من مركز البريد إلى نهج زركون وصلتُ ذات صيف إلى مركز البريد في شارع قرطاج بالعاصمة، لإرسال حوالة مالية بريدية إلى خالتي حدة العبدلي، التي كانت وقتها في السجن المدني بمنوبة تقضي عقوبة بخمسة عشر عاما وشهرين، بموجب تهمة سياسية، وقد أخذتُ مكاني في أحد الصفوف الممتدة خارج المركز، نظرا لكثافة المتهافتين على سحب مرتباتهم. كان المُصطفّون لا يكادون يتحركون لشدة الزحام، ولتداخل العمليات ورداءة الخدمات، والعرق يتصبب على وجوههم الشاحبة، بفعل الارتفاع الكبير لدرجات الحرارة. بعد مُضيّ ما يفوق الساعة تدحرجتُ من مُؤخرة الصفُّ إلى مُقدّمته مُنتشيا بقرب خلاصي، حامدا الله على ما ألهمني من صبر، راثيا لحال الخلق المتدافعين في الخلف، مُردّدا في نفسي أنّ هؤلاء عليهم أن يُرابطوا كما رابطتُّ، وأن يُصابروا كما صابرتُ، حتى يبلغوا مثلي مكانا محترما في الطابور. في تلك اللحظة أقبل شخص من الخلف في هيأة محترمة، وهمس في أُذن المُصطفّ أمامي، وإذا به يأخذ مكانا أمامه. تلاحظ القوم، وبدت عليهم علامات الامتعاض، دون أن يجرؤوا على الاحتجاج. أمّا أنا فقد فكرتُ قليلا في الأمر، ثم خاطبتُ الواقف أمامي بأدب قائلا: " سيدي، لقد انتزعت رُتبتي العاشرة في الصفّ وجعلتني الحادي عشر، فاسمح لي من فضلك، بالعودة إلى مكاني". فهم مخاطبي الرسالة، وتأخر خلفي دون تردد، وكنتُ أحسب أن الأمور ستقف عند ذاك الحدّ، إلا أنّ ذلك الشخص الدخيل استدار مُتشنّجا، وخرج من الصفّ، وجذب من كان خلفي ليعيده إلى مكانه الأصلي أمامي، ثم نظر إليّ يتوعدني، قائلا: " حين تفرغ وتغادر الصفّ سأريك ...أمك "، قال ذلك بلغة هابطة تمسّ مشاعر التديّن العام وتصُمّ آذان الرجال والنساء، فتحاشيتُه لخشيتي أن يكون نزاعي مع بوليس. ولمّا واصل مُعربدا، مُتوعّدا، يشدُّ الأنظار إليه، ويُعلّل سلوكه بأنّه كان في مهمة عمل مستعجلة، قلت له: " عرّف بنفسك، من حضرتُك؟ " فردّ بسرعة مُحدّثا الجمهور الصامت أنّه مُلازم في الشرطة، وأنّه سينتقم منّي شرّ انتقام. واستظهر لهم ببطاقته المهنية، فازدادوا حيادية وحذرا، ونظروا إليّ مُشفقين عليّ، أمّا أنا فقد تسلّحتُ بالصّمت بعدما تبينتُ طبيعة خصمي وتركته يسبح في هيجانه وهذيانه. وما إن جاء دوري وقدّمتُ وثائقي إلى موظفة البريد، حتّى تقدّم خلفي ودفع لها ببطاقته المهنية، مُعرّفا بنفسه، مطالبا إياها بتمكينه من مُعطياتي الشخصية، ليقوم بإجراءات إيقافي. إلا أنّ تلك الموظفة رفضت طلبه لعدم قانونيته، وامتنعت في نفس الوقت عن إسداء خدمتي، وطالبتنا بالصُّعود إلى رئيس المصلحة لفضّ نزاعنا. وفعلا رافقته إلى مكتب المسؤول، ولمّا طرق بابه ودخل عليه باندفاع، تراجعتُ إلى الخلف، وغادرتُ المكان دون أن أُشعره بذلك، لقناعتي بعدم التكافئ بيني وبينه، فأنا مُواطن بسيط وهو عون أمن مُنفلت من ضوابط القانون والقيم، وقادر على إلحاق الأذى بغيره . خرجتُ من مركز البريد وقد أجّلتُ موضوع الإرسالية، وانطلقتُ أتسوّقُ، ولمّا بلغتُ نهج زركون وسط العاصمة، استوقفتني دورية أمنية كانت مرابطة هناك، وطلب منّي أحد أعوانها الاستظهار ببطاقة تعريفي الوطنية، فدفعتُ إليه بشهادة ضياع كانت بحوزتي، وبمجرّد أن تسلمها منّي، ضرب على كتفي مرّتين بكفّ يده المتخشبة، وقال لي بلغة صارمة: " اصعد إلى العربة وانتظر هناك ". في تلك الآونة استحضرتُ حادثة مركز البريد، واستبدّت بي الوساوس، وتصورتُ أنّ أمرا صدر بإيقافي بالاعتماد على ملامحي وهيأتي، ومع ذلك تلدّدتُ، وتلكّأتُ في الصُّعود إلى السيارة، وسألتُ عون الأمن عن مُبرّرات ما يأمرني به، فأجابني بأنّ السيارة هي سيارة الأمن والأمان، فلماذا أرفض الصعود إليها؟ ولمّا أجبته بأنّي في غير حاجة إلى مركبة الأمن لتشعرني بالأمن ما دمتُ ألقاهُ بعيدا عنها، صفعني بيد من خشب وقال لي: " أنت تتفقّهُ في اللّغة، اصعد إلى السيارة وسنعلّمك كيف تبيع الكلام " ودفعني بعنف شديد داخلها، وأغلق عليّ بابها وانصرف يشاغل جهازه اللاسلكيّ في الاستعلام عنّي والنّبش في سيرتي الذاتية. مكثتُ بفضل إحسان ذاك العون، في النعيم الذي حدثني عنه قبل حين، أستحمُّ عرقا في سيّارة ساخنة من لفح الحر،ّ وأستنشق هواء حاميا عبر نافذة مُسيّجة بشبكة حديدية. هو النعيم بعينه، نعيم الأمن، مع عون الأمن، في سيارة الأمن، ويا له من نعيم، ويا لهُ من أمن. وبعد مرور ساعتين وأنا على تلك الحالة، فتح العون باب السيارة، وأعاد لي شهادة الضياع، ثم سألني عن وظيفتي، ولمّا أخبرته بأنني أستاذ بالتعليم الثانوي، علق قائلا: " الآن فهمتُ، فأنت بائع حديث فعلا" ونصحني بتحسين سيرتي في المستقبل ثمّ أخلى سبيلي. غادرت نهج زركون عائدا إلى منزلي، مُثقلا بمظلمتين أمنيتين في يوم واحد، وفي ذهني قد ترسّخت قناعة، بأنّ عون الأمن عندنا ليس إلا شخصا عنيفا، متسلطا، يعمل على إشاعة الخوف بين المواطنين، ويُذكّرهم باستمرار بأنه جاهز لتأطيرهم، وفرض انقيادهم الأعمى. لقد كان ذلك اليوم يوما بوليسيا بامتياز، كان لي فيه للإنجاز، هدفان شخصيان ضيقان، تمثلا في إرسال حوالة لخالتي السجينة السياسية، وفي قضاء بعض الحاجات العائلية، ولكنّ إرادة البوليس كانت هي الأقوى وحالت دون تحقيقي لأي من الهدفين، وأجلّتُ بمشيئة البوليس عمل ذلك اليوم إلى غده.