تاريخ النشر:يوم الثلاثاء ,27 نوفمبر 2007 12:33 أ.م لنبدأ بتشخيص مشكلة الفقر:فهمي هويدي حين فتح ملف الفقر في بر مصر وأطلقت فكرة إقامة عاصمة جديدة للبلد، فإن ذلك جاء تعبيرا عن محاولة للتفكير بصوت عال في شأن الحاضر والمستقبل، يستحق أن ننتبه إليه ونشارك فيه. (1) لقد انحاز الرئيس مبارك إلى الرأي المعارض لإقامة عاصمة جديدة، معتبرا أن الأولوية ينبغي أن تعطى لقضية مكافحة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع. وهو تقدير قدم العاجل على المهم، تبنى منطقا يعبر عنه فقهاء الأصول بأنه تقديم أولوية وليس تقديم أفضلية. ذلك أن العاجل مطلوب ولا يمكن تجاهله، بقدر ما أن المهم لا يمكن استبعاده أو التقليل في شأنه . لست في وارد مناقشة العنوانين، ولكن لي عدة ملاحظات على منهج التفكير المطروح في شأن الحاضر والمستقبل. أولى هذه الملاحظات أن مختلف القضايا المطروحة على هذين الصعيدين وردت في تقرير التنمية البشرية لعام 2005، وهو التقرير الذي صدر بالتعاون بين البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، ومعهد التخطيط القومي، وأشرفت على إصداره الدكتورة هبة حندوسة التي عمل معها فريق ضم 35 من الباحثين والباحثات، وهؤلاء اقترحوا 55 مشروعا وبرنامجا لتحقيق التنمية في مصر، وكان من بينها الموضوعان اللذان أثيرا مؤخرا، وتعلق أحدهما بترشيد الدعم لتحقيق العدالة المنشودة، ودعا الثاني إلى تحقيق التوازن بين السكان والأرض، من خلال إقامة عاصمة جديدة للبلاد. موضوع ترشيد الدعم ورد في سياق فكرة تحدثت عن ضرورة الاتفاق على عقد اجتماعي جديد بين السلطة والمجتمع. وهذا العقد يتضمن حزمة إجراءات إصلاحية على الصعيدين السياسي والاجتماعي، وكفالة الحريات العامة هي حجر الأساس في الإصلاح السياسي، وترشيد الدور الحكومي في توزيع السلع والخدمات هو الأساس الذي تنطلق منه محاولات تحقيق العدالة الاجتماعية. في رأي خبراء التقرير أن نظام توزيع السلع والخدمات المدعومة أدى في الماضي إلى إشاعة الاتكالية وزيادة البطالة، فضلا عن أنه لم يحل مشكلة الفقر المتفاقمة في مصر، إذ وصلت نسبة الفقراء وفقا للمقياس الذي اعتمده التقرير إلى 34% في السكان. و فى ظل العقد الاجتماعي الجديد ذكر التقرير أن " الدولة سوف تضطلع بمسئوليات الأمن والدفاع والعدالة. وسوف تقدم السلع العامة الجيدة التي ترمي إلى تحقيق العدالة وتتسم بالكفاءة والفاعلية، وفي المقابل لن يقتصر دور المواطنين على تقديم فروض الولاء واحترام قوانين الدولة والملكية العامة وحقوق الآخرين، بل يتعين عليهم أيضا أن يشاركوا بفاعلية في تنفيذ هذا العقد والإشراف عليه، وفي تحمل تكاليفه المالية وفي الحفاظ على مكاسبه ونتائجه وتأمينها". موضوع إقامة عاصمة جديدة تحدث عنه التقرير باعتباره استجابة لدعوة الخطة الخمسية (2002- 2007) إلى ضرورة زيادة المساحة المأهولة في مصر إلى 12%. وذهب خبراء التقرير إلى أن إنشاء عاصمة جديدة يمثل خطوة مهمة على طريق إقامة منطقة جذب بديلة للتنمية. بحيث تصبح العاصمة الجديدة قادرة على استيعاب الأجهزة الحكومية والهيئات القومية والبعثات الدبلوماسية، في حين تصبح القاهرة عاصمة ثقافية إذا جاز التعبير. وهو ما فعلته باكستان حين نقلت العاصمة كراتشي إلى إسلام أباد، وتركيا التي نقلت العاصمة من اسطنبول إلى أنقرة، والبرازيل التي أقامت عاصمة باسم برازيليا بديلا عن ريو دي جانيرو. اشترط التقرير أن تبعد العاصمة الجديدة عن القاهرة والوادي القديم بحوالي 400 كم، وأن تكون في قلب الحيز العمراني المطلوب تنميته ولها قاعدة اقتصادية مجدية. ورأى الباحثون أن هذه المواصفات تنطبق على الصحراء الغربية، بحيث تصبح العاصمة الجديدة قريبة من توشكي، أو من مشروع فوسفات أبوطرطور. ولديهم تصور لربطها عن طريق السكة الحديد بالبحر الأحمر والساحل الشمالي وجنوبا إلى قلب أفريقيا. (2) الملاحظة الثانية أن مقترحات تقرير التنمية البشرية، رغم الجهد الكبير المبذول فيها، تبنتها الحكومة قبل أن تطرحها على الرأي العام في مصر، أو حتى على أهل الاقتصاد أو في داخل اللجان المختصة في مجلسي الشعب والشورى. ومن الواضح أن معدي التقرير تبنوا وجهة نظر اقتصادية واحدة تنطلق من أفكار ومعايير وأنماط مدرسة الاقتصاد الحر، التي تدعو إلى إضعاف دور الدولة وتقليص مسؤوليتها عن المجتمع، وحصر ذلك الدور في مجالات الأمن والدفاع والعدالة. وهذه الرؤية إذا صلحت في المجتمعات الغربية، فإن استنساخها في دول العالم الثالث ليس مضمون النجاح. كما أنها ولدت لدى منظري المدرسة ضيقا دائما بما تقدمه الدولة في رعاية للفقراء، وإلحاحا مستمرا على التخفف من مسؤوليتها تجاههم. و قد ولد ذلك الضيق نفورا لديهم من زيارة السكان، لانها تعنى زيادة عددهم تعني زيادة عدد الفقراء. وتحميل الدولة مزيدا من الأعباء. في حين أن آخرين يعتبرون السكان ثروة بشرية، إذا فشلت السلطة المسؤولة عن المجتمع في استثمارها فإنها تتحول إلى عبء ثقيل يراد التخلص منه دائما. أما إذا أحسنت استثمار هذه الثروة -كما في الصين مثلا- فإنها يمكن أن تحقق بها إنجازات عظيمة، علما أن أعداد السكان في مصر وفي المجتمعات العصرية عموما تتجه بطبيعتها إلى التناقص، سواء بسبب الضغوط الاقتصادية أو بسبب تزايد الوعي وانتشار التعليم. إلى جانب اختلاف وجهات النظر في الرؤى والمنطلقات، فثمة خلاف أيضا حول الأولويات، وهو ما تجسد في انحياز الرئيس مبارك إلى إعطاء الأولوية لمتطلبات العدل الاجتماعي، ودعوته إلى تأخير ترتيب أولوية مشروع العاصمة الجديدة. وهو المشروع الذي أعلن السيد صفوت الشريف في مجلس الشورى يوم السبت 17/11 أنه تلقى خطابا من الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء أبلغه فيه بأن الحكومة انتهت من دراسة التخطيط لإنشاء العاصمة الجديدة، وكان ذلك مفاجأة دعت كثيرين إلى التساؤل عن الجهات التي ناقشت تلك الدراسة واعتمدتها، بحيث فوجئ بها الجميع، بمن فيهم رئيس الجمهورية. (3) الملاحظة الثالثة أن مختلف القرائن تدل على أن ما سمي بسياسة ترشيد الدعم، ومن ثم رفعه بصورة تدريجية، هي الآن في طور الاختبار في بعض المحافظات تمهيدا لتعميمها. إذ بالإضافة إلى التصريحات الرسمية التي تكررت في هذا الصدد، نشرت الصحف أن الفكرة سوف تم تجربتها في محافظة السويس. وفي الحوار الذي أجراء زميلنا فاروق جويدة مع الدكتور أحمد نظيف ونشره يوم الجمعة 16/11، قال رئيس الوزراء أن النية متجهة إلى رفع الدعم للسلع وتحويله إلى دعم نقدي، وهو مشروع سينفذ على مراحل تبدأ بمن يطلب الدعم النقدي، وفي طور لاحق تتولى مؤسسات الشؤون الاجتماعية إجراء مسح يتحدد في ضوئه الأفراد والفئات التي تستحق الدعم، وتلك التي لا تستحقها. وهو يشرح الفكرة ضرب الدكتور نظيف مثلا بأنبوبة البوتاجاز التي تباع بثمانية جنيهات، في حين أن القيمة الحقيقية لها 40 جنيها، وإذا كانت الأسرة تستخدم أنبوبتين في الشهر، فإنها ستتلقى 80 جنيها نقدا لهذا الغرض، وفيما يتعلق بالخبز، فإن الرغيف الذي يباع بخمسة قروش يكلف الدولة 25 قرشا، وفي هذه الحالة فإن الدولة ستقرر لكل فرد من الفقراء 75 قرشا قيمة ثلاثة أرغفة لكل يوم. اما القادرون فسوف يشترون السلعة بسعرها الحقيقى. أضاف الدكتور نظيف أن موضوع إلغاء الدعم تدرسه الحكومة منذ عامين، وأنها طلبت من البنك الدولي أن يفيدها بما حققته خبرات الدول الأخرى في هذا المجال، وأشار في حديثه إلى المكسيك، حيث يبدو أن فكرة البدل النقدي طبقت بصور مختلفة في دول أمريكا اللاتينية، تشيلي والبرازيل فضلا عن المكسيك. في نفس الأسبوع الذي تحدث فيه الدكتور نظيف، نشرت مجلة نيوزويك ملفا عن تجارب دول أمريكا اللاتينية في مكافحة الفقر، وقالت ان فكرة إلغاء الدعم وتوزيع بدل نقدي على الفقراء تنطلق من أن التجربة أثبتت أن الدفع النقدي لتحسين أحوالهم أجدى وأفضل كثيرا من إهدار المال على بيروقراطية التخفيف من الفقر، التي تمثلت في دعم السلع والخدمات، الذي يستفيد منها غير الفقراء.. ولكن هذا الدفع مشروط، حيث تلزم الأسرة التي تتلقى النقد أن تبقي على أولادها في المدارس، وأن تصطحب أطفالها كل شهر إلى العيادة الصحية المحلية، لان من شأن ذلك أن يربى في الأسرة جيلا نافعا يستطيع أن يتحمل أعباءها في المستقبل. وهناك من يشكك في نجاح العملية، معبرا عن الخشية من أن تتصور الأسرة الفقيرة أن تلقيها للأموال من الدولة هو وضع دائم ونظام حياة مستقر، وليس برنامج مساعدة طارئة. ما أريد أن أقوله أن الأمر بالغ الصعوبة والتعقيد، وأن ما حققته التجربة في أمريكا اللاتينية لا يعني بالضرورة أنها يمكن أن تنجح في مصر. فحصر الفقراء مشكلة، والاعتماد على البطاقات التموينية لا يحلها، علما أن هناك أعدادا هائلة من الفقراء لا علاقة لهم بالبطاقات، وأطفال الشوارع نموذج واحد لهؤلاء. من ناحية أخرى فإن توزيع البدل النقدي يتطلب جهازا إداريا قويا ونزيها. ولأننا نعلم كم الفساد في المحليات فلنا أن نتصور ما يمكن أن تفعله تلك الأجهزة الفاسدة حين تؤتمن على توزيع ملايين الجنيهات على الفقراء، ولنا تجارب مريرة مع تلك الأجهزة في مشروعات توزيع المساكن الشعبية وفي ممارسات الجمعيات الزراعية في القرى. (4) ملاحظتي الأخيرة أنني أخشى من أن يجرفنا الحماس بعيدا، فننشغل بعلاج العرض وننسى المرض، ونتعلق بالفروع متجاهلين الأصول والجذور. صحيح أن اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء هو ظاهرة عالمية، كما بين تقرير " نيوزويك" الا أنها لا تصل إلى حد الخطر بسبب قوة اقتصاد الدول الصناعية، ولكنها في مصر بلغت ذلك الحد بسبب الخلل في الهيكل الإنتاجي والعجز المستمر في ميزان المدفوعات، وإتباع بعض السياسات التي تجلب دخولا إضافية للموازنة، لكنها تحدث هزات اجتماعية قوية، كما حدث في بيع الأراضي في المزاد، الذي أحدث زلزالا أثر في أسعار السكن والأراضي ومواد البناء، وأجور العاملين في المعمار. وكما حدث في خصخصة المشروعات التي نقلت مصانع ومرافق عدة من أيدي القطاع العام الذي هو فى رعاية الدولة ويفترض أنه خاضع لسياساتها وأهدافها، إلى القطاع الخاص الذي دخل مدفوعا بالرغبة في تحقيق الربح بلا قيد ولا شرط، الأمر الذي أدى إلى رفع الأسعار على نحو اكتوى الجميع بناره. وحين تخلصنا من المصانع والمرافق بسبب سوء الإدارة ولم نحاول إصلاح ما فسد فيها، فإننا لم نختلف كثيرا عن الذي وجد ابنا له ساء أدبه وانحرف، فقتله وألقى بجثته إلى الشارع. لست اشك في حسن نوايا وإخلاص الذين يحاولون علاج مشكلة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية في مصر. ولكن الحل لا يتم بالنوايا الحسنة، وإنما يبدأ بالتشخيص السليم، الذي هو نصف الطريق إلى بلوغ الحل السليم. و هذا اول كلام فى مناقشة الموضوع، و لست اشك فى ان الخبراء لهم كلام اكثر و افضل.