟ ثم ما مدى تعبير ذلك عن تطور في الاسلام السياسي؟ وهل يتيح لنا تحليل هذا الاسلام السياسي الوصول الى فهم هذه الظاهرة؟ يثير تعبير الاسلام السياسي عدة اشكاليات من الناحية المفاهيمية، فإذا كان يعني الحركات التي تؤمن بأن الاسلام دين ودولة فإن بعض الحركات التي تدّعي الانتماء للمرجعية الاسلامية تفصل بين الاسلام كدين وسياسة متأت من الخلط في صفة الرسول ے كنبيّ وقائد سياسي وبالتالي فإن الاسلام وهو وعاء ثقافي وأخلاقي لممارسة السياسة، أما اذا كان يعني جميع الحركات التي تصرّح بأنها لها مرجعية اسلامية بتلوينات عدة وانها تؤسس داخل الفكر الاسلامي وليس الاسلام كدين فإن مجموعة كبرى من الاحزاب المصنفة كأحزاب ليبيرالية او قومية يمكن ان تصنف ضمن هذه الخانة وبالتالي فإن تعبير الاسلام السياسي معقد من الناحية المفاهيمية ولكن بسبب اجرائي بحت سنعتبر الاسلام السياسي كل الحركات التي تصرح بأن لها مرجعية اسلامية وتصنف نفسها كذلك، اي انها اسلامية في مستوى الخطاب وفي مستوى رؤيتها لنفسها، وهو ما يتيح لنا الحديث عما يسمى اليوم بالحركات الاسلامية رغم التناقضات بينها وأحيانا الخصومة الفكرية والسياسية. تقدم الحركات الاسلامية نفسها على انها اجابة عن السؤال النهضوي من داخل الحضارة العربية الاسلامية اذ تعتقد ان تأخر المسلمين ناتج عن عدم تطبيقهم لتعاليم الدين الاسلامي (عقيدة وشريعة) بينما تقدم الغرب هو تقدم مادي بحت مفصول عن مرجعية روحية متبنين بعض مدارس النقد الذاتي الغربي نفسه مثل مدرسة فرانكفورت وخاصة في شقها الامريكي الذي يذهب الى ان الحضارة الغربية أنتجت الانسان ذي البعد الواحد هذا وقد أدى فشل الاحزاب السياسية والقومية والليبيرالية في مشاريعها الوطنية الى انتشار الاسلام السياسي كظاهرة سوسيوسياسية بحيث أصبح البديل الجماهيري الاكثر صدقية خاصة مع ما أبداه المنتمون اليه من قدرة على التواصل الاجتماعي داخليا والتعبئة ضد اسرائيل والغرب خارجيا (الغرب الرأسمالي والغرب الشيوعي). وهكذا فإن فشل النخب العربية ادى الى ظهور مثقف جديد هو وريث الفقيه حارس الدين في مواجهة الدولة الوطنية المبنية على المثال الغربي وهو ما أعطى الخطاب الاسلامي قدرة تجييشية باعتباره ايديولوجيا خلاصية تنطلق من الذات وتعود الى الذات في دائرة مغلقة متجاهلة الجغرافيا السياسية والثقافية حيث الآخر هو الجحيم (سارتر): الآخر وجهه الملتبس: وجه المتقدم ماديا وعسكريا ووجه المستعمر المؤسس على نظرة مركزية بغيضة. اذا قام الاسلام السياسي على أنه اجابة عن التخلف الداخلي والتحدي الخارجي ثم تطور تحت ضغط استبداد الدولة الوطنية والتغييرات العميقة للمجتمعات العربية في اتجاهين متناقضين: اتجاه متشدد مداه حركات التكفير والهجرة واتجاه متحرر مداه التجربة السياسية التركية. ويثير الاسلام السياسي التركي الجديد ممثلا في حزب العدالة والتنمية اعجابا شديدا ليس فقط بسبب محتواه الفكري ولكن للنجاحات الاقتصادية التي حققتها تركيا في ظله وللمواقف السياسية التي أطلقها أردوغان من القضية الفلسطينية مما جعله نموذجا تحاول عديد الحركات الاسلامية البناء عليه او حذوه على يساره وعلى يمينه. لا يجب التسرع في الحكم على المشروع السياسي الاسلامي التركي بالنظر الى أن التجربة ليست نهائية وهي نتيجة لتفاعلات المجتمع التركي في علاقته بتاريخه الحضاري وتقاليد العلمانية الأتاتوركية المحروسة من قبل المؤسسة العسكرية والمحكمة الدستورية العليا ولكن هذا لا يمنع من ان الحركة تبدو وكأنها اجابة واقعية عن السؤال النهضوي الذي طالما شغل المفكرين من رفاعة الطهطاوي وصولا الى محمد عابد الجابري وحسن حنفي ومحمد الطالبي وغيرهم... ذلك انها أسست لسلطة سياسية حديثة على النمط الغربي مترافقة مع احياء نظام القيم الاسلامي تحت غطاء القيم الغربية نفسها بحيث يصبح الحجاب تعبيرا عن الحرية الشخصية وليس عن فتوى شرعية ويصبح السلوك الشخصي قائما على الفضائل الاسلامية استنادا على الفضيلة العقلية والسياسية وليس الفضيلة الدينية وهو ما جعل البعض يعتبر الحداثة التركية هي حداثة استراتيجية هدفها تمرير المشروع الاسلامي الذي أخفقت في تحقيقه الحركات الاسلامية الأرتودوكسية. يطرح ظهور الحركات الاسلامية التي تؤسس للحداثة داخل الفضاء القيمي العربي والاسلامي سؤالا عميقا: هل ان هذه الحركات هي تأسيس لمشروع الحداثة داخل الأصول الاسلامية اي انها تأصيل لمشروع أم تأسيس لمشروع الأصل الاسلامي داخل الحداثة اي انها مشروع للتأصيل؟.. تدّعي هذه الحركات ان مشروعها هو الحداثة فهل ان الحداثة غير مكتفية بنفسها ويجب تأصيلها داخل نسق فكري آخر؟ أليست الحداثة نسقا فكريا إنسانويا مستقلا؟ يذهب محمد عابد الجابري في تحليله لميكانيزمات النهضة الى ان جميع تجارب الصعود الانساني تأسست على كونها عودة للأصول فالاسلام هو احياء لدين «أبينا ابراهيم» والحضارة الغربية هي احياء للحضارة اليونانية الرومانية وبالتالي فإن أي عملية نهضة هي عملية تأسيس داخل تيار في حضارة سابقة مرتبطة بها مما يجعل من التاريخ الانساني متواصلا وقطائعيا في نفس الوقت. وهكذا فإن عملية التأصل هي جزء من بنية التطور الانساني وهي شرط معرفي ونفسي للنهضات الحضارية كما عرفتها البشرية: انها استثمار لرأسمال رمزي مشترك من أجل اعادة انتاج نظام قيمي ومادي جديد بحيث ان التطور البشري هو تحول في البنى من خلال استعمال عناصر البنية السابقة. يحيلنا هذا التحليل بالضرورة الى خطاب الشرعية لأن عملية التأصيل هنا هي شرعنة لحركة التطور والتغيير لذا فإن الحركات الاسلامية الحداثية تؤسس لحداثة داخل الأصول الاسلامية تحقيقا للشرعية ولكن ما هي هذه الاصول التي يمكن التأسيس داخلها ولا تتناقض مع الحداثة؟ إن الفهم الاسلامي السائد حاليا هو نتيجة لعبور فكر اسلامي جميع الحقبات الفارطة فهو محمل بلحظات التطور والتخلف، إن بنية الاسلام الحالي هي بنية الاسلام كما عبر التاريخ مكوّنة من تجارب شتى ووقائع مختلفة، إنه نتاج تاريخه، إنه الاسلام المحمّل بفهم المسلمين لواقعهم في علاقة بالمخيال الاجتماعي لهم طيلة أربعة عشر قرنا مما يطرح سؤالا عن علاقة هذا الاسلام بالاسلام الاول: إسلام الرسول ے. يذهب محمد الطالبي الى ان الاسلام الحالي يحتاج الى مسلمين قرآنيين يقطعون مع فهم السلف للقرآن وللتجربة الاولى اي ان التأسيس يجب أن يتم داخل اللحظة الاولى «اللحظة التي تكلّم فيها الله» (محمد أركون) والتي يمكن رسم علاقة مباشرة معها من خلال كلام الله «القرآن» وهكذا فإن التأصيل يتم داخل حيوية الاسلام وليس داخل الفهم الناتج عن عصور التخلف والانحطاط، انه الفهم الكفيل بالقطع مع السلفية كطريقة جاهزة في التفكير، إن النص الاسلامي بانفتاحيته يتيح انشاء حداثة في أفق انساني، حداثة حيث الانسان مع الله وليس بدونه وهو نفس النص الذي أتاح للعلماء المسلمين بإصدار فتوى تجعل من التظاهر الذي هو من الحقوق السياسية الأساسية واجبا شرعيا.