أ.د. محمد اسحق الريفي الفجرنيوز يلاحق شبح فواتير الخدمات ورسوم الترخيص مواطني غزة ويسبب لهم معاناة كبيرة, ولا سيما في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشونها تحت وطأة الحصار الظالم، وفي ظل الخراب والدمار الذي خلَّفته الحرب الصهيونية على غزة، والذي زاد من تردي الأوضاع الاقتصادية وجعل حياة المواطنين بائسة. نسبة كبيرة من المواطنين لا يستطيعون دفع فواتير المياه والكهرباء والهاتف ورسوم ترخيص سياراتهم ومحلاتهم التجارية، بل حتى تكاليف العليم في المدارس والجامعات، بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة وانتشار البطالة وارتفاع الأسعار، وبسبب حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني التي تعيشها غزة منذ مدة طويلة بدأت أثناء الانتفاضة الأولى التي اندلعت سنة 1987، مما أدى إلى تراكم المستحقات المالية على المواطنين وعجزهم عن دفعها للبلدية وشركة الكهرباء والحكومة، رغم تخفيض قيمة الفواتير ورسوم السيارات. فكثير من المواطنين الذين لا يستطيعون سد رمق أبنائهم وتوفير حياة كريمة لهم لا يملكون مالاً لدفع قيمة الفواتير مقابل الخدمات الضعيفة والسيئة المقدمة لهم، ولا يستطيعون دفع الرسوم الباهظة لترخيص سياراتهم المهترئة. فمثلاً، التيار الكهربائي متقطع ولا يقوى على تشغيل الأجهزة الكهربائية المنزلية، ولا يصلح في أوقات كثيرة إلا للإضاءة فقط. وقد تسبب ضعف التيار الكهربائي وتكرار قطعه في تلف أجهزة المواطنين وإلحاق خسائر فادحة بهم. أما الماء، فلا تزال شحيحة ولا تصل بصورة منتظمة إلى مناطق عديدة، وقد اضطر بعض المواطنين إلى شراء المياه المفترة لمواجهة استمرار انقطاع المياه وخصوصاً في الصيف. وحتى بعد قيام بلدية غزة بتحسين خدمة المياه، لا يزال المواطنون يعانون من عدم وصولها إلى الطوابق العليا إلا باستخدام موتورات كهربائية، ما يكلف المواطن أكثر من تكلفة المياه. ولا أريد تناول هذه القضية الشائكة بتفاصيلها الدقيقة، ولكنني أريد الحديث باقتضاب عن معاناة المواطنين وانعكاساتها على مواقفهم السياسية. فقد بات المواطن يشعر بأنه مملوك للحكومة والبلدية، ويعيش في بيته مستأجراً رغم أنه بناه بجهده من ماله الخاص على أرضه الخاصة. وبات المواطن ينظر إلى الحكومة على أنها حكومة جباية رسوم وفواتير وضرائب، بلا هوادة أو رحمة، في الوقت الذي تفتقر غزة إلى الحد الأدنى من الخدمات المدنية، وتعاني الطرق من خراب كبير، ويعيش المواطن بلا ضمان اجتماعي يكفل حياة كريمة للمواطنين، ولا نظام صحي يكفل الرعاية الصحية للفقراء. وقد عجزت الحكومة والبلدية عن تغيير الأنظمة الخدمية المتوارثة عن الاحتلال، وأقصد بذلك نظام الحصول على الخدمات والترخيص والعلاج. ففي بلدية غزة مثلاً، يضطر المواطن خلال إجراءات الحصول على ترخيص وخدمة المياه والكهرباء إلى الطواف حول مباني البلدية والسعي بينها أكثر من عشرين شوطاً في اليوم ولمدة أسبوعين على الأقل، ويقضي جل وقته سعياً بين المكاتب بحثاً عن الموظفين المعنيين، ويقدم أوراقه مرة تلو الأخرى للموظفين لمراجعتها وتوقيعها وفق نظام معقد وطقوس عجيبة لا مبرر لها، حيث يشعر المواطن أنه يستجدي الموظفين، الذين يعاملونه بقسوة ولا يهمهم غير تحصيل الرسوم والفواتير منه، ويهددونه بصورة مقززة باستدعاء الشرطة إذا ما اعترض على تقاعسهم ومعاملتهم السيئة. ويضطر المواطن خلال طقوس ترخيص أرضه والحصول على خدمة المياه والكهرباء إلى دفع المستحقات في البنك وفي صندوق البلدية وفي صندوق قلم الجمهور في آن، بصورة غير حضارية وغير إنسانية، حيث يُفترض أن يدفع المواطن الرسوم في صندوق واحد، وليس في ثلاثة صناديق في أماكن مختلفة داخل البلدية وخارجها. ويمرر المواطن ملف طلب الحصول على الترخيص والخدمة على الموظفين في قلم الجمهور، موظفاً موظفاً، ثم يعيد الكرة مرات ومرات، ويخرج من مكاتب البلدية عند إتمام كل معاملة جزئية، لتصوير الأوراق، فينتظر طويلاً أحياناً كثيرة في مكتب صغير داخل البلدية يشبه الزنزانة خاص بتصوير المستندات، رغم أن المواطن يدفع مبالغ كبيرة للبلدية، التي تضن عليه وترفض استخدام ماكينات التصوير الخاصة بها لتصوير أوراق المعاملات التي يحتاجها الموظفون. ويُجبر المواطن على طقوس مشابهة في دوائر مدنية عديدة، وقد يضطر في بعض المؤسسات الحكومية إلى القيام بأعمال غير مبررة رغماً عن أنفه، ولكنه لا يستطيع الاعتراض أو الإفلات. وتدل هذه الطقوس على عقلية مختلة ونفسيات معقدة، فهي تتضمن إجراءات مهينة لكرامة الإنسان موروثة عن الاحتلال الصهيوني. ومع الأسف الشديد، تبقى هذه الطقوس والإجراءات والقوانين دون إصلاح أو تغيير مهما طرأ من تغيير سياسي، لأنها مرهونة فقط بثقافة المجتمع، وهي ثقافة تنطوي على كم كبير من العنف الشعبي. والأكثر من ذلك، بدأت البلدية والحكومة بشن حملة كبيرة على المواطنين لجبي رسوم الترخيص، بطريقة تفتقر إلى حكمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، الذي عطل حد السرقة عندما حلَّت بالمسلمين المجاعة، وإلى رحمة الإسلام بالفقراء والمساكين، ولا سيما فيما يتعلق بترخيص السيارات، التي تعطلت وقت الحرب، وتوقفت طويلاً بسبب الحصار. فأين الخدمات التي تقدمها الحكومة حتى تلزم المواطنين بهذه الرسوم الباهظة؟! صحيح أن البلدية حدَّت كثيراً من مشكلة تراكم القمامة في الشوارع، ونظمت الأسواق والأرصفة، وحلت جزئياً مشكلة المياه، ولكنها في الوقت ذاته زادت معاناة كثيراً من الفقراء والعاطلين عن العمل. وصحيح أن الحكومة قضت على الفلتان الأمني، ولكن لماذا تزهق الحكومة إنجازاتها وتسعى لنيل انتقام الشعب في نهاية ولايتها؟!، ولماذا لا تنظر الحكومة بعين الرحمة إلى الفقراء والعاطلين عن العمل؟!، هل هكذا تكافئ الحكومة العشب على تحليه بالصبر على الأذى والحصار والمصائب الكثيرة التي حلت به؟!