في منطقة الأمن الوطني بباجة في أواسط السنة الدراسية 1981- 1982 عرف المعهد الثانوي المختلط بباجة، على غرار بقية معاهد الجمهورية، إضرابا عنيفا تدخلت على إثره قوات البوليس لقمع المضربين، فشرّدتهم في اتجاهات التلال والغابات المتاخمة للمدينة شرّ تشريد، واعتقلت البعض منهم، وبذلك توقفت الأنشطة الدراسية، وعاد جميع التلاميذ إلى منازلهم . ولمّا كنت خلال اليوم الموالي للإضراب مغادرا لمنزل أحد أقاربي في اتجاه وسط المدينة، استوقفني في منطقة سيدي بوتفاحة على غرار السنة الماضية أربعة أعوان في سيارة مدنية، وأجبروني على امتطائها، فحشروني بينهم، وشملوني بأدبهم المألوف في العنف الجسدي واللفظي، وانطلقوا بي إلى منطقة الأمن الوطني حيث مقر فرقة الأبحاث، وأودعوني غرفة العادة أين أشبعوني ضربا، وصمّوا أذنيّ بألفاظ سمجة، موجّهين إليّ تهمة التحريض على الفوضى وتهديد الأمن، وكانت الساعة وقتها تشير إلى الحادية عشرة والنصف. في تلك الآونة أقبل عليّ رئيس الفرقة حمادي بلعربي مصحوبا بأحد الأعوان، وخاطبني بخشونة وسوقية فجّة أنّني لم أكن رجلا، وأنّني كنت دائما دون المستوى، وأنّه سيجعلني "فأر حبس " على حدّ تعبيره، وأقبل عليّ يعنّفني قائلا لزميله : "حرّروا ضد هذا الكلب محضرا في التحريض وإثارة الشغب، وسنتولّى إحالته على القضاء". وبعد ذلك انصرفا، وأغلقا باب غرفتي خلفهما، وبقيت أعدّ الثواني، وأفحص الجدران البائسة، مخمّنا في ما قد تسفر عنه الساعات القادمة، مستسلما للأمر الواقع. حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر قطع عليّ أحد الأعوان وحدتي وشرودي، حين فتح الباب بخشونة وأنا مسند ظهري إلى الحائط، واتجه إليّ يصفعني، ويدفعني أمامه بغلظة إلى مكتب التحقيق، وهو يهدّدني بتحويلي إلى مكان خاص للتعذيب، إذا لم أعترف بالحقيقة، ثم انصرف. استرسل المحقّق في أسئلته التي تركّز أغلبها على دوري في التخطيط للإضراب، وعلى من كان يشاركني فيه ؟ وأين كنا نجتمع؟ وما هي الشعارات السياسية التي كنّا نرددها؟ ورغم أنّ إجاباتي كانت تميل إلى التعميم، وتجانب جوهر الأمور، فقد دوّن ضدي ما كان يحلو له، مستهزئا بإجاباتي، متّهما لي بأنّني أنا الذي كان يردّد شعار "يسقط حزب الدستور، يسقط جلاّد الشعب"، معتبرا إيّاي خطرا على الأمن الوطني، وأجبرني على إمضاء المحضر دون أن أقرأ تفاصيله، وفي خاتمة المطاف احتفظ ببطاقة تعريفي الوطنية، وأخلى سبيلي حوالي الساعة السادسة مساء، مطالبا إياي بالعودة إلى منطقة الأمن في اليوم الموالي، لإجراء مكافحة مع أحد التلاميذ الذين اُعتقلوا قبلي، وصرّح بمعطيات ضدّي حسب ما قال. وغادرت وأنا في حالة يُرثى لها جوعا وإنهاكا وإذلالا، وتحصّنتُ بمنزل أحد أقاربي بمدينة باجة، دون العودة إلى مقر فرقة الأبحاث وفق ما طلب منّي، ثم التحقت في حذر كبير بالمعهد الثانوي المختلط عند عودة الأنشطة الدراسية، وأخبرت زملائي بقسم السنة السابعة آداب 2 الذين تحرّكوا على الفور، وطالبوا إدارة المعهد بالتدخل لدى المصالح الأمنية لتمكيني من بطاقة هُويّتي، ولوّحوا بالإضراب في صورة عدم الاستجابة، وفعلا وعدت الإدارة بمعالجة الأمر في أسرع الأوقات، غير أنّ أحد زملاء الفصل من أبناء إحدى العائلات الثرية بباجة تمكن بما لعائلته من علاقات ونفوذ من استعادة بطاقتي. وهكذا نجوت من كابوس ظلّ يلاحقني أياما وليالي، ومن حسن حظيّ أنّني حصلت على شهادة البكالوريا ودفتري المدرسي الذي خُطّ عليه ملاحظة " يُرفت في حالة الإخفاق" بدون مبرّر قانوني، وانطلقت إلى العاصمة بفرحتين، فرحة انتقالي إلى الجامعة وفرحة خلاصي من قبضة منطقة الأمن بباجة.
- يتبع جيلاني العبدلي: كاتب صحفي ناشط حقوقي وسياسي