تحدّثت الذاكرة الشعبيّة لسكّان غابات "الكاربات" برومانيا عن دراكولا أمير الظلام الذي لا يغادر تابوته إلاّ ليلا ليقتنص بعض الفلاّحين لامتصاص دمائهم، حين صوّرته في شكل الوحش السّاديّ الذي لا متعة له إلاّ تعذيب الآخرين، والأهمّ من ذلك، فحين روت الأسطورة أنّ الأمير الدمويّ يحترق إذا أصابه شعاع الشمس، فإنّ عناصر الأسطورة كانت تنقل بصدق فنّيّ صورة عن الاستغلال الوحشي الذي كان يتعرّض له فلاّحو "الكاربات" من قبل أمراء الإقطاع، بل كانت كذلك تبثّ الأمل في النفوس بأنّ شعاع الشمس – بكلّ مدلولاته، وخاصّة منها نور الحقيقة – هو الذي سيحرّر أقنان رومانيا من مستغلّيهم وهو الذي سيقضي على مصّاصي عرقهم ودمائهم الذين لا يستطيعون التعيّش إلاّ في الظلام. هل كانت تلك صرخة الكربات تحت وطأة سياط السادة؟ هل كانت تلك رؤيا استشفّت أنّ شمسا ستبزغ يوما لتحرق مصّاصي الدماء؟ لا شكّ لديّ في أنّ الرسالة المشفّرة التي حملتها الأسطورة كانت تحمل بين طيّاتها رموزا وإشارات نجحت في المرور من خطوط الرقابة القاتلة، بذكاء مرّت، بحبر سرّيّ لا تقرأه إلاّ العين الحسّاسة للحقيقة. أعتقد جازما – ولا يعجلنّ عليّ أبو هند – أنّ الرسالة اليوم قد حلّت شفرتها، وأنّ الرّصد والطّلسم قد فكّكته تعاويذ الحداثة، ولا نعني بها حداثة الأفلاطونيّين المتجدّدين . كيف ذلك؟ لينظر أيّكم إلى الحرب الشعواء التي تشنّها قوى الظلام على الإعلام الحرّ في كلّ مكان وبكلّ الأسلحة بيولوجيّة منها (الغذاء مقابل الولاء) أو بكتريولوجيّة (من خلال زرع كلّ أنواع الطفيليّات والجراثيم في الفضاء الإعلامي والتشجيع على عدواها) أو حتّى نوويّة فكلّما تشكّلت نواة لذرّة إعلاميّة مقاومة يتمّ تفجيرها (هذا ما حدث مثلا في بلادنا للحوار التونسية وكلمة تونس وراديو ستة والموقف والطريق الجديد ومواطنون... والقائمة تحتاج عمرا بأكمله لرصدها)، دون أن ننسى طبعا الحرب الكلاسيكيّة وأسلحتها التي تعوّدناها من قبل قوّات الظلام بأنواعها وخاصّة منها مصّاصي دماء الشّعب واللصوص الكبار. لكنّ ما يحزّ في نفسي ويؤلمها، أن تنجح قوى الظلام في اختراقنا حتّى النخاع، وأن تضربنا في معاقلنا الأخيرة وفي خنادقنا. فقد قدّم مؤخّرا روبرت مينار الناشط الفرنسي المعروف استقالته من منصب مدير مركز الدوحة لحرّية الإعلام بسبب انعدام الحرّية في المركز... ممّا اضطرّه إلى مغادرته مع فريقه، وكنّا استبشرنا خيرا يوم جاء، أمّا عن الحيثيّات فقد تحدّث مينار عن الاختناق الذي يشتكيه المركز بسبب عدم قدرة المسؤولين على استيعاب مسألة حرّيّة الإعلام وتخوّفهم من المشاكل السياسيّة والديبلوماسيّة مع دول الجوار، ولكن خاصّة مع البلد المستضيف، إذ يحتجّ مينار – وله الحقّ في ذلك – قائلا "كيف نكسب مصداقيّة إن لزمنا الصّمت عن المشاكل التي يعاني منها البلد الذي يستضيفنا ؟". فإذا به لا ينقضي العام الثاني على تأسيس المركز حتّى يغادره مولّيا صارخا (والصرخة لنا) "هؤلاء لا يحسنون إلاّ الصّمت"... والصمت حفظكم الله منه هو الخصم والعدوّ الذي يحاربه الصحفيّ في كلّ مجال؛ الصمت هو القدر الذي يشاؤه لنا من سطّروا أقدارنا تحت سقف مصالحهم الشخصيّة؛ الصمت هو العفن الذي يأكل روابطنا فيفكّكنا ويعزلنا فرادى ليخلو الجوّ للدراكوليّين حتى يعبثوا بأقدارنا ويولموا من دمائنا. فهل قدّر على العربيّ الصمت حتّى الجذام ؟ وهل كتب علينا أن نرقب برعب كلّ ليلة جولة الصّمت الخارج من تابوته متعطّشا لدمائنا؟ معز الباي