أعاد إقدام المغرب على الترحيل السريع لخمس منصرات ضمنهن أربع إسبانيات نهاية الشهر الماضي فتح نقاش إعلامي حول طبيعة المشروع التنصيري بالمغرب، حيث بلغ خطا مشتركا يقوم على إبراز السعي التنصيري إلى تكوين أقلية نصرانية تمثل منطلقا لتغيير البنية القانونية الرافضة للنشاط التنصيري، واستغلال التطور القائم في مجال الحريات من أجل إلغاء تجريم هذا النشاط وجلب الدعم الدولي لذلك، خاصة أن التقارير السنوية التي تصدرها الخارجية الأميركية حول الحريات الدينية وتحال إلى الكونغرس الأميركي تشكل أداة من أدوات هذا الضغط، فضلا عن استغلال المتابعات الفضائية لحشد الدعم الخارجي وتحويل قضية التنصير إلى قضية حقوقية دولية مكلفة بالنسبة للمغرب، وهو ما يفسر إقدام المغرب على الاكتفاء بترحيل المنصرين دون تقديمهم للمحاكمة بتهمة السعي لزعزعة العقيدة من الناحية القانونية. لكن هل يتوقف الأمر عند السعي لتكوين أقلية، أم يتجاوزه إلى ما هو أخطر، ويتمثل في خدمة سياسات التجزئة بالمنطقة العربية والإسلامية؟ الواقع أن العلاقة بين التنصير والتجزئة علاقة وطيدة، وشكلت قضيتا جنوب السودان وتيمور الشرقية النموذجين الأبرز لها، لكن حالة المغرب حالة نموذجية ثالثة تكشف حجم الإصرار التنصيري على ذلك، وهو ما تقدمه مجموعة من التطورات التي عرفتها هذه القضية والتي عبرت عن مدى الخطورة التي أصبح التنصير يحملها ليس للوحدة العقدية والدينية بل وللسيادة الوطنية ككل. وتبرز هذه التطورات في ثلاثة عناصر، أولها إقدام ثلاثة من أعضاء مجلس الشيوخ المعروفين بمواقفهم الداعمة للتيار الإنجيلي خاصة المتشدد منه كجيمس إنهوف وسام براون باك من ضمن سبعة من أعضاء مجلس الشيوخ، بتوجيه رسالة مضادة للمغرب، تهم التأثير على المناقشات القادمة في مجلس الأمن حول الصحراء المغربية. وللعلم فعضو مجلس الشيوخ جيمس إنهوف عن ولاية أوكلاهوما معروف بهذه المواقف المناهضة بشدة للمغرب والتي تبالغ في استهدافه، مثل مداخلته في اجتماع اللجنة الفرعية لإفريقيا بمجلس النواب الأميركي في نوفمبر 2005. وهذا المسار الذي ينتهجه أعضاء من هذا التيار في الكونغرس يوازيه مسار ثان لكنيسة صخرة المسيح، والذي يمثل التطور الثاني، حيث نشر بداية هذا الشهر تقرير مفصل حول تصاعد أنشطة كنيسة صخرة المسيح الأميركية بمخيمات تندوف الصحراوية والتي تتخذها جبهة البوليساريو مرتكزا لعملها، حيث عملت الكنيسة على تنظيم أنشطة دورية بالمخيمات وتحويلها إلى بؤرة استقطاب لفعاليات مسيحية من إسبانيا وفرنسا وجنوب إفريقيا، بحسب التقرير الذي عمم في الإنترنت على بعض المواقع المريدة للبوليساريو. وقد خصصت هذه الكنيسة مشروعا قائما للنشاط في المخيمات يدعمه موقع إنترنت يدعو المسيحيين لأن يكونوا صوتا للصحراويين، وقد اعتمدت الكنيسة منذ 1999 برنامجا لزيارات واحتضان الأطفال الصحراويين من قبل العائلات الأميركية، كما سبق لها أن أسهمت في تنظيم وقفة احتجاجية أمام البيت الأبيض وجولة بالكونغرس في يوليو 2007 للتأثير على سير مفاوضات مانهاست، مما كان له تأثير على الجولة الثانية التي انعقدت في أغسطس من تلك السنة، فضلا عن عملها الدعائي لمصلحة البوليساريو في الأممالمتحدة. وللعلم فقد سبق للجمعية الوطنية الإنجيلية -وهي تيار يخالف توجهات الإنجيلي جيمس إنهوف- أن استهدفت الداخل المغربي وتمكنت من تنظيم مهرجان الصداقة للموسيقى المسيحية مرتين في مراكش، ليبرز نوع من الاستغلال الفج لورقة الصحراء لإيجاد موطئ قدم عند طرفي النزاع. أما ثالث التطورات فيهمّ الداخل المغربي، وتقدمه المعطيات التي ظهرت في مشروع جوشا الخاص بتجميع المعطيات التنصيرية. حيث كشف عن معطيات مفصلة حول حقيقة الواقع التنصيري بالمغرب ومدى الانتشار الجغرافي والإثني له، والأهم وجود توجه متنام عند المنصريين لمعرفة أشد خصائص المناطق المغربية من الناحية التاريخية والثقافية والإثنية رغم المحدودية الديموغرافية لها، مما يدل على سعي محموم لمعرفة المنطقة ذات القابلية للتحول إلى بؤرة تنصيرية حاضنة لمشروع الأقلية المزعوم. ومشروع جوشا هذا انطلق في عام 1995، وأصبح منذ عام 2006 محتضنا من قبل المركز الأميركي للبعثة العالمية بكاليفورنيا، وهو من كبريات المؤسسات التنصيرية الأميركية، وهو يفصل بين المغرب والصحراء، كما يقدم المغرب ضمن خريطة فسيفسائية تشمل 24 مجموعة يقع فيها التمييز بين المناطق الناطقة بالدراجة المغربية أو بالجبلية أو مناطق الأمازيغ الذين استعربوا، كما يتجاوز التقسيم التقليدي الثلاثي للمناطق الأمازيغية بالمغرب إلى تقسيم يشمل ما لا يقل عن عشرة مجموعات يقع فيها تقسيم المجزأ وتفتيت المقسم، ليسهل الاشتغال عليه وإنتاج ما يحتاج من وسائط تنصيرية تعتمد اللهجة المحلية، كما تحدد السمات الخاصة بالمناطق لتوظيفها في النشاط التنصيري. لكن من الواجب أن نشير إلى أن مشروع جوشا يكشف أيضا حدود فشل المشروع التنصيري في كل من المناطق الأمازيغية والصحراوية، رغم أن الموجة الحديثة من المد التنصيري قد شارفت على إكمال عقدها الرابع بالمغرب، فضلا عن تقديمه للمغرب ضمن مجموعة الدول الأضعف من حيث الاستقطاب التنصيري. الواضح أن المعطيات الآنفة تبرز أن الخطر السياسي الداخلي والخارجي الذي يمثله مشروع التنصير يتجاوز الخطر العقائدي، حيث يبدو من المعطيات المعلنة عدم تمكن التنصير من التغلغل في البنية العقدية للمغرب، لكن في المقابل تمكن من التغلغل في البنية الجغرافية، وهو ما يجعلنا نعتبر أن ما يقع يحمل معه خصائص الهجمة الصليبية، التي تهتم بالتجزئة واستنبات الأقليات مهما صغر حجمها، وجعلها مرتكزا لتغيير البنية الدينية للبلد المستهدف على المدى المتوسط والبعيد. ولهذا فإن التطورات تؤكد أن مواجهة هذا الخطر أخذت تكتسب بعدا جديدا يرتبط بمواجهة استغلاله للنزاع القائم حول الصحراء المغربية، والذي يضاف إلى محاولة استغلاله للتنوع اللغوي والثقافي والجغرافي للمغرب في مشروعه. العرب 2009-04-10