حين ألح قادة الحزب الوطني، من الرئيس مبارك فنازلا، خلال مؤتمرهم الأخير على القول بأن الفلاح في «بؤرة الاهتمام»، كنت أحد الذين قالوا إننا كسبنا نقطة. واعتبرت أنه حتى إذا كان هدف الكلام طمأنة الفلاحين واسترضاءهم، لكسب تأييدهم في انتخابات السنة المقبلة. فلا بأس من ذلك، فأن يحظى الفلاحون باهتمام الحكومة لبعض الوقت أفضل من تهميشهم وإهمالهم طول الوقت. لم يستمر تفاؤلي طويلا. إذ ما أن انفض المؤتمر حتى جاءني من يقول إن ما قيل عن موضوع «بؤرة الاهتمام» ليس أكثر من «كلام جرايد»، سألت، فقيل لي إنهم أعلنوا أن الحكومة ستعلن مقدما وقبل زراعة المحاصيل الأسعار التي ستشتري بها من الفلاحين. وأنها تتجه إلى شراء الذرة هذا العام بمئتي جنيه للأردب، في حين فرض على الفلاح أن يبيعه بما يتراوح بين 120 و140 جنيها. وهذه فكرة جاءت متأخرة كثيرا، هكذا قال محدثي الذي أضاف: إن الحكومة لم تقرر الزيادة بعد، وحتى إذا أصدرت قرارها هذه الأيام فإنه سيأتي بعد أن يكون الفلاح قد باع الذرة مضطرا بثمن بخس. لأن موعد سداد الإيجار السنوي للأرض يحل في شهري أكتوبر ونوفمبر، وقيمة الإيجار تسدد من حصيلة بيعه لمحصول الذرة، الأمر الذي يعني أن قرار الحكومة إذا صدر فإنه سيجيء في وقت تكون فيه الأغلبية الساحقة من الفلاحين قد باعت فيه المحصول إلى التجار القادرين بالسعر المخفض. وسيكون هؤلاء هم الرابحين الحقيقيين، لأنهم حينئذ سيبيعونه إلى الحكومة بالسعر الجديد.قال آخر إن الفلاح يسمع عن تشكيل لجان عليا وعن دراسات ومفاوضات لإقناع شركات الألبان بزيادة سعر اللبن الذي تشتريه من الفلاحين بسعر 240 قرشا للكيلو، في حين أنه يتكلف 280 قرشا. وبسبب الخسارة المترتبة على ذلك، فإن مزارع كثيرة أُقفلت، وبيعث بأثمان بخسة قطعان الماشية. ولم يبق في الساحة إلا الكبار القادرون على تحمل الخسائر، وهؤلاء صاروا يذبحون بعض الأبقار المتوافرة لديهم وبيعها لحما لتوفير السيولة المالية. ومن ثم تمكينهم من توريد التزاماتهم من الألبان التي تعاقدوا عليها. وبعد «خراب مالطة» يتحدثون الآن عن مفاوضات لرفع أسعار توريد الألبان، في الوقت الذي فتحت فيه الحكومة باب استيراد الألبان الجافة المدعمة من الدول المصدرة باعتباره فائضا عن احتياجاتها. علما بأن الحكومة هى التي تنظم كميات وأسعار الأعلاف والكيماويات، وهي التي من خلال بنكها الوطني تقدم القروض لمربي الماشية، وتحدد فوائدها وأقساطها. وبوسعها إذا كانت جادة أن تخفف العبء عن منتجي الألبان بوسائل أخرى. قال ثالث إن بنك التنمية والائتمان الزراعي الذي يفترض أن يرعى تمويل الفلاحين ويشجع التنمية الزراعية، لا يقصر في قهر الفلاحين وإذلالهم. إذ في حين تقدم البنوك المماثلة في العالم قروضها للفلاحين بفوائد تقارب الصفر، فإن بنكنا الهمام يقرضهم بفائدة تزيد على 8 ٪، أما قروض الاستثمار الزراعي فتتراوح نسبتها من 13 % الى 15 ٪.صاحبنا هذا أحد ضحايا البنك، إذ تورط في بناء مزرعة لإنتاج الألبان وضع فيها كل أمواله، واقترض منه 486 ألف جنيه تسدد خلال خمس سنوات، تسلم منها نقدا 461 ألفا فقط، وخصم الباقي استيفاء لتمغات ورسوم وخلافه، وحين حل موعد القسط الأول طلب منه دفع 165 ألف جنيه، منها 97200 جنيه من قيمة القرض، و67800 قيمة الفوائد، وتكرر ذلك على القسط الثاني، بما يعني أن الرجل حصل على قرض ب461 ألف جنيه، سدد منها خلال سنتين 194.400 جنيه، ودفع فوقها فوائد بقيمة 133.262 جنيها، وبعدما أدرك أنه أمام صفقة خاسرة. توقف عن العمل، وتخلص من قطيع الأبقار الذي لديه، ويستعد الآن لبيع الأرض الزراعية التي يمتلكها لسداد بقية قيمة القرض «الميسر»، بعدما بقيت اطلال المزرعة والمحلب الآلي تنعى من بناها. سألني الرجل بعد أن روى قصته: متى وكيف نخرج من بؤرة هذا الاهتمام اللعين؟ الرؤية السبت, 7 نوفمبر 2009