تمر المنطقة العربية، منذ سنوات، بحالة من عدم الاستقرار والاضطراب، فقد كانت على امتداد ما يقرب من ثلاثين عاماً مسرحاً لحروب وصراعات كثيرة، الأمر الذي حولها إلى كتلة من الفوضى انعكست بآثارها السلبية على الحياة بصفة عامة وعلى حالة الأمن والاستقرار بصفة خاصة. وفي خضم تلك الحالة المضطربة وقعت المنطقة العربية تحت تهديد مشاريع عديدة يسعى كل منها لتمكين نفوذه وفرض سيطرته وتحقيق أجندته. إن حالة الضعف التي يعاني منها النظام العربي واستمرار حالة التباعد بين مشرق العرب ومغربه، واستمرار معاناة عدد من الدول العربية من الاحتلال والتدخلات والضغوط الأجنبية، وبروز العديد من الأزمات بين بعض الدول فيما بينها، والمشاكل الداخلية المتفاقمة في العديد من الدول التي تعاني الكبت واحتكار السلطة وتدني المستوى الاقتصادي، شكل كل ذلك بيئة مناسبة لبلورة مشاريع دولية وإقليمية متصارعة على الوطن العربي وثرواته. ونتيجة لتأثير التفاعلات الدولية والإقليمية فقد بدأت المنطقة العربية تشهد تحولات إستراتيجية عميقة بدأت ترسم ملامح المنطقة للعقد القادم، فقد شهدت تدخلا أمريكيا مباشرا على الأرض حين انتقل المشروع الأمريكي إلى مرحلة جديدة تعتمد على التدخل المباشر في شئون المنطقة العربية وفق رؤية أسس لها المحافظون الجدد في الولاياتالمتحدة في عهد الرئيس جورج بوش الابن (2001-2008)، وقد نتج عن هذا التحول تفعيل البرنامج الصهيوني في المنطقة بحكم العلاقة الوثيقة بين المشروعين، كما أدى إلى تركيز الضوء أكثر على المشروع الإيراني في المنطقة لأسباب كثيرة، منها الجدل القائم حول هذا المشروع ومدى خطورته على الأمة العربية خصوصا في الأجواء الرسمية العربية، إضافة إلى التحولات في سياسات إيرانالجديدة القائمة على التدخل المباشر خصوصا في العراق بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003. وتزداد أهمية هذه التحولات نظرا للتفاعل النشط لهذه المشاريع غير العربية في المنطقة، وفي ظل غياب مشروع عربي أو إسلامي متفق عليه مؤثر ومكافئ لها يجري تطبيقه، والاكتفاء في كثير من الأحيان بدور المتأثر بهذه المشاريع. على الصعيد الشعبي شهدت المنطقة العربية تطورات كبيرة على صعيد تزايد نفوذ القوى الإسلامية ومعها القومية والوطنية في الحراك الجماهيري بل والمشاركة في الحكم في عدد من البلدان العربية، وهزيمة إسرائيل في معارك عسكرية كبيرة، في مقابل تراجع ثقة الحكومات بنفسها، بل ووقوفها في معظم الأحيان في وجه الانجازات الجماهيرية للمقاومة والعمل الشعبي العربي والدولي، مثل المواقف من الحرب على لبنان عام 2006 والحرب على غزة عام 2009، والجهود الجادة الشعبية العربية وتحالفاتها الدولية لتقديم قادة إسرائيل إلى محاكم مجرمي الحرب العالمية، ناهيك عن عدم دعم جهود تشكيل لجان تقصي الحقائق عن الجرائم الإسرائيلية في عام 2002 في جنين ونابلس وفي عام 2009 في غزة. وبذلك أصبحت القوى الشعبية الإسلامية والقومية تعمل على تحقيق مصالح الأمة ومواجهة أعدائها حتى بالحرب والقوة المسلحة، الأمر الذي ربما اعتبرته بعض الأنظمة العربية مصدر تهديد لها وليس قوة في وجه الاحتلال والهيمنة الدولية والإسرائيلية. وبالرغم مما يظهره المشهد العربي العام من تطور لعدد من عناصر القوة والمقاومة والممانعة هذه، إلا أنه على الصعيد الرسمي ثمة عدداً من التحديات التي تضعف قدرة النظام العربي على بناء مشروعه، من أهمها: 1- ضعف النظام السياسي العربي واستمرار حالة "عدم التوافق" داخله خاصة بين الدول الرئيسية الثلاث المؤثرة: السعودية ومصر وسوريا. 2- استمرار حالة التباعد بين مشرق العالم العربي ومغربه، وفتح دول المغرب العربي لمجالها الحيوي باتجاه أوروبا والبحر المتوسط. 3- تزايد حالات الاحتلال للأرض وانتشار حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في عدد من الدول العربية (فلسطين، لبنان، العراق، السودان، الصومال)، وانسداد أفق التسوية السياسية مع إسرائيل والتي يرهن النظام العبي مستقبله بها. 4- تنامي المشاريع الاقتصادية والثقافية والسياسية الأخرى في المنطقة العربية. 5- تفاعل خطر الأزمات القطرية الداخلية السياسية والاقتصادية والمذهبية والإثنية، ومشاكل تداول السلطة والديمقراطية، واتساع الفجوة التكنولوجية والمعرفية مع العالم الخارجي. 6- اتساع دوائر الاستنزاف في صراعات النخب السياسية الحاكمة وبين التيارات السياسية المتحركة في المجتمع وخاصة التيار الإسلامي. لقد تسبب هذا الوضع غير الطبيعي بنتائج خطيرة على حاضر الوطن العربي ومستقبله وعلى كل مشاريع التجديد فيه، ولذلك جاءت فكرة عقد مؤتمر لمناقشة المشاريع الفاعلة في المنطقة العربية، وبالذات المشاريع الأمريكية والصهيونية والإيرانية بهدف بناء توجهات عربية-إسلامية للتعامل معها، ومحاولة التوصل لرؤية إستراتيجية تتوافق مع المصالح العليا للأمة العربية والإسلامية، وصولاً إلى مشروع عربي -إسلامي في المنطقة العربية، ويعقد المؤتمر لبحث طبيعة هذه المشاريع التي تعمل في المنطقة، بهدف الوصول إلى سيناريوهات كل منها ومحدداته، وبالتالي التوصل إلى رؤية استشرافية لمستقبل المنطقة العربية وتركيبتها في ضوء المشاريع خلال السنوات العشر القادمة. ولا شك أن مجمل المتغيرات التي شهدتها المنطقة وعلى رأسها اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الثانية المسلحة عام 2000، وفشل القوة الاحتلالية في أفغانستان عام 2001 وفي العراق عام 2003 في السيطرة على المنطقة، وهزيمة إسرائيل في معركة لبنان عام 2006 على يد المقاومة اللبنانية، واهتزاز النظام الرأسمالي بالأزمة المالية الدولية في سبتمبر 2008، وانتصار المقاومة الفلسطينية في غزة على إسرائيل في حرب 2009، وسقوط مشروع المسيحية الصهيونية للمحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة عام 2008، واستعداد الولاياتالمتحدة للتعامل بواقعية مع واقع المنطقة ومتغيراتها وفق توجهات الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما الأولية لعام 2009، وفي ظل تزايد يمينية المجتمع الإسرائيلي وقيام حكومة لا توفر أي أفق للتعايش والتطبيع مع العرب حتى لدى أكثر العرب تنازلا في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة لعام 2009. وبذلك تمثل مختلف هذه المتغيرات وغيرها فرصة للباحثين العرب لقراءة متأنية وإستراتيجية للمشاريع الخمسة الرئيسية المؤثرة على المنطقة العربية، ومحاولة الخروج برؤية إستراتيجية واضحة تساهم في ترشيد القرار السياسي والإعلامي والاقتصادي في المنطقة العربية، وتقدم ملامح إستراتيجية عربية واضحة أساسها الدمج بين المشروعين القومي والإسلامي في المنطقة للتعامل مع المشاريع الخارجية ومخرجاتها. وفي هذا الإطار يأتي انعقاد مؤتمر "مشاريع التغيير في المنطقة العربية ومستقبلها"، الذي ينظمه مركز دراسات الشرق الأوسط الأردني، في الفترة من 19 إلى 21 أكتوبر 2009. ويهدف المؤتمر إلى: 1- بناء رؤية إستراتيجية عربية موحدة إزاء حركة وتحولات مشاريع التغيير الداخلية والخارجية الجارية في المنطقة العربية حتى العام 2015، وملامح الإستراتيجية اللازمة للتعامل معها. 2- بناء تصور مشترك لمشروع عربي- إسلامي للنهضة والتطور في المنطقة العربية لتوحيد جهود أبناء الأمة وعلى الأخص بين التيارين القومي العربي والإسلامي العربي. 3- تقديم تصورات علمية عن السيناريوهات المحتملة لطبيعة الصراع والتوافق بين هذه المشاريع في المنطقة العربية حتى العام 2015. ويناقش المؤتمر خمسة مشروعات مؤثرة في المنطقة العربية، صنفت على أنها مشاريع رئيسية لها تأثير مباشر (المشروع الأمريكي والصهيوني والإيراني والعربي القومي والإسلامي)، وثلاثة مشاريع فرعية صنفت بأنها ذات تأثير منخفض على المنطقة، وهي بشكل أو آخر مشاريع "تابعة" في قوة تأثيرها على ديناميكية تفاعل المشاريع الرئيسية الخمسة (المشروع الأوروبي والتركي والروسي والهندي والصيني).