استرجاع مركب شبابي بعد اقتحامه والتحوّز عليه    استعدادات لانجاح الموسم الصيفي    نبيل عمّار يُلقي كلمة رئيس الجمهورية في مؤتمر القمة لمنظمة التعاون الإسلامي    دعوة إلى إصدار القانون المنظّم للعلاقة بين الغرفتين    مشاركة تونسية في معرض الجزائر    برنامج تعاون مع "الفاو"    مع الشروق .. خدعة صفقة تحرير الرهائن    العدوان على غزّة في عيون الصحف العربية والدولية.. حماس في موقف قوة و كل اسرائيل رهينة لديها    الاعتداء على عضو مجلس محلي    اليوم الدخول مجاني الى المتاحف    لتحقيق الاكتفاء الذاتي: متابعة تجربة نموذجية لإكثار صنف معيّن من الحبوب    بنزرت الجنوبية.. وفاة إمرأة وإصابة 3 آخرين في حادث مرور    تدشين أول مخبر تحاليل للأغذية و المنتجات الفلاحية بالشمال الغربي    هند صبري مع ابنتها على ''تيك توك''    شيرين تنهار بالبكاء في حفل ضخم    تونس العاصمة : الإحتفاظ بعنصر إجرامي وحجز آلات إلكترونية محل سرقة    وفاة 14 شخصا جرّاء فيضانات في أندونيسيا    أخصائيون نفسيّون يُحذّرون من أفكار مدرّبي التنمية البشرية    بداية من الثلاثاء المقبل: تقلبات جوية وانخفاض في درجات الحرارة    غدا الأحد.. الدخول إلى كل المتاحف والمعالم الأثرية مجانا    4 ماي اليوم العالمي لرجال الإطفاء.    عاجل/ أحدهم ينتحل صفة أمني: الاحتفاظ ب4 من أخطر العناصر الاجرامية    روسيا تُدرج الرئيس الأوكراني على لائحة المطلوبين لديها    صفاقس :ندوة عنوانها "اسرائيل في قفص الاتهام امام القضاء الدولي    عروضه العالمية تلقي نجاحا كبيرا: فيلم "Back to Black في قاعات السينما التونسية    إنتخابات الجامعة التونسية لكرة القدم: لجنة الاستئناف تسقط قائمتي التلمساني وبن تقية    نابل: انتشار سوس النخيل.. عضو المجلس المحلي للتنمية يحذر    قاضي يُحيل كل أعضاء مجلس التربية على التحقيق وجامعة الثانوي تحتج    عاجل/ تلميذة تعتدي على أستاذها بشفرة حلاقة    كأس الكاف: تونسي ضمن طاقم تحكيم مواجهة نهضة بركان المغربي والزمالك المصري    منع مخابز بهذه الجهة من التزوّد بالفارينة    لهذا السبب.. كندا تشدد قيود استيراد الماشية الأميركية    القصرين: حجز بضاعة محلّ سرقة من داخل مؤسسة صناعية    هام/ التعليم الأساسي: موعد صرف مستحقات آخر دفعة من حاملي الإجازة    القبض على امرأة محكومة بالسجن 295 عاما!!    "سينما تدور".. اول قاعة متجوّلة في تونس والانطلاق بهذه الولاية    التوقعات الجوية لليوم    فتحي عبدالوهاب يصف ياسمين عبدالعزيز ب"طفلة".. وهي ترد: "أخويا والله"    قتلى ومفقودون في البرازيل جراء الأمطار الغزيرة    بطولة القسم الوطني "أ" للكرة الطائرة(السوبر بلاي اوف - الجولة3) : اعادة مباراة الترجي الرياضي والنجم الساحلي غدا السبت    الرابطة 1- تعيينات حكام مقابلات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    كأس تونس لكرة القدم- الدور ثمن النهائي- : قوافل قفصة - الملعب التونسي- تصريحات المدربين حمادي الدو و اسكندر القصري    رئيس اللجنة العلمية للتلقيح: لا خطر البتة على الملقحين التونسيين بلقاح "أسترازينيكا"    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها (رئيس دائرة الإنتاج الحيواني)    المدير العام للديوانة يتفقّد سير عمل المصالح الديوانية ببنزرت    تصنيف يويفا.. ريال مدريد ثالثا وبرشلونة خارج ال 10 الأوائل    فيلا وزير هتلر لمن يريد تملكها مجانا    إنه زمن الإثارة والبُوزْ ليتحولّ النكرة إلى نجم …عدنان الشواشي    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    قرعة كأس تونس 2024.    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإصلاحيون الإسلاميون وصدمة الحداثة *:رفيق عبدالسلام
نشر في الفجر نيوز يوم 19 - 04 - 2009

لا شك أن صدمة الحداثة الغربية التي اجتاحت عالم الإسلام على حين غرة مصحوبة بوطأة الاجتياحات العسكرية والتدخلات السياسية والدبلوماسية الأوروبية قد أحدثت رجات هائلة سواء على صعيد الفكر والثقافة أو على صعيد بنى الاجتماع والسياسة في العالم الإسلامي، وهي رجات مازالت آثارها فاعلة، وندوبها قائمة إلى يومنا هذا.
بدأ مشروع الحداثة في المنطقة الإسلامية ضربا من "التحديث" الإجرائي في إطار ما سيطلق عليه لاحقا حركة التنظيمات التي فرضنها الضغوط العسكرية والتدخلات الأوروبية المتفاقمة في الدولة العثمانية، وقد انطلق هذا المشروع بادئ الأمر من دوائر السلطان ورجالات الحكم في اسطمبول وبعض ولايات السلطنة العربية مثل مصر وبلاد الشام وتونس، ثم ما لبث أن توسع مداه ليشمل قوى اجتماعية وفكرية أوسع .
ضمن هذه الأجواء العامة ولد وتطور خطاب الإصلاحيين الإسلاميين في القرن التاسع عشر الذين عملوا على مواجهة الصدمة العنيفة للحداثة الغربية بضرب من الاحيائية الإسلامية في إطار ما سمي بالسلفية الجديدة.
يتلخص مشروع الإصلاحيين الإسلاميين على ما بينهم من تباين واختلاف، في المناداة بالرجوع إلى المنابع الإسلامية ممثلة في القرآن والسنة الصحيحة ومثال النبوة والخلافة الراشدة، والحمل بشدة في نفس الوقت على ما اعتبروه جمودا على الماضي وتنكبا عن الاجتهاد واستيعاب روح العصر، مع الحث على الأخذ بأسباب المدنية الحديثة. ومن المعلوم هنا أن المدنية الحديثة التي يقصدها رجال الإحيائية الإسلامية ليست شيئا سوى مدنية الغرب الحديث على نحو ما تجسدت واقعا في كبريات العواصم الأوروبية مثل لندن وباريس وروما وفيينا، وغيرها من المدن الأوروبية الأخرى التي كان لبعضهم تجربة زيارتها والإقامة فيها ردحا من الزمن، كما هو حال الطهطاوي، وخير الدين باشا، وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم .
ورغم أن رجالات هذا التيار ينحدرون في غالبيتهم العظمى من المؤسسات التعليمية التقليدية، كما كان لبعضهم باع مشهود في مجال المعارف الإسلامية التقليدية من فقه وعلم أصول ونحو وبلاغة وتصوف، إلا أنهم مع ذلك حاولوا بدرجات متفاوتة تطعيم ثقافتهم التقليدية بمعارف غربية حديثة، ووسعوا أفق تساؤلاتهم وإشكالاتهم، بما صبغ فكرهم بقدر مهم من الجدة والطرافة.
أقبل الطهطاوي مثلا على تعلم اللغة الفرنسية والوقوف على عوائد الفرنسيين أثناء إقامته في فرنسا كمرشد ديني للبعثة التعليمية المصرية في عهد محمد علي، وقد سجل ذلك في كتابه الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، إلى جانب "الديوان النفيس بايوان باريز"، وأقدم على ترجمة "روح القوانين" و"تأملات في أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم" لمونتسكيو، و"العقد الاجتماعي" لروسو. أما الشيخ محمد عبده من بعده فقد جاسر بتعلم اللغة الفرنسية في مرحلة متقدمة من حياته وقام بنقل بعض نصوص هربرت سبنسر من الفرنسية إلى العربية، كما اطلع على كتابات روسو والمستشرق الفرنسي رينان وغيرهم من المستشرقين، بل قرأ لتولستوي الروائي الروسي الشهير وتراسل معه مرات عدة، وذهب إلى مدينة برايتون ببريطانيا لمقابلة سبنسر.
أما على صعيد آخر فقد دفعت حالة الاضطراب الكبير التي حلت بالمجتمعات الإسلامية بفعل موجة الاجتياح الاستعماري الغربي، والشعور المتزايد بجلل المخاطر التي تتهدد الوجود الإسلامي، بالإصلاحيين دخول عالم السياسة بكل أعبائها وصراعاتها المكلفة، بما ينأى عن تقاليد الهدوء والامتناع عن تعاطي الشأن السياسي بصورة مباشرة على نحو ما تعود العلماء والمؤسسة التعليمية التقليدية منذ وقت مبكر من التاريخ الإسلامي. فرجل مثل الأفغاني طوحت به السياسة في متاهات لا حصر لها، تراوحت بين المشاركة في الانقلابات وعقد التحالفات السياسية إلى النفي والمطاردة، كما واجه سيلا من التهم والمكائد الهائلة انتهت به إلى قضاء نحبه محاصرا مكدودا في الأستانة، إذ ترجح الروايات تسميمه من طرف السلطان عبد الحميد بعد أن استحثه على القدوم إلى هناك.
كانت حياة الرجل صاخبة ومتفجرة تمتزج فيها الملحمة بالمأساة، وتختلط فيها بعض الانتصارات بكثير من الفواجع والانكسارات، بل لك أن تقول هنا إن حياته تلخص ما يمكن تسميته بعصر الإسلام الدرامي، هذا العصر الذي كان مشحونا بالانفجارات والتحولات القاسية التي كان يمور بها عالم الإسلام والشرق عامة. إنهم قد عاشوا بشكل أو بآخر ما يمكن تسميته بقلق الوعي، هذا القلق الناتج عن التحديات الهائلة والمحزنة التي ولدتها بدايات الاجتياح الغربي لعالم الإسلام، كما أنهم عاشوا نوعا من الغربة وحتى الاستبعاد المتبادل بينهم وبين الجماعات المحلية والمؤسسات التقليدية التي رأت فيهم نوعا من الخروج عن أسس "الإجماع" واندفاعا غير مبرر نحو قبول فكر المتغلب.
الخطاب الإصلاحي وأفق الحداثة
لقد زرع الإصلاحيون الإسلاميون للقرن التاسع عشر وما بعده البذور الأولى لما يمكن تسميته هنا بخطاب الحداثة الإسلامية، وذلك في إطار مسعاهم إلى استيعاب المدونة "الحداثية" الغربية ضمن وعاء إسلام أصيل يقوم على مصادره النصية الأساسية ممثلة في القرآن والسنة النبوية وميراث الصحابة. كان همهم الرئيس يتلخص في استيعاب التحولات الجارية من حولهم والتي فرضتها التدخلات الغربية الواسعة ثم تجربة التنظيمات، في إطار الشرعية الإسلامية، بحيث يتم وصل ما انقطع من صلة الإسلام بالعالم الحديث.
كانت نظرتهم العامة تقوم على إمكانية التواؤم بين إسلام عقلاني ومبرأ من الجمود والتقليد، وبين حداثة ليبرالية آخذة في التوسع بقوة الجيوش وتمدد الاقتصاد الرأسمالي وانتشار المدارس التبشيرية الغربية وذيوع الصحافة وأدوات النشر. فقد كان الجهد الأكبر للشيخ محمد عبده مثلا، كما هو جهد أستاذه الأفغاني من قبله وبقية تلاميذه وأتباعه من بعده يتلخص في تأكيد مثل هذا التواؤم بين الإسلام والمدنية الحديثة، وذلك ردا على بعض الكتاب الغربيين مثل رينان وهانوتو وكومون وغيرهم من المستشرقين ممن شددوا على استحالة مثل هذا التوافق بين العلم والدين عامة، والإسلام خاصة، وقد وصل الأمر ببعض هؤلاء حد كيل تهم جارحة وأوصاف نابية بحق الإسلام والمسلمين، مثل هانوتو الذي لم يتردد في وصف الإسلام بأنه مرض وشلل وجنون وجذام ووصفه للمسلمين بأنهم وحوش ضارية في كتابه المعنون "مرض الإسلام"[1].
عمل الإصلاحيون كل على طريقته وأسلوبه الخاص على تأسيس المشروعية الدينية والحاجة العملية للاقتباس عن الأمم الأوروبية في صنائعها وعلومها، من خلال تقسيمهم الحضارة الحديثة إلى شطرين متمايزين، شطر أول يمثل وجهها المادي ويتلخص في العلم والتكنولوجيا وسائر وسائل التنظيم والعمران الحديثين، وشطر ثان يمثل بعدها الروحي، ويتلخص في نظام الفكر والقيم الدينية ومنظومة التشريعات القانونية.
وإذا كانت الضرورة العملية ومنطق جلب المصالح الدنيوية تقتضي اقتباس الجوانب المادية والعمرانية للمدنية الحديثة من الأمم الأكثر تقدما ومنعة، فإنها تقتضي في ذات الوقت حفاظ المسلمين على قيمهم الدينية والروحية، هذه هي المعادلة التي حكمت خطاب الإصلاحيين تقريبا منذ الطهطاوي مروا بالأفغاني وعبده وبقية تلاميذهم.
وفعلا لم يأل الإصلاحيون جهدا سواء بأقلامهم أو بجهودهم السياسية الدؤوبة في إثبات هذا التواؤم بين الإسلام والمدنية الحديثة إذا ما أزيل عن الإسلام ما هو غريب عنه ومجاف له من بدع وخرافات، وأعيد إلى أصله وصفائه على نحو ما يذكر ذلك الشيخ عبده بنفسه "ولهذا أقول: إن الإسلام لم يقف عثرة في سبيل المدنية أبدا لكنه سيهذبها وينقيها من أوضارها، وستكون المدنية من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفها أهله"[2].
مهما بدا على خطاب الإصلاحيين من مظاهر التوتر، وعدم الانسجام الداخلي بحكم مراوحتهم بين منظومة داخلية قد ألفوها، وأخرى وافدة حاولوا التعاطي معها والسيطرة عليها عبر آليات الاقتباس والقياس والمشابهة بحسب ما يتيحه جهازهم الإدراكي ووعاؤهم المفاهيمي إلا أنه يحسب لهم تسجيل مكتسبات مهمة لصالح الفكر الإسلامي الحديث لا يمكن الاستهانة بها أو التقليل من شأنها.
صحيح القول أن رؤية الإصلاحيين للحداثة الغربية، ومنهجية التعاطي معها لا تخلو من بعض وجوه السطحية والاختزال، إلا أنه يحسب لهم سلامة المنهج الادماجي والاستيعابي الذي دشنوه. لقد كانوا فعلا متأثرين بضغوط الحداثة الغربية(ومن منا ليس متأثرا اليوم بهذا الضغط بشكل أو بآخر) في ظل حالة صعود وتوسع غربيين واسعين، بموازاة تأزم الوضع الإسلامي العام، إلا أنهم مع ذلك عملوا ما في وسعهم على تفعيل المختزنات المحلية الإسلامية مع مواءمتها مع المعطيات الجديدة.
كانوا ينظرون إلى عملية الأخذ عن الغرب باعتبارها جهدا تأويليا وفق مقتضيات السياق التداولي الإسلامي، بحيث تتم تبيئة وتخصيب ما هو أجنبي وغريب ليتحول إلى محلي مألوف لا تجفاه النفوس أو تأباه الجماعة العامة. صحيح أن الإصلاحيين الإسلاميين كانوا ممتلئين بفكرة "كونية المدنية" والعقلانية، إلا أنهم كانوا يراهنون في الوقت نفسه على استيعاب وترويض هذا الكوني وتطويعه للسياق المحلي وحاجات الاجتماع الإسلامي.
لقد أسست سلفية الإصلاحيين لإسلام نصي ومعياري يتموضع فوق الانقسامات الطائفية والمذهبية، ويأخذ مسافة من الميراث المدرسي الثقيل، فمطلب العودة إلى النصوص الأصلية وميراث السلف الصالح، إلى جانب التشديد على قيمة الاجتهاد ونبذ التقليد، كانت فعلا محفزة على أخذ مسافة فاصلة عن إسلام المذاهب والطوائف الذي اعتبروه مصدر تخلف المسلمين وسبب عاهاتهم وغيبتهم التاريخية.
صحيح أن هذه الأطروحة لا تخلو من مبالغة وحتى أوهام، لأن أي عملية عودة إلى "الأصول" لا بد وأن تكون مندرجة بشكل أو بآخر، سواء كان ذلك بوعي أو من دون وعي، ضمن ما أسماه جادماير بفاعلية التاريخ وأفق التأويل[3]، والدليل على ذلك أن الإصلاحيين أنفسهم رغم حملهم الشديد على آفتي التقليد والإذعان لسلطان المذاهب إلا أنهم كانوا ضاربين بجذورهم في الإرث الفقهي الأصولي والتراث الكلامي الفلسفي الإسلامي، ولم يعودوا إلى النصوص الأصلية وهم صفحة بيضاء وفارغة كما يتصورون.
فلا يمكن فهم خطاب جمال الدين الأفغاني مثلا بمعزل تام عن خلفيته الشيعية الحوزوية، كما أنه لا يمكن فهم خطاب تلميذه عبده بمعزل عن التقاليد العلمية الأزهرية التي تشبع بها منذ نعومة أظافره على كثرة ما أبداه من ضجر بالأزهر وضيق برجاله إلى حد المجاهرة بضرورة التخلص من هذا التراث الثقيل على نفسه وقلبه. فقد رد عبده مثلا على زميله الشيخ البحيري عضو مجلس إدارة الأزهر، الذي نافح عن سلامة مناهج الأزهر بدليل أنه خرج عالما بارعا في العلم مثل عبده نفسه، قائلا "إذا كان لي حظ من العلم الصحيح الذي تذكر، فإني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من نظافة"[4]
عند التحقيق الجاد يتبين أن ما فعله الإصلاحيون لا يزيد عن إعادة تفعيل الموروث الفكري الإسلامي واستثماره على نحو جديد، بيد أن ما لا يمكن إنكاره في نفس الوقت هو أن خطاب الحركة الإصلاحية كان يتحرك في المدونة التراثية بشيء من التحرر وعدم التقيد المذهبي، ولذلك ليس غريبا أن نجد عندهم شيئا من الاعتزال، وشيئا من الأشعرية، وشيئا من السلفية التيمية، وقدرا من المؤثرات الخلدونية والرشدية والشاطبية والإمامية الإثني عشرية وغيرها، وبهذا المعنى يمكن القول أن جهد الإصلاحيين كان ثوريا ورياديا، بحكم أنهم جذروا الوعي بأهمية الاجتهاد ونبذ التقليد، وأقاموا مسافة فاصلة بين النصوص الأصلية وبين ما تراكم حول هذه النصوص من تأويلات ومدونات ومتون تتالت عبر قرون مديدة.
لقد عملت الحركة الإصلاحية بوعي منها أو من دون وعي على إثراء الفضاء الرمزي والدلالي الإسلامي من خلال استيعاب مفاهيم محدثة وإدخال طرائق تفكير جديدة، مثلما كان لها فضل كبير في إغناء اللغة العربية وتوطيد صلتها بمتغيرات العالم ، وذلك من خلال عملية النقل والترجمة التي انخرطوا فيها هم أنفسهم، أو استحثوا تلاميذهم ومريديهم على الاستمرار فيها.
لا شك أن هذه العملية مهما صاحبها من ثغرات ونقائص، تظل استراتيجية ضرورية ولازمة لاستيعاب عملية التطور والتجديد من داخل فضاء الثقافة الإسلامية ووعاء اللغة العربية. لقد بذل عبده مثلا وبقية رفاقه وتلاميذه الإصلاحيين جهودا معتبرة ورائدة في تجديد اللغة العربية وصقل إمكاناتها التعبيرية على خلفية جعلها أكثر صلة بوتيرة الحياة المتدفقة، كما عملوا على مد جسور التواصل بين الوعي الإسلامي ومعطيات الحداثة الغربية الضاغطة، بعدما أصبح الحضور الغربي ماثلا ومحسوسا في الداخل الإسلامي، وما عاد وجودا خارجيا بعيدا، منذ احتلال مصر والجزائر وتونس وعدن.
كان على رأس أولويات الإصلاحيين الإسلاميين تجسير الهوة الفاصلة بين العالم "التقليدي" و"العالم الحديث" من جهة أولى، ثم مد خيوط التواصل بين النخبة الدينية والنخبة الحديثة من جهة ثانية. وجد الاصلاحيون، النخبة الإسلامية منقسمة على نفسها بين تقليدية ذات تعليم ديني منقطع الصلة بالعالم الحديث وأخرى حديثة ذات تعليم غربي لا صلة لها بالثقافة الدينية،وقد لخص الشيخ عبده بنفسه هذه القضية على النحو الآتي "كاد ينقطع طلب العلوم الدينية في سورية والحجاز وتونس والجزائر، وقل جدا في المغرب الأقصى، ولم يبق الاهتمام به إلا في بعض الصحاري، وذلك إما لصعوبة طرق التعليم، واقتضائها الزمن الطويل- وحاجات الناس مانعة لهم في إفناء أعمارهم في عمل لا يسد حاجتهم، وإما لتفضيل الآباء تربية أبنائهم على الطرق الحديثة في أوروبا أو في المدارس الأخرى وليس فيها من الدين شيء"[5]
يقدم هذا المقطع الذي ساقه عبده ملخصا دقيقا ليس لواقع التعليم الديني فحسب، بل لواقع الاجتماع السياسي الإسلامي برمته، المتجه نحو الانقسام والتمايز الحاد بين عالم "تقليدي" منفصل عن العالم الحديث، وعالم حديث منفصل تماما عن المجتمع التقليدي. في مواجهة هذا الوضع الناشئ عمل الإصلاحيون ما في وسعهم على وصل الصلة والتفاعل بين العالم "القديم" والعالم "الجديد"، على خلفية "تحديث" العالم التقليدي وضخه بدماء جديدة، بحيث يكون الجديد والوافد عامل إثراء وإغناء للقديم بدل تفسيخه.
بيد أنه أمام عمليات الصد والممانعة التي ووجه بها الإصلاحيون من طرف المؤسسات التقليدية ورجالاتها، ثم يأسهم من إمكانية تطوير الفضاءات "التقليدية" فقد اتجهوا إلى تركيز طاقاتهم أكثر على المؤسسات الحديثة والنخب التعليمية الحديثة. هكذا رأى الشيخ محمد عبده في دار العلوم مثلا بمثابة حقل تطبيقي لمشروعه الإصلاحي المتعثر في الأزهر، مثلما رأت النخبة الإصلاحية التونسية في الصادقية بديلا عن الزيتونة،ولذلك ليس من المبالغة القول بأن الإصلاحيين الإسلاميين قد أسسوا الشروط الفكرية والتاريخية لنشأة مؤسسات وظهور نخب حديثة موصولة بالثقافة الإسلامية.
كان للإصلاحيين فضل كبير في تقريب الكثير من مفاهيم الحداثة ومقولاتها إلى الوعي العام وتخليصها مما خالطها من غربة وعجمة بسبب "أجنبية مصدرها" وذلك من خلال مواءمتها لمقتضيات التداول العربي الإسلامي، وهذا خلافا لرجال التنظيمات والنخب الليبرالية التي لم تشغل نفسها-ولا هي كانت مؤهلة أصلا- لإنجاز مثل هذه المهمة المركبة.
وما هو جدير بالتسجيل في هذا الصدد دور الإصلاحيين في تكوين ما يمكن تسميته هنا بالحامل الاجتماعي للمشروع الحداثي الإسلامي من خلال نقل فاعلية الخطاب الإصلاحي من المعاقل "التقليدية" إلى المؤسسات الحديثة، ومن الجماعة العلمائية إلى المثقف الإسلامي الحديث.
فقد أصبح الإصلاحيون يراهنون على "المثقف الإسلامي" منتج المؤسسات الحديثة في إنفاذ مشروعهم الإصلاحي واستيعاب مقومات "المدنية" الحديثة بعدما نفضوا أيديهم على قطاع العلماء أو النخب "التقليدية" ويئسوا من إقناعهم بجدوى التطوير والإصلاح على النحو الذي طرحوه.

لقد جنبت الحركة الإصلاحية خيارا صعبا وقاسيا كان من الممكن أن يواجهه العالم الإسلامي مثلما واجهته أمم أخرى كثيرة خارج الفضاء الأوروبي الأطلسي، أعني الاختيار القاسي بين الحفاظ على موروث ديني وعرفي مفاصل للعصر، وبين الانخراط في حركة حداثة معلمنة ومنقطعة عن الدين. وفعلا لقد شق الإصلاحيون طريقا وسطا وبديلا بين هذين الخيارين القاسيين والمكلفين على وعي وروح العالم الإسلامي. فبفضل المدرسة الإصلاحية غدا يسيرا على المسلم الانتقال من فضاء الأرياف والبوادي إلى عالم الحواضر والمدن، والتحول من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي من دون أن يكون ذلك مصحوبا أو مشفوعا ضرورة بتحول نحو التصورات والقيم العلمانية الدهرية[6].
هنات الخطاب الإصلاحي
ومع كل ما ذكرناه سابقا من مكاسب سجلها الإصلاحيون إلا أنهم يظلون في نهاية المطاف أبناء عصرهم، وما شاع فيه من مقولات ومفاهيم عامة، كما أنهم كانوا منطبعين في نفس الوقت بتلك العلاقة المختلة بين غرب صاعد ومتمدد وعالم إسلامي مأزوم وقلق. لقد كانت النخبة الإصلاحية منتج المؤسسات التعليمية الدينية وتقاليدها المعرفية الراسخة، وحينما هالتها التحولات الدرامية والقاسية الجارية من حولها عملت ما في وسعها على استيعاب هذه التحولات بما يتيحه جهازها الإدراكي وقاموسها الاصطلاحي الذي ولفته وتشبعت به. تركز الجهد الأعظم للإصلاحيين على تبيئة حداثة عدوانية متسلحة بقوة الجيوش، وماسكة بزمام القوة الاقتصادية والعلمية.
كان الهاجس الأساسي عند الإصلاحيين يتمثل في إثبات التواؤم بين الإسلام والحداثة الغربية، بحيث يتم الجمع بين محاسن الإسلام ومحاسن هذه الحداثة المرغوب فيها في نفس الوقت، ولذلك ليس غريبا أن يقول الإصلاحيون بأن "حداثة" حقيقية (أو مدنية بلغتهم)، مؤسسة على العلم والعقل لا يمكن أن تتناقض مع إسلام سلفي أصيل يجل النظر العقلي والبحث العلمي وينبذ سلطان التقليد والجمود. بيد أن هذه المنهجية التي نهجها الإصلاحيون في التعاطي مع "المدنية" الغربية على جلال قدرهم، وعظم جهدهم، لا تخلو من وجوه قصور نظرية وتاريخية كثيرة لا يمكن تجاهلها أو إغماض العينين عنها، وربما لا يمكننا قبولها أو استساغتها اليوم كيف ذلك؟
لقد ابتلع الإصلاحيون الإدعاءات الكونية للخطاب الحداثي من دون وعي كاف بمحدودية مقولاته ومفاهيمه الرائجة.
كان أقصى ما يطمحون إليه تأسيس مشروعية اقتباس هذه "المدنية" المثالية وصبها في الوعاء الإسلامي، عبر إعمال آلية التشبيه والقياس.
كانت مواقفهم العامة تصدر في الغالب الأعم عن مسلمة نظرية مضمرة مفادها أن هذه الحداثة شيء مكتمل وناجز، يمكن إعادة تركيبها وصبها داخل الوعاء الإسلامي، شريطة أن تتوفر الأرضية المناسبة لحسن استقبالها واحتضانها، وألا يتم المس بثوابت الدين والأخلاق العامة.
لقد كانوا فعلا مجتهدين في الإسلام، بيد أن رؤيتهم للحداثة كان يغلب عليها طابع التقليد على الاجتهاد، والاجترار على الابتكار.
عند التحقيق الجاد في خطاب الإصلاحيين ورصد ميراثهم يتبين أنهم كانوا "أنواريين" وليبراليين، بقدر ما كانوا إسلاميين، ولعل هذا ما جعلهم موضع التباس وإشكال بالنسبة للكثير من قراء نصوصهم ومتعقبي سيرهم. فقد كانوا يؤمنون فعلا بوجود عقل كوني ومطلق، كما كانوا يعلقون آمالا كبرى على العلوم والتقنيات ويؤمنون بالتقدم المطرد على طريقة الأنواريين الأوروبيين، مثلما كانوا شديدي الاقتناع بالطابع الكوني والحيادي لما أسموه بالمدنية الحديثة، وما كان يقلهم حقا هو سؤال الهوية أكثر من أي شيء آخر، أي كيفية المحافظة على الدين والأخلاق مع جلب المدنية المطلوبة التي تفوق بها الغرب الحديث وبز بها سائر الأمم. صحيح أن الإصلاحيين الإسلاميين لا يتحدثون لغة وضعية على طريقة الأنواريين الأوروبيين إلا أن المضمون العام لفكرهم كان أنواريا وضعيا بامتياز وإن كان ذلك في قالب إسلامي.
ليس من اليسير اليوم قبول رؤية الإصلاحيين للحداثة الغربية أو في الحد الأدنى الكثير من عناصر رؤيتهم العامة، ليس لأننا بالضرورة أكثر وعيا أو نضجا من أسلافنا الإصلاحيين بل لأنه قد جرت مياه كثيرة في نهر الحداثة الغربية سواء أكان ذلك على صعيد التجربة التاريخية الحية، أم على صعيد الفكر، بما يجعلنا أكثر حذرا من قبول الإدعاءات الكونية الحداثية، وربما أكثر قدرة على أخذ مسافة من هذه الحداثة ونخل مكاسبها من عثراتها وتبين منجزاتها من هناتها وإخفاقاتها، قياسا بآبائنا الإصلاحيين.
فمثل هذا التقسيم الذي نهجه الإصلاحيون الإسلاميون للحضارة أو المدنية بين جوانبها المادية والروحية يظل افتراضيا ذهنيا ولا علاقة له بواقع الحضارات والمجتمعات التي يتبين عند النظر المدقق أنها نسيج مترابط الحلقات تتداخل فيه العوائد والآداب بالصنائع، والأفكار بالنظم والإجراءات.
فالإجراءات والوسائل مهما بدا عليها من طابع الحيادية والكونية تظل في نهاية المطاف ضاربة بعروقها في مداد التاريخ وميراث التجربة والثقافة أو الثقافات التي انصهرت ضمنها واشتغلت في اجوائها، وعليه من الصعب التسليم للإصلاحيين بأن ما أسموه بالمدنية الحديثة والتي تشمل عندهم كل ما يتعلق بالنظم السياسية والاجتماعية، والعلوم والصنائع ذات صبغة كونية مطلقة ومحايدة.
فمثل هذه الوسائل والإجراءات ليست منزلة من السماء، ولا هي ولدت مكتملة بل هي تخلقت في رحم التاريخ وفي سياق خبرات الشعوب المتتالية ومختزناتها الرمزية والثقافية.
صحيح إن الكثير من الوسائل والاجراءات تحمل قابلية الخروج من طور الخصوصية إلى الكونية لما تثبته واقعا من نجاعة عملية، كما أن الحضارات تتفاعل وتتبادل المنافع فيما بينها، مادامت ليست بالجزر المعزولة والمفاصلة لبعضها البعض، بيد أن الحضارات أو نظم العمران على نحو ما يذكرنا العلامة ابن خلدون تظل في نهاية المطاف نسيجا مترابط الحلقات والمكونات بما لا يسمح بتقسيمها إلى مجال الروحانيات والقيم من جهة أولى، ومجال الماديات والوسائل من جهة أخرى.
فما يسميه الإصلاحيون الإسلاميون بالمدنية ليست في حقيقة الأمر شيئا سوى مصهرا من مصاهر الخبرة التاريخية للشعوب والأمم وموضع مختزناتها الروحية والرمزية، ولذلك يمكن القول أنها مدنيات وليست مدنية واحدة. فوسائل المدنية أو التنظيم ليست شيئا صامتا وسلبيا يمكن توظيفها أو التحكم فيها على النحو الذي نريد أو نرغب فيه على ما يتصور الإصلاحيون، بل أنها تملك من القوة والسلطان ما قد يفوق أحيانا كثيرة سلطان الأفكار والقيم وتتجاوز نطاق الإرادات الفردية والجماعية نفسها . أليست الحداثة في جوهرها شيئا سوى التحول في عالم الوسائل والاجراءات من نظم إدارية وتقنية؟ أليست هذه الوسائل هي التي غيرت شروط الوجود الإنساني وبدلت نحل العيش وأنماط القيم ومناهج التفكير؟
نحن نعلم أن الكثير من التحولات التي طالت عالم الأخلاق والأفكار خلال القرنين الأخيرين كانت في حقيقة الأمر منتج التحولات التي لحقت عالم الوسائل والإجراءات والنظم.
يذكرنا ماكس فيبر بأن الحداثة تعني في بعد من أبعادها الأساسية شيوع السوق الرأسمالية بما هي مراكمة المنافسة والربح، وظهور الإدارة بما هي عقلنة ونجاعة، وعليه فإن هذين القوتين الجبارتين (أي السوق والبيروقراطية) بحسب عالم الاجتماع الألماني تعيدان تشكيل أنماط حياة الإنسان وصياغة نظام قيمه الخاصة والعامة. فالإنسان الحديث-على ما يذكر فيبر- والذي يولد ويموت في أجواء الرأسمالية والبيروقراطية الطاغية، يبدو مسكونا في أعماقه بأخلاق تعظيم الربح وتحسين النجاعة أكثر من أي شيء آخر، كما أنه يبدو متنكبا بطبعه عن كل ما هو "مقدس" و"جليل" باعتباره شاغلا عن النجاح في هذا العالم الدنيوي[7]. كما أن ماركس من قبله ينبهنا إلى أن كل ما هو صلب يتبخر ويلين عوده في آلة في الحداثة الرأسمالية، قاصدا بذلك أن الأفكار الكبرى والأخلاق الصلبة لن تصمد كثيرا أمام رأسمالية قاهرة ومتمركزة حول الآلة وتعظيم الربح وتحسين الإنتاج. صحيح أن هذه الحداثة ليست بالآلهة السحرية والقاهرة بيد أنها في نفس الوقت ليست عجينة طيعة أو صلصال أطفال تشكلها أنامل أصابعنا على النحو الذي نرغب فيه على ما تصور آباؤنا الإصلاحيون.
لم يكن الإصلاحيون على وعي كاف بما تحمله الحداثة (أو المدنية بحسب تعبيرهم) من قوة تأثير بالغين، وربما يعود ذلك إلى أن الأوضاع الصاخبة التي عاشوها وكتبوا فيها لم تتح لهم فرصة التفكير العميق في ظاهرة الحداثة، بل رأوا فيها طوق النجاة لإخراج العالم الإسلامي من مأزقه، والكفيلة بإلحاقه بركب "التقدم".
لا ننسى هنا أن مسار الحداثة وإلى غاية طليعة القرن العشرين، أي الحقبة التي تخلق فيها خطاب الإصلاحيين، يمكن وصفها بأنها حقبة المسار المظفر والناجح للحداثة الغربية، بما يجعل من العسير عليهم وقتها إدراك مخاطرها وهناتها. لقد كان مبدأ الضرورة هو الدافع لهم في المناداة باقتباس هذه "الحداثة" والتبشير بفضائلها العامة.هل يعني ذلك أن الإصلاحيين كانوا مخطئين حينما نادوا بالاقتباس من الغرب الحديث، وأخذ ما يرونه أدوية شافية للجسم الإسلامي العليل؟
أنهم لم يكونوا مخطئين، ولا واهمين من هذه الناحية بيد أن مسوغاتهم العامة لعملية الاقتباس والتلقي تبدو لنا اليوم واهية وضعيفة، كما أن مبشراتهم المستقبلية التي تحولت في زمننا الراهن حاضرا محسوسا لم تعد تقنعنا أو تستهوينا.لقد نهل عالم الإسلام الواسع اليوم كثيرا من عباب هذه "المدنية" التي نادى بها الإصلاحيون، واتبع خطى "الأمم الأبية" بحسب وصف خير الدين التونسي في الأخذ بأساليب العلوم والتقنيات ونظام العمارة وهندسة الطرقات، وحتى في المأكل والملبس وفي كل شيء، بيد أن الهوة بيننا وبين هذه الأمم تزداد اتساعا والمسافة تباعدا، فكلما خلنا أننا اقتربنا منها إلا وجدناها ازدادت بعدا عنا. مجتمعاتنا اليوم لا ترضي أحدا، فهي يأنفها "التقليديون" لأنها ما عادت أصيلة أو تقليدية كما يرغبون، ويكرهها الحداثيون لأنها ما صارت حداثية زاهية على نحو ما يحلمون، ولك أن تقول إننا اليوم إزاء اجتماع تقليدي مأزوم وحداثة مشوهة.
أما على صعيد النظري أو ما يمكن تسميته هنا بالقيم الفكرية والأخلاقية المؤسسة للحداثة فقد أضحت اليوم بين أيدينا الكثير من الأدبيات النقدية للحداثة، بما نزع عنها تلك الهالة السحرية واليقينية التي كانت تحاط بها، وهي أدبيات دونها مفكرون وفلاسفة غربيون قبل غيرهم، تركز جهدهم الأعظم على تعرية الحداثة وبيان عثراتها، إلى جانب تفكيك الكثير من مفاهيمها ومبشراتها، وعلى رأس ذلك مفاهيم العقلانية الصلبة، والتقدم ، والإنسانوية والعلموية وغيرها. ولعله لهذا السبب لم تعد أجيالنا الراهنة تعلق تلك الثقة الزائدة على اقتباس المدنية التي أطنب أباؤنا الإصلاحيون في الحديث عن فضائلها ومحاسنها.نحن اليوم منشغلون بالتفكير في مآزق "المدنية" وعاهاتها أكثر من انشغالنا بمكاسبها وانتصاراتها. وفعلا يبدو عصرنا الراهن مسكونا بهاجس ما أسماه الفيلسوف الفرنسي جون فرنسوا ليوتار نهاية الروايات الكبرى، أي تفكيك المفاهيم الكبرى الناظمة لعصر الحداثة، أكثر مما هو معني بتشييد التطلعات وبناء الأفكار والنظريات الكبرى.
باختصار يمكن وصف عصرنا الراهن بأنه عصر تقويض اليقينيات وتبدد التطلعات الكبرى، بعد أن أضحت الحداثة تاريخا وخبرة ماثلة أمام أبصارنا يمكن غربلة عاهاتها من مكاسبها، وما عادت مبشرات مستقبلية تشرئب إليها أعناقنا وتخفق إليها أفئدتنا. ولا غرو أن يتحدث الغربيون اليوم عن "تجاوز" عتبة الحداثة باتجاه طور آخر أسموه تجاوزا ما بعد الحداثة. وحتى في الرقعة العربية الإسلامية لم تعد الحداثة مجرد تطلعات أو أحلام وردية تراود بعض حاشية السلطان أو نخب البيروقراط وبعض المثقفين والوجهاء على نحو ما كان عليه الأمر أواسط القرن التاسع عشر أو حتى مطلع القرن العشرين، بل أضحت خبرة حية وتجربة ماثلة أمام أبصارنا من الممكن فتح سجلها وتشخيص أحوالها وفك ألغازها (هذا إن كانت لها ألغاز أصلا).
على أن ما ذكرناه أعلاه من ثغرات أو نقائص اعترت خطاب الإصلاحيين لا يجب أن تدفعنا إلى غمط حقهم والتهوين من شأنهم، فهم قد طرقوا دروبا جديدة وفتحوا آفاقا غير منظورة أمام الفكر والاجتماع الإسلاميين، بل إن الأفق التأويلي والدلالي الذي دشنه الإصلاحيون لم يستنفد طاقته بعد بل مازال إلى يومنا مشرعا على إمكانيات متعددة، فالكثير من الأسئلة التي طرحها الآباء الإصلاحيون مازالت تحمل راهنية ومقومات الاستمرارية إلى يومنا هذا، وإن كنا لا نطمئن كثيرا إلى ما قدموه من إجابات. ولعل هذا ما يسمح بالقول بأن أي عملية تجاوز للإصلاحيين لا بد وأن تستند إلى الأرضية التي دشنها هؤلاء، وكل نقد للإصلاحيين لابد وأن يتغذى من ميراثهم الذي تركوه خلفهم. يحدثنا الكاتب المغربي عبد الله العروي إلى أن الإصلاحية الإسلامية لم تضف جديدا يذكر، وأن كل ما فعلته لا يزيد عن كون ما كان يقال بلغة الأزهر والزيتونة أصبح يقال بلغة السوربون وأكسفورد، ولو صح هذا التشخيص فعلا فهو في حد ذاته إنجاز لا يمكن التهوين من شأنه أو التقليل من قدره.
----------------------------------------
كاتب تونسي
[1] الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، تحقيق محمد عمارة ج 2( القاهرة، دار الشروق)، ص 219 -256
[2] الشيخ محمد عبده، الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية (مرفم للنشر 1990 الجزائر) ص 120
[3]Hans-Georg Gadamer, translated by David E. Linge, Philosophical Hermeneutics (University of California Press, California, 1997)
الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، تحقيق محمد عمارة ج 2 ( دار الشروق، القاهرة)، جزء 3، ص 194 [4]
[5]الشيخ محمد عبده، الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية (موفم للنشر 1990 الجزائر)، ص 136
[6] Ernest Gellner E., Post-Modernism, Reason and Religion, (Routledge, London, 1992)
[7] Max Weber, The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism, translated by T. Parsons( Courier Publication, London 2003)
*نقلا عن مجلة الدوحة القطرية العدد (18) أبريل 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.