يقف المشروعان الصهيوني والإمبريالي، بعد أن خاضا معا طيلة القرن الماضي معارك على جبهات عدّة من أجل السيطرة والنفوذ على مفترق طرق، فالأول بالرغم من سيطرته على الأرض لم ينجح نهائيا في استدراج الأمّة إلى الاعتراف الجماعي به والتسليم بوجوده والثاني يترنّح أمام الأزمة الاقتصادية التي تهزّ كيانه وينشغل في نفس الوقت بمحاولة فرملة سير القوى الصاعدة التي يخشى مسابقتها له على قيادة العالم خلال الألفية الحالية. إلاّ أن التسليم بالهزيمة والقبول بالأمر الواقع لا يزالان غير واردين في أذهان من يقفون على رأسي هذين المشروعين وما يهمّنا الآن هو أن الصهيونية تبتزّ الإمبريالية مستغلّة حاجة هذه الأخيرة إلى المال لإنقاذ الاقتصاد المتهاوي يدفعها نحو خوض حروب استباقية لتأمين الوجود الصهيوني خلال هذه المرحلة الانتقالية التي يمر بها العالم ريثما ينتهي الحال إلى وضع جديد يستدعي بناء تحالفات أخرى أكثر جدوى، وتتنزل الحروب الحالية التي تخوضها أمريكا وحلفاؤها في أفغانستان والعراق وباكستان ضمن هذا الإطار. فالعراق قبل استدراجه للحرب مع إيران وغزو الكويت ثم الإنقضاض عليه كان باتجاه التحوّل إلى قوة تهديد محتملة للكيان الصهيوني ماديا ومزعجا أيضا له من خلال ما يرفعه من شعارات برفض الاعتراف وإعادة بعث الهوية العربية. والحرب على أفغانستان كانت فيما نعتقد مقدمة لضرب الإسلام المتشدّد في باكستان وقطع الطريق أمامه في الوصول إلى سدّة الحكم في دولة نووية. وما إسقاط نظام طالبان إلاّ إصرار على قطع طريق امداد محتمل أمام مسلمي باكستان وحرمانهم أيضا من قاعدة لجوء خلفية، وينطبق نفس التحليل كذلك على ما مرّت به الجماهيرية العربية الليبية من حصار جائز وابتزاز سياسي ومادّي، و، وأخيرا وليس آخرا الطلب المضحك المبكي الذي تقدمت به الإدارة الأمريكية إلى الجزائر من ضمانات بعدم تهديد الأسطول الجزائري للبواخر الصهيونية في البحر المتوسط في صورة نشوب حرب محتملة بين العرب وهذا الكيان العنصري الغاصب. وأن يُجري هذا الكيان منذ 1992 مفاوضات عبثية مع أطراف عربية فلسطينية وغيرها. ويهدد في نفس الوقت بإقامة الكيان الصهيوني (النقي) "الدولة اليهودية" من جانب واحد في صورة عدم التقدم على المسار التفاوضي إلاّ أن الحقائق على الأرض وفيما سقناه سابقا من وقائع إضافة لما يجري من مداهمات وهدم وقتل وتشريد وإبعاد وتأليب للبعض على الآخر وحروب تدميرية على لبنان وغزة تدلّ على أن مسار التفاوض مهزلة يستهدف من وراءها العدو ربح الوقت. فعمليا لا الكيان الصهيوني النقي (الدولة اليهودية) ولا حلّ الدولتين بقابلين للحياة فالأول عند تحققه سيصبح محاصر بمحيط معادي ومهدد من كل جانب مما يجعل أمله في الحياة منعدما والثاني سيمكّن الفلسطينيون المقيمون على الدولة المزعومة من استغلال الفضاء المفتوح برّا وبحرا وجوّا مع محيطهم الطبيعي للتسلح وامتلاك أسباب القوة والمناعة ثم الثأر من عدوهم. وإذ يدرك العدوّ هذا الأمر جيدا ويصرّ رغم ذلك على السير فيه لا لشيء إلا للتغطية على الهدف الحقيقي الذي يسعى إليه والمعركة الأخيرة التي يخوضها سرّا وعلنا وعبر أدوات محلية بلبوس عدّة وتحت غطاء دولي ألا وهي التطبيع العربي الكامل والنهائي معه. وإذ تؤرخ حركة التصحيح في مصر في 15/05/1971 التي قادها السّادات لإحداث الثغرة الأولى في جدار البناء السياسي المنظم الرافض للتطبيع بإبعاد الناصريين عن مواقع القرار والزجّ بالبعض منهم في السجون، فإن زيارته إلى القدس المحتلّة وما خلفته من انقسام في الصف العربي كانت نقطة البداية في إحداث الثغرة الأخرى في الجدار الاجتماعي المعبر عنه بالهوية العربية الجامعة وأداتها الجامعة العربية وما ترتب عنها من دعوات لإحياء الفرعونية واحلال اللهجات المحلية محلّ اللغة العربية تحدثا وكتابة إلى آخر التداعيات التي عشناها وأخرى لم تر النور بعد. وتشير مسارات تحركات العدو وحلفاؤه السياسية والإعلامية واللوجستية إلى أنهما ومن خلال خبراتهما الطويلة بالمنطقة قد انتخبا خصمهما الرئيسي بدقة إذ يتلقفون كل القوى المتنطعة والمرتدّة على فعل التاريخ والجغرافيا لآلاف السنين أي القوى اللاقومية (إقليمية- جهوية – عرقية – مذهبية..ألخ) مع النفخ في صورهم وتعزيز مطالبهم تحت غطاء حقوق الأقليات وحقّ الإدارة الذاتية دفعا باتجاه إحداث شقوق في الجسم العربي وهتك النسيج الاجتماعي للأمة لإظهار الأمر وكأن الأمة غير مجمعة على عدو واحد وعلى موقف واحد إزاءه، والتشهير المتواصل عبر حملة إعلامية مدروسة ومن خلال هذه الرؤوس التي تطل على الشاشات العربية من حين لآخر بالقوميين تارة بنعتهم بالقوماجيين وتارة باتهامهم بفرض الانتماء القسري عليهم لهوية غير هويتهم، وما إثارة موضوع يهود الدّول العربية هذه الأيام وخاصة من خلال ما يحصل في المغرب الأقصى ودارفور على هشاشته إلا أبلغ دليل على ما نقول بالرغم من أن الحركة القومية هي الحركة الوحيدة التي تؤسس نظريا إلى الفصل بين اليهود والصهيوينة وتعتبر أن يهود الدّول العربية هم أبناء الأمة ومواطنوها وعلى نفس خط المساواة حقوقا وواجبات مع بقية الناس، ومن انخرط منهم في المشروع الصهيوني هو مواطن عربي مغرر به شأنه في ذلك شأن أيّ مواطن آخر دون النظر إلى دينه أو مذهبه أو عرقه لأن العروبة انتماء ومصير لذلك نقول وعطفا على ما سبق ذكره إن القوميين مدفوعون الآن شاؤوا أم أبوا إلى خوض معركتهم ما قبل الأخيرة مع عدوهم وبالتالي يستدعي الواجب منهم رصّ الصفوف والتنبه إلى كل ما يحاك تلميحا وتصريحا والوقوف ضدّ كل محاولة للفتنة داخل أوطانهم أولا (لأن الفتنة أشد من القتل) والانخراط الفاعل في كل خطوة على درب استكمال البناء الوطني أو تعزيزه مشاركة لكافة القوى الوطنية الصادقة والرافضة للتطبيع لأن هذه القوى عند اشتداد الوطإ عليها ملاذها الطبيعي والآمن أمتها. وأنه لو قدّر لمشروع التطبيع أن ينتصر سيفرض لا محالة على القوميين ومن والاهم خوض المعركة الأخيرة مع عدوهم وأذنابه معركة الدّفاع عن وجودهم المادّي على الأرض لأن الصهيوينة لن تغفر لهم من ذنبهم ما تقدم وما تأخّر وما حصل في بلغراد "مليزوفيتش" وما حصل و يحصل في بغداد "صدام حسين" ليس ببعيد. "وإن ينصركم الله فلا غلب لكم".