تبقى المجازر واحدة في فيتنام أو غزة أيها الواقفون على حافة المذبحة أشهروا الأسلحة! سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة والدم انساب فوق الوشاح! المنازل أضرحة، والزنازن أضرحة، والمدى.. أضرحة فارفعوا الأسلحة واتبعوني! أنا ندم الغد والبارحة رايتي: عظمتان.. وجمجمة وشعاري: الصباح! هذه الأبيات التي قالها الشاعر الكبير "أمل دنقل" في قصيدته "أغنية الكعكة الحجرية" التي كانت نشيدا للطلاب في السبعينيات يرددونها بشكل جماعي في مظاهراتهم أمام شلالات الدم العربي، كلمات "أمل" برغم مرور العقود عليها ما تزال طازجة وقادرة على إثارة الوجدان وكأنها قيلت منذ ساعات، وكأنها تصف ما يجري في غزة.. وطزاجة هذه الأبيات لا تعود فقط إلى شاعرية أمل، وهي كبيرة بلا شك، ولكن أيضا إلى البيوت التي أصبحت أضرحة في غزة الصامدة.. لكن خبرة التاريخ أن الصباح أو الانتصار دائما كان للمقاومات على مدار التاريخ؛ لأن سنن التاريخ أن الدم ينتصر على السيف، وأن الإرادة أقوى من الدبابة.. ونصيحة الشهيد أحمد ياسين إلى الشهيد ياسر عرفات "لا تستسلم.. يريد العدو وقف المقاومة، والوقوف يعني الهزيمة ورفع الرايات البيضاء.. إننا يجب أن نعمل دائما على استمرار المقاومة حتى لا تنتصر الطائرة والدبابة على إرادة الشعوب". قاموس المقاومة أثارت المذبحة التي تجري في غزة الكثير من التساؤلات، أولها: هل أوجدت المقاومة قاموس مفردات خاصة بها، ففي فترة الخمسينيات والستينيات عندما تصدى التيار القومي والقوى اليسارية كحركة مقاومة ضد المشروع الصهيوني الاحتلالي التوسعي خلق هذا التيار قاموسا للمقاومة وخلق سرديات للبطولة، بل خلق ثقافة للمقاومة ارتبطت ببعض مفردات قاموسه، فرأينا مصطلحات "النضال- التحرير- الرفيق - الإمبريالية.. إلخ"، كما رأينا أن سرديات البطولة تجاوزت الحدود الإقليمية للمنطقة العربية وتجاوزت القضية الفلسطينية ليصبح النضال ضد المشروع الصهيوني جزءًا من نضال الشعوب التي تبغي التحرر وتقاوم الهيمنة وتناضل من أجل الحرية والكرامة؛ ولذا عرفت سرديات البطولة في تلك الفترة إعجابا كبيرا من المناضلين العرب للمناضلين من أجل الحرية والمقاومين للإمبريالية الأمريكية في أمريكا اللاتينية، ووجدنا اسم تشي جيفارا يتردد في أحياء القاهرة الفقيرة وبيروت ودمشق، وصورته يرتديها الشبان والفتيات، وأصبحت صورة "جيفارا" أشبه بالماركة التي تجد قبولها وصداها في العالم، فالبطولة والمقاومة لها بريقها، وانتصارها لا يعني تحرير الأرض فقط، ولكن إثبات أن الحياة لا تعني شيئا بدون الحرية، والموت قد يكون وجها مرغوبا فيه للحرية، وانعتاقا إلى آفاق واسعة بعيدا عن الأغلال. ولذا كان الكواكبي يردد دائما "على قدر حريتك تكون إنسانيتك".. كما عرفت معسكرات المناضلين الفلسطينيين، خاصة من ذوي الاتجاهات اليسارية، مناضلين من كافة الجنسيات في العالم نسج بينها الرغبة في المقاومة، وإذا كان التاريخ لم يهتم بقاتل "جيفارا" فإن ملايين البشر عرفوا المقتول وأعجبوا ببطولته، ولعلنا هنا أمام تجربة إنسانية سيكولوجية مهمة، فالإنسان يحتاج إلى أن يكون في جنسه البشري أبطال يستند إلى قصصهم وبطولاتهم أوقات الأزمات التي يتجلى فيها الصراع بين الكرامة والحق والإرادة والإنسانية من جانب، وبين القوة والظلم والتجبر من جانب آخر. وإذا كانت القوة تستطيع أن تهدم وتسفك الدماء فإن الأرض ترفض أن تبتلع الدماء، وكأنها تبعث برسالة رمزية إلى هذا الظلم وهؤلاء القتلة: إن الجريمة لن تمر، وإذا جف الدم فإن آثاره باقية، حتى وإن علت أحذية هؤلاء فوق الدماء فإنها تطبع بصماتهم على الأرض كرمزية على فعل القاتل وأنه سيأتي يوم للقصاص. المهم في الأمر أن المقاومة لها قاموسها ولها منطقها، وفيما يجري من غزة شاهدت الشخصية الفلسطينية اليسارية "نايف حواتمة" وهو يضع ورودا على قبر الشهيد "عماد مغنية" في لبنان، وسمعت كلمات من الرجل يتحدث فيها عن "الصبر.. والجهاد.. والتضحية"، فالمنظمات الفلسطينية ذات الخلفيات اليسارية لم تعد الفروق بينها وبين التنظيمات الإسلامية في العمل النضالي ضد الاحتلال الصهيوني ذات اختلاف كبير، فهم يرون ما يجري احتلالا يجب مقاومته، وعدوانا يجب وقفه، وصراعا بين الإنسان والتجبر يجب تحديد الموقف منه. الأمر الثاني هو أن منطق المقاومة في تعاملها مع موضوع النصر والهزيمة هو في الأساس قائم وينطلق من رؤية معرفية ثقافية، أو بالأحرى رؤية حضارية، ولا ينطلق من توازن قوى، أي أنه يعمل على جانبين، الأول رمزي وهو إيقاع المحتل في المأزق الأخلاقي بتجريده من إنسانيته وبشريته ودفعه للتمسك بخيار واحد فقط هو خيار سفك الدماء، وعلى قدر الدماء الغزيرة تكون أزمة المشروع الاحتلالي وحجم الإفلاس الذي يعاني منه، والثاني هو الضغط على المشروع الاحتلالي ورفع تكلفة بقائه ومحاولة إقناعه بأن التكلفة متصاعدة وأكبر من العائد الذي يجنيه من الاحتلال، وهو ما يعني عسكرة دائما للاحتلال ورهن استمرار مشروعه الاحتلالي بقوة السلاح.. وهنا يأتي عنصر الزمن لتكشُّف التطورات النوعية التي تلجأ إليها حركات المقاومة في مواجهة الاحتلال وبناء قدراتها النضالية. بين غزة وفيتنام التجربة الفيتنامية الرائعة إنسانيا تؤكد أن مئات الآلاف من الفيتناميين (مليوني شخص) قضوا تحت قصف الطائرات الأمريكية ومئات المذابح التي ارتكبها الأمريكان ضد الشعب الأعزل، لكن هذا الشعب كلف الأمريكيين ما يقرب من 55 ألف قتيل، بل إن الفيتناميين لجئوا إلى تكتيك الخنادق لمواجهة الأمريكيين، فأنزل الأمريكيون الكلاب المدربة لقتلهم في الخنادق، فوضع الفيتناميون لهذه الكلاب والأمريكيين الحيات والثعابين، ثم أنشئوا خنادق مفخخة للأمريكيين، ثم خنادق مضللة، ويعني هذا أن المقاومة دائما مبدعة في المواجهة. وربما كان من الضروري إلقاء نظرة على حجم القوات الأمريكية في تجربة مثل فيتنام عند النظر إلى تجربة غزة، فالقوات الأمريكية وصل عددها في أبريل 1966م، أي بعد تسعة شهور من التدخل، ما يقرب من (230) ألف جندي، ثم ارتفع في العام التالي إلى 448 ألف جندي، وفي نهاية عام 1968 وصلت القوات الأمريكية إلى 550 ألف جندي يدعمهم 50 ألف جندي كوري و 14 ألف جندي أسترالي و 12 ألف جندي تايلندي، إضافة إلى 38 ألف جندي أمريكي في مطارات تايلاند، وبحارة الأسطول الأمريكي السابع، يساندهم 750 ألف جندي من قوات الجيش الفيتنامي الجنوبي يمتلكون حوالي 1093 طائرة مقاتلة و 1070 طائرة هليكوبتر، أما قوات الثوار فكانت قوتها لا تقارن بذلك، لكن إرادتها هي السلاح. كانت قوات الثوار تتميز على القوات الأمريكية بضآلة الشئون الإدارية، وهو ما كفل لها قدرة كبيرة على الحركة والسرعة والمناورة، فتجهيزات الفرد من قوات الثوار اليومية كان لا يتعدى وزنها كيلوجرامين من الذخائر والطعام، أما الاحتياجات للجندي الأمريكي فكانت 18.7 كيلوجراما يوميا، وهو ما أوجد عبئا كبيرا وجعل جزءا من القوة الأمريكية لا تقوم بمهام قتالية. كان الأمريكيون يعتمدون على كثافة النيران والقوة التدميرية، وهو ما جعل الأمريكيين يجلبون معدات كثيرة لم يكونوا في حاجة إليها في قتال الغابات وحرب العصابات، ويكفي أن نعلم أنه بلغ العتاد لكل أمريكي مقاتل ما يقرب من 40 طنا. وتأتي مذبحة "ماي لاي" في (16 من مارس 1968م) لتكون عنوانا مؤلما للوحشية الأمريكية في فيتنام، حيث دخلت كتيبة أمريكية قرية "ماي لاي" وقتلت (347) عجوزا وامرأة وطفلا رضيعا وأحرقت البيوت والأكواخ ومن فيها من البشر، وأكد أحد العسكريين الأمريكيين أن ما فعله الجنود في تلك المذبحة وغيرها لم يكن استثناء، بل هو القاعدة في تعاملهم مع الفيتناميين. وكان أحد القادة العسكريين الأمريكيين يقول: "إن أفضل وسيلة لمساعدة هؤلاء الأشقياء هو أن نلقي قنبلة عليهم"، وإذا نظرنا إلى تصريحات بعض القادة الصهاينة تجاه الدماء التي تسفك في غزة نجد أنها لا تختلف كثيرا عن تلك التصريحات. قبقاب إسرائيل أصبت بالدهشة أثناء بحثي على شبكة الإنترنت؛ إذ وجدت أن وزارة الخارجية الإسرائيلية في موقعها على الإنترنت باللغة العربية تنشر مقالات لعدد من الكتاب العرب من عدة بلدان وتحتفي بها احتفاء خاصا، وبعض هؤلاء الكتاب معرفون أنهم من "المطبعين"، حسب التعبير الدارج بين عدد من المثقفين المصريين، لكن من يطالع هذه القائمة يجد أنها ممتدة على صحف عربية بعضها دولي، حيث استأثرت إحدى الصحف الدولية التي تعود ملكيتها إلى دولة خليجية كبرى بأكبر عدد من هؤلاء الكتاب، لكن أخطر ما في الكتابات أنها تبرر لإسرائيل ما تفعله بالفلسطينيين وتعتبره حقا لها في الدفاع عن أمنها، وأن المواطن الإسرائيلي ليس أقل جدارة بأن ينعم بالأمن مثل بقية مواطني العالم، وأن القصف الإسرائيلي الوحشي على الأبرياء في غزة هو شيء ضروري حتى يدرك الفلسطينيون الألم الذي يلحق بالإسرائيلي جراء سقوط الصواريخ الفلسطينية، وعندما تحول هؤلاء إلى الجانب الفلسطيني أمطروهم باللعنات وضرورة أن يسحقوا. الغريب في موقف هؤلاء أن التطرف الصهيوني لم يصل إلى المدى الذي وصل هؤلاء إليه، وليعذرني القارئ عندما أستدعي هذا المعني لشيخنا محمد الغزالي في وصف موقفهم، حيث قال: "إن هناك بعض الأشخاص مثل (القبقاب) لا يستدعى إلا في موطن النجاسة"، وإذا أردت أن تعرف صدق شيخنا الغزالي فأعد قراءة ما يلفظون. والواقع أن المقاومة لا ينظر إلى فعلها من خلال الخسائر التي تقع والدمار والأشلاء، برغم تألمنا لذلك، ولكن من خلال قدرتها على تحريك الجمود في حياة الإنسانية لتذكرها بأن الإنسان ما زال أقوى.. وإذا كانت الضحايا التي تسقط في غزة تؤلمنا، فإنها لم تسقط بلا ثمن، فالملايين في أنحاء العالم خرجت تندد بالاحتلال والدماء البريئة التي تسفك والأطفال الذين غابت بسمتهم بل غابت وجوههم تحت الأنقاض، ويكفي أن مئات الملايين في العالم يتألمون، ففي بعض الدول غرقت إحدى العبارات وقضى أكثر من ألف شخص فيها نحبهم، التهمت الأسماك بعضهم، وتحللت أجسادهم في مياه البحر للإهمال الذي رافق عمليات الإنقاذ، وتم تبرئة المسئول عن الإهمال، ولم يخرج عشرة أشخاص في مظاهرة على هذه الأرواح البريئة، وفي حادث قطار في تلك الدولة أيضا قضى ثلاثة آلاف شخص نحبهم، أغلبهم حرق في مشاهد تقشعر لها الأجساد، وبرغم ذلك طويت صفحتهم من الحياة والتاريخ وكأن شيئا لم يكن.. لكن ما يجري في غزة شيء آخر.. إنها دماء وأرواح لن تذهب بلا ثمن، ويكفيهم أن الملايين تخرج تبكيهم يوميا، لكن شهداء العبارة والقطار لا يجدون من يبكيهم. الاسلام اون لاين