لفترة ماضية طويلة، كانت مواقف العالم العربي من العدو الصهيوني تقسمه إلى كتلتين كبيرتين، تحكمهما تناقضات لا سبيل إلى ردمها أو جسرها: واحدة تدعو إلى مواجهة ومجابهة ومقاتلة فورية ودائمة تستمر حتى نهاية العدو أو نهاية العرب، وأخرى تطالب بتحاشي المعارك مع “إسرائيل”، إنقاذاً للعرب من هزائم ستنزلها بهم. هذا الانقسام، الذي دام أكثر من عقدين، ترك مكانه لإجماع عربي تام على ضرورة الوصول إلى “تسوية سلمية” مع العدو، هي، في العمق، صفقة ذات جانبين: جانب أول يقوم على إعادة الأراضي العربية التي احتلها جيشه عام ،1967 وعلى اعترافه بحق شعب فلسطين في إقامة دولة داخل أراضيه، التي ألحقت عام 1948 بمصر والأردن واحتلت بدورها خلال حرب يونيو/حزيران من عام ،1967 وهي تشمل الضفة الغربية وغزة، وإيجاد حل ما لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، الذين طردوا من وطنهم في فترات زمنية متعاقبة. وجانب ثانٍ، مقابل، يقول بضرورة إجراء سلام تعاقدي/ قانوني مع “إسرائيل”، يقر العرب فيه بيهودية الجزء الأكبر من أرض فلسطين التاريخية غربي الأردن (يبلغ نيفاً وثمانين في المائة منها)، وبأن “إسرائيل” لم تعد دولة دخيلة وغاصبة، بل صارت كياناً سياسياً طبيعياً من كيانات المنطقة، يجب تطبيع علاقات العرب معه في سائر المجالات، الرسمي منها والشعبي. ليس للتسوية السلمية أي معنى آخر غير هذا المعنى. إنها صفقة سيتم خلالها مقايضة القسم الأكبر من أرض فلسطين التاريخية بأراضي الدول العربية التي احتلت عام ،1967 بما في ذلك أراضي الدولة الفلسطينية الموعودة، ومقايضة حالة الحرب بحالة سلام شامل تقره القوانين الوطنية في الدول العربية جميعها وفق مبادرة عام 2002. من المعروف أن مصر والأردن أنجزتا حصتهما من هذه المقايضة، بينما تبدي البلدان العربية، التي بقيت أراضيها تحت الاحتلال والعاجزة عن تحريرها بالقوة، استعدادها لإتمام نصيبها منها، متى أبدى الجانب “الإسرائيلي” استعداده لقبولها. هذا التوجه مشترك بين النظم العربية، ورغم أن الدعاية والمزايدة قد تحجبانه عن أنظارنا لبعض الوقت، فإن حجبه كل الوقت غداً ضرب من المحال، بعدما تمت تسويات جزئية بين “إسرائيل” وبلدان عربية مهمة، وتبين أنها لم تكن غير مقايضة ردت أرضاً عربية محتلة، لكنها ضحت، بالمقابل، بعروبة فلسطين، وأنهت حالة الحرب مع العدو. أما الخلفيات التي فرضت هذا التوجه، فترجع إلى حقيقة مؤلمة، هي أن الدول “المجابهة والمساندة” العربية لم تبذل أي جهد جدي وفعال، على الصعيدين القومي والقطري، لامتلاك قدر من القوة يستطيع إعادة الأرض والحقوق، في حال رفض العدو ردها سلمياً: تطبيقاً لقرارات دولية تلزمه بإخلائها من دون مقابل، أي من دون مكافآت وصفقات، خاصة منها تلك التي تخالف القانون الدولي وتتعارض مع إرادة العرب، ناهيك عن تعارضها مع كرامتهم واحترامهم لذاتهم. أما أرضية هذه “الصفقة”، فلا بد من البحث عنها في واقع عربي سياسي رفض منذ نيف وأربعين عاماً تعبئة واستخدام قدرات وثروات عربية هائلة، لو تمت تعبئتها بصدق لقلبت معادلات الصراع مع عدو هزيل القدرات، محصور في رقعة جغرافية صغيرة وضيقة، مكنه تغييبها من إنزال هزائم متلاحقة بنا، ومن احتلال أراضٍ تعادل مساحتها حوالي ستة أضعاف ما احتله من فلسطين عام ،1948 وردع دولنا، “المجابهة والمساندة”، إلى درجة التوبة عن منازلته أو حتى تحديه. ليس سراً أن لدينا نحن العرب إمكانات مادية وبشرية يستحيل بأي معيار مقارنة إمكانات عدونا بها، تحت أي شكل من الأشكال وفي حال من الأحوال. وثمة في الأرض العربية ثروات لو أحسن استغلالها لخرج العرب من وضعهم الراهن كأمة مستضعفة تخاف حتى من خيالها، ولانقلبوا إلى أمة فاتكة يخشاها المعتدون والعتاة. ولدى العرب قدرات ومواهب ومؤهلات بشرية لو كانت حرة وذات حضور ورأي، لما فاقهم أحد تقدماً وتقنية وثراء ورفاهاً. بما أن تنظيم واستغلال ولو جزء صغير من قدرات العرب الموضوعية كان سيعني نهاية الكيان الصهيوني، مهما بلغ تنظيم قدراته الذاتية، وكائناً ما كان الدعم الذي يتلقاه من الخارج، فإن جهد أعدائنا وحلفائهم انصب طيلة حقبة الصراع المديدة على تعطيل هذا التفوق بالوسائل “الإسرائيلية” العسكرية، والوسائل الأمريكية غير العسكرية. ولم يغب ولو للحظة واحدة عن أعين أمريكا و”إسرائيل” هدف استراتيجي عملاً بصورة متكاملة وحثيثة على تحقيقه، تجسد في السعي الدائب لإبطال تفوق العرب الهائل في الإمكانات والقدرات الموضوعية، غير المستخدمة بعد، على عدوهم. وقد تطرق هنري كيسنجر، وزير خارجية أمريكا الأسبق، إلى هذه النقطة بالذات في شهر مايو/أيار من عام ،1970 خلال حديث مع رؤساء تحرير صحف أمريكية، قال فيه: لا يستطيع السلاح، مهما بلغ نوعاً وكماً، ضمان أمن “إسرائيل”. ولن تستمر الدولة اليهودية في الحياة، إذا لم نعطل قدرات وإمكانات وطاقات العرب، وهم أمة منجبة للحضارة ذات خبرات واسعة وغنية في بناء دولة إمبراطورية قادت التقدم العالمي خلال قرون كثيرة. ولعلمكم، فإن جهد أمريكا ينصب، لهذين السببين، ليس فقط على تزويد “إسرائيل” بسلاح متفوق، بل كذلك على تعطيل طاقات وقدرات العرب الموضوعية بواسطة حكوماتهم، فبغير هذا لن تبقى “إسرائيل”، ولن يفيدها أي سلاح. لو عكست أوضاع العرب الذاتية حقيقة قدراتهم الموضوعية لما كان هناك كيان صهيوني في فلسطين، ولكانت الأمة العربية في حال يختلف اختلافاً جذرياً عن حالها الراهن، المشين والمخجل. في إطار هذه الإستراتيجية المشتركة، تعمل “إسرائيل” على تعطيل قدرات العرب الموضوعية من خلال تحقيق مهمتين متكاملتين، تبدوان متناقضين ظاهرياً، هما: تنظيم قدراتها الذاتية إلى أبعد حد، وجعلها في أحسن صورة ممكنة، وصبها موحدة في قالب عسكري يعين طابع دولتها ومجتمعها، ورفدها بقدرات مستعارة من الخارج، وخاصة من أمريكا، تحسنها وتضعها في حالة فاعلية عدوانية دائمة. منع تنظيم وتعبئة القدرات العربية، لأن تنظيمها وتعبئتها يعنيان نهاية كيانها، كائناً ما كانت درجة الدعم الخارجي الذي يتلقاه. من المعروف أن “إسرائيل” أعلنت بلسان جميع قادتها وجود حد من التقدم السياسي والاجتماعي والاقتصادي يمنع على العرب بلوغه، وحد من تقدم العلم لن يسمح لهم باكتسابه، كي لا يتقلص فارق التقدم بينها وبينهم، وتواجه خطر الموت. تتكفل قيادات “إسرائيل” والصهيونية بالمهمة الأولى، وينجز النظام العربي المهمة الثانية، بدعم من القوى الدولية المساندة للعدو، وخاصة منها أمريكا. إن تعطيل المجتمعات العربية، وسلب الإنسان العربي حقوقه وحريته وكرامته، وتقويض طابع الدولة المؤسسي، وتحويلها إلى جهة تضطهد داخلها يحميها الخارج، هي سر استمرار الكيان الصهيوني إلى اليوم، فلا يظننّ عربي أن “إسرائيل” قامت وبقيت بقوتها وحدها، وأنها كانت ستحقق أي انتصار، لو نعم الإنسان العربي بالحد الأدنى من الحرية، وكان له دور في تقرير شؤونه وشؤون وطنه، وكانت قدرات بلاده في خدمته وخدمة قضاياه، ولو عاش في ظل قانون يحكم وقضاء يحاسب. إن منع العرب، أمة وأفراداً، من تفعيل طاقاتهم الهائلة، لم يعد هدفاً “إسرائيلياً” فقط، بل صار هدفاً، دأبت نظم استبداد عربية على متابعته وعملت على تحقيقه، رغم علمها وعلم المواطنين العرب أن التسوية لن تأتي بالسلام، بل ستؤبد عبوديتنا، مجتمعات وأفراداً، وستكبح بطرق متجددة قدراتنا، وستقهر إرادتنا وتخضع أوطاننا لنظام جديد أسموه “النظام الشرق أوسطي”، الذي لن يعرف العربي فيه إن كان عربياً أم “إسرائيلياً”، وستوضع فيه مقدرات وإمكانات أوطاننا وأمتنا في خدمة كيان كان بمستطاعها إزالته عن وجه الأرض. الخليج :الأربعاء ,29/07/2009