غلاف المجلة"المسلمون في أوروبا.. من الوجود الظرفي إلى الشراكة الحضارية".. هذا هو عنوان المرحلة الحالية التي تشهدها حياة وواقع المسلمين في القارة الأوروبية. فقد تشعب هذا الواقع المسلم في أوروبا، وتطور على المستوى العددي؛ إذ أصبح عدد المسلمين في أوروبا يقدر بعشرات الملايين، وعلى المستوى الكيفي بعد أن أصبح هدف الوجود الإسلامي هناك يتجه نحو الاستقرار والمواطنة والشراكة الحضارية مع مختلف مكونات المجتمعات الغربية وفئاتها وأعراقها بعد أن كان هذا الوجود يعتبر نفسه وجودا ظرفيا طارئا لأسباب يتعلق بعضها بانغلاق التفكير الحضاري عند بعض المسلمين أحيانا. ومن الطبيعي أن يخلق هذا التطور "الاندماجي" حالة من التطور العام في مختلف مجالات الحياة التي يمارسها المسلمون في مجتمعاتهم الأوروبية، ومن أهم تلك المجالات المجال الاقتصادي الذي دخل فيه المسلمون بقوة مدفوعين برغبتهم في الاندماج والشراكة، ومستغلين نسمات القبول والتقدير الخفيفة التي هبت عليهم حينا من الوقت ليصبح المسلمون الأوروبيون جزءا من حركة التنمية الاقتصادية هناك بإسهاماتهم في المشروعات التجارية والإنتاجية، ولم يعد أمرهم في هذا الشأن مقتصرا على المعاملات اليومية. هذا التطور الإسلامي لم يتسن له التحول إلى حالة من الاقتحام الأمثل لهذا المعترك المهم في أوروبا "المعترك الاقتصادي"؛ بسبب افتقاره إلى الأدوات الفقهية والشرعية اللازمة لتنظيم حركة المسلمين داخل الاقتصاد الأوروبي الذي يقوم في معظمه على جملة من القوانين الوضعية والقائمة بشكل أساسي على مبادئ الفردية وآليات ربوية، مما مثل حرجا شديدا للمسلمين في أوروبا، الذين وجدوا أنفسهم بين مطرقة الاندماج والشراكة والتأثير وسندان القوانين والنظم الاقتصادية المخالفة لشريعتهم. وفي وسط هذه الحيرة برزت المؤسسات الشرعية والفقهية في أوروبا، وفي مقدمتها المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ليضع هذه القضية على محك البحث ليجد للمسلمين مخرجا يتيح لهم استمرار مسيرتهم في الاندماج –بل والتأثير– في الحياة الاقتصادية الأوروبية والانخراط في دورة التمويل وفق رؤية شرعية واضحة ومتطورة. لهذا قرر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عقد سلسلة من الدورات يخصصها للبحث في المعاملات المالية للمسلمين في أوروبا لتعرض فيها جملة من البحوث التأصيلية والتطبيقية في هذا الشأن، جمعها المجلس بالفعل في "المجلة العلمية" التابعة له، والتي تصدر عددا كل ستة أشهر؛ حيث خُصص عددها الحالي "الصادر في شهر يوليو 2009م، رجب 1430 ه" لعرض تلك الأبحاث التي قام بها نخبة من خبراء الفقه والاقتصاد الإسلامي في العالم الإسلامي. طالع: الموقع الرسمي للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث على شبكة الانترنت ثمة بعد آخر يرى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث أنه سبب لأهمية مناقشة تلك القضية الحساسة من منظور فقهي وشرعي وتأصيلي، ألا وهي الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها العالم والتي تنذر بانهيار اقتصاديات كبرى، واتجه الاتهام فيها إلى القوانين الوضعية وسوء تنظيمها لدوران الأموال، مما جعلت الأنظار تفكر في النظام الاقتصادي الشرعي الإسلامي كصمام أمان بأحكامه الواضحة ضد الاهتزازات الاقتصادية العنيفة. بين التأصيل والتطبيق وقد انقسمت أبحاث العلماء والفقهاء المعروضة في هذه المجلة إلى قسمين: قسم تأصيلي يتناول بالبحث أصول النظام المالي الإسلامي، وقسم فقهي تطبيقي يلقي الضوء على أحكام فقهية في قضايا معينة من هذا النظام. أما القسم الأول فقد تناول ستة بحوث تأصيلية أبرزها بحث العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس تحت عنوان: "مقاصد الشريعة المتعلقة بالمال"، والذي كان وافيا في التأصيل المقاصدي؛ حيث ركز على مقاصد الشريعة المتعلقة بالمال وتوزيعه من حيث كونه دافعا لتحقيق الاكتفاء الذاتي للفرد والأمة، وأن يكون توزيعه بالعدل، وكانت نفس الفكرة هي محور البحث الثاني لفضيلة الشيخ عبد الله بن بيه تحت عنوان: "مقاصد الشريعة في المعاملات المالية"، والذي أضاف للبعد التأصيلي الذي أثاره القرضاوي بعدا تطبيقيا يمثل منطلقا ملزما لتقرير الأحكام التأصيلية. جاء بعد ذلك بحث فضيلة الشيخ صهيب حسن بعنوان: "المعاملات المالية للمسلمين في أوروبا"، مبينا الأبعاد العقدية للمال التي ينبغي على مسلمي أوروبا أن ينطلقوا منها في معاملاتهم المالية وهم يعيشون في مجتمع غير إسلامي يغري بتناسي تلك المنطلقات. وعلى صلة بهذا السياق التأصيلي جاء بحث الشيخ راشد الغنوشي تحت عنوان: "أثر حقوق الإنسان في الإسلام على السلوك الاقتصادي للمسلم"؛ حيث ركز على تأثير منظومة حقوق الإنسان في الإسلام على أداء المسلم الاقتصادي الذي يعطي بموجب تلك الحقوق المكانة اللائقة للمال في حياة المسلم كمقوم رئيسي للتنمية. المبادئ الأخلاقية للتعامل المالي في أوروبا كانت هي الموضوع الذي اختاره الأستاذ مصطفى ملا أوغلو ليكون محورا رئيسيا لبحثه، مبينا ابتعاد القواعد الخاصة بالتعامل المالي في أوروبا عن منظومة الأخلاق وساردا التصور الإسلامي البديل للأمر. وستظل المشكلة الكبرى هي كيفية تكوين نظام تمويل إسلامي في أوروبا يستطيع المسلمون من خلاله ممارسة حياتهم الاقتصادية بشكل اندماجي مع مجتمعاتهم الأوروبية، ولهذا فقد جاء خاتمة البحوث التأصيلية تحت عنوان: "نحو توجيه إستراتيجي للتمويل الإسلامي في أوروبا"، ناقش فيه الباحث محمد النوري أهمية التوجيه الإستراتيجي لمنظومة التمويل الإسلامي في أوروبا بعيدا عن الظرفية والارتجالية عبر عدد من الآليات والمسارات المالية التي يمكن للمسلمين السير فيها وفق المبادئ الشرعية. أما القسم الثاني من البحوث، فآثر أن يقتحم المجال التطبيقي عبر عرضه لقضايا اقتصادية محددة قد تعترض المسلم في أوروبا على وجه الخصوص، لتدرسها وتكيفها فقهيا وقانونيا، ثم تنتهي إلى أحكام شرعية فيها تبين للمسلم طريق الهدى نحو تعامل مالي سليم. الربا والتأمين والتقسيط ولعل أبرز تلك البحوث هما بحثا فضيلة الشيخ يوسف الجديع تحت عنوان: "الربا والعقود المالية الفاسدة في غير بلاد الإسلام"، وفضيلة الشيخ علي محيي الدين القره داغي والذي حمل عنوان: "حكم التعامل أو العمل في شركات التأمين خارج ديار الإسلام"؛ حيث ناقش البحثان أبرز مشكلتين قد يواجههما المسلمون عند محاولاتهم الاندماج الاقتصادي والتنموي مع مجتمعاتهم الأوروبية، وهي مسائل قديمة جديدة أثارت جدلا حادا في أوساط المسلمين في أوروبا. وخلص هذان البحثان لعدد من النتائج التي قد تهم المسلمين هناك، أبرزها أن جميع المعاملات التي بها شبهة من الربا الأصل فيها المنع، وأن بعض الآراء الفقهية القديمة التي أجازت جزءا من تلك المعاملات كانت تستند إلى ظروف وأحوال تعود إلى قرون خالية ولا تنطبق اليوم على أوضاع مسلمي أوروبا، غير أنه استثني الضرورات القصوى. أما التعامل والعمل في شركات التأمين خارج ديار الإسلام، فقد بنى الشيخ القره داغي رأيه على أنواع أنظمة التأمين في أوروبا وهي التأمين التجاري والتأمين التعاوني، فذهب لمنع التعامل والعمل في التأمين التجاري من حيث الأصل لمخالفته أصول الشريعة قياسا على منع بيع الجهالة والغرر، أما التأمين التعاوني فلا شيء فيه لامتناع الموانع الشرعية به. أما بحث فضيلة الشيخ سالم الشيخي، فقد طرق أيضا قضية مهمة تعترض كثيرا من أبناء المسلمين في الغرب، وهي قضية "القروض الطلابية في أوروبا"، والتي تقوم على أسس مخالفة للشريعة؛ حيث كيف القضية فقهيا وواقعيا، وانتهى إلى عرض مقترحات في شأن تلك القروض تئول بها إلى مظان تصبح قروضا جائزة شرعا، واستعمل في هذا الإطار قاعدة الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلتها. أما بحث فضيلة الشيخ المكاشفي طه الكباشي فحمل عنوان "بيع المرابحة والتقسيط ودورهما في المعاملات المصرفية في الفقه الإسلامي"، وهي من أبرز المشكلات التي تواجه المسلمين في أوروبا التي يحتل فيها بيع المرابحة والتقسيط مع زيادة الثمن مكانا مهما في دورة التعاملات المالية هناك، وانتهى إلى أن بيع التقسيط مع زيادة الثمن جائز، غير أنه أورد عددا من الاحترازات تتعلق ببعض ما يلابس ذلك البيع من الشُبه التي قد تخرج به من الشرعية إلى المنع. وبعد النظر إلى هذه المجموعة المعمقة من البحوث، يظل السؤال يتمحور حول مدى إسهام ذلك التوجه الجديد من أعلى هيئة فقهية إسلامية في أوروبا في عملية دمج المسلمين في الغرب داخل مجتمعاتهم ليصبحوا معادلة قادرة على الإسهام في عجلة التنمية الأوروبية، بل والتغيير فيها كمقدمة لترشيد مسيرة الاقتصاد العالمي نحو أداء أفضل، مستلهما روح الشريعة الإسلامية ومبادئها، بدلا من أن يظلوا قابعين في خانة "الإسلاموفوبيا" والتطرف التي يريد البعض حبسهم داخلها. مدارك / 15-07-2009