كنت قد انتهيت من كتابة هذه المقالة ليلة اليوم الذي تم الاعتداء فيه عليّ, لأسجل ملاحظتي على خطورة نقل الاختلاف الفكري إلى التخلي عن الدفاع عن الحقوق الأساسية للإنسان المختلف معه. ولا علاقة لهذه المقالة بما جرى معي إذ أشكر كل الذين استنكروا حادثة الاعتداء علي, خصوصاً ممن يختلفون في الرأي معي. ولم أغير في المقالة سوى إضافة فقرة يمكن للقارئ أن يلاحظها. كل المناضلين من أجل الحريات يرددون بنبل لا يُعمّر عند كثير منهم طويلاً مقولة المفكر الفرنسي الشهيرة: "أنا أخالفك الرأي ولكنني على استعداد لأن أموت في سبيل حماية حقك في إبداء رأيك". وإن مما يجلب الإحباط أن يرى المرء معظم حملة رايات الإصلاح والمناضلين من أجل إزالة الظلم والاستبداد حاملين فيروس المرض الذي يقاومون, وإن من أسهل الطرق لإيجاد الأعذار لعدم نصرة حق غيرك عند تعرضه للعدوان, أن تبرز "عيوب" المعتدى عليه في نظرك والتي تجعلك ممتنعاً عن نصرته في حقه الأساسي كإنسان. أما إذا انتصر أحدهم لحق آخر ممن لا يتفق معه في أطروحة ما وممن لا يحظى برضا البعض أو الكثيرين هوجم بالتشكيك في ثباته وكأنه في دفاعه عنه قد تماهى مع أطروحته. ما زال كثير من الناس يعتقدون أن سبب عزوف كاتب هذه السطور عن نشاطه المعتاد هوالاصطدام مع الحكومات ولا يرغبون في تصديق عذره المتمثل في أن الحكومات مكشوفة مواقفها منذ زمن من دون تغيير , إلا أن قوى الإصلاح والتغيير هي التي تكشفت مواقف معظمها وأخلاقياتها بحيث أصبح من العبث مشاركة المطالبين بالتغيير الذين إذا تحقق لهم ما يريدون فإنهم سيعيدون إنتاج الظلم والقمع. وقد رأت أمتنا في العقود الماضية نماذج دالة على ما ذهبنا إليه. نعم! إذا لم يؤسس المصلحون على اختلاف مشاربهم لآداب في الاختلاف, ولرؤية في التعايش, فإنهم يكذبون من دون وعي منهم, وسيلغي فريق منهم الآخر في كل مركز يتمكن منه. فهل هنالك أشد حمقاً ممن يعتقد أنه إذا تمكن من الأمر فإنه قادر على أن يلغي الآخر? إذاً, لماذا لا نتعلم التعايش والتعاضد في ما نتفق عليه من إصلاح ونعذر بعضنا بعضاً فيما نختلف فيه? قال أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه لقاتل أخيه زيد بعد أن عاد عن ردته: "ولله لا أحبك", فسأله: "وهل يمنعني ذلك حقاً يا أمير المؤمنين?" , قال:" لا!" فقال: وما يهمني إذا? إنما يأسى على الحب النساء". من الخاسر إذا لم ينصر قضية حريات أساسية بسبب من عدم رضاه عن الشخص المستهدف? إن ميدان السجال الفكري ميدان منفصل كلياً عن ميدان الدفاع عن حقوق الإنسان? وكل من يخلط بين الأمرين يسقط , ويفقد مصداقيته في هذا الشأن. أسوق هذا الكلام وقد أزعجني جداً تخلي الكثيرين عن استنكار القرار السيىء بإحالة الكاتب ناهض حتر إلى المحكمة بتهمة " إصداره" كتابه " يساري أردني على جبهتين " . وكأن ناهض سيريلانكي ! وليس كاتباً أردنياً تم التضييق عليه في بلده, ففتحت له صحيفة محترمة في لبنان مجالاً لمقالات مهمة تحتوي على تحليلات علمية, وافقته عليها أم لم توافق. فقام بتجميع مقالاته في كتاب حتى يطلع الأردنيون عليها ,فعُدّ ذلك منه جريمة! أليست الجريمة الكبرى إقفال مجال الكتابة أمامه وأمام من هم من أمثاله في بلده? لقد اطلعت على الكتاب, ولاحظت فيه تقدماً ملحوظاً في التعبير عن أكثر المواضيع حساسية والتي يتهم فيها الكاتب ,عادة, بالتطرف . وقد ذاكرت في هذا الشأن الصديق العالم والمفكر الماركسي الدكتور هشام غصيب الذي كان يشاركني الرأي في نقد أسلوب تعبير ناهض المثير فأجابني بأنه قد لاحظ الملاحظة نفسها ; ولا أقصد بالطبع أن أوحي بأن موقف ناهض قد تغير, بل إنه يعرض موقفه بأسلوب موضوعي علمي كان أكثر توفيقاً بكثير من أسلوب سابق. كما لا يعني ذلك أنني لا أخالف ناهض في بعض ما ذهب إليه ,فأنا لا أوافقه على أنه "قليلة جداً حتى الآن, بل نادرة تلك الأصوات الفلسطينية التي أعربت عن تضامنها مع الحركة الوطنية الأردنية في مواجهة مشروعي الوطن البديل ...والدولة البديلة" بل أرى على العكس أن هناك شبه إجماع على رفض الوطن البديل. فإنْ كانت الأصوات لا ترتفع, فهي لا ترتفع في معظم القضايا المحقة الأخرى, ولكن عدم ارتفاع الصوت لا يمثل ما في القلوب بقدر ما يمثل حالة القمع المسببة للكتم . الكاتب نفسه ذكر بأن الحملات الرسمية لشعارات مثل "الأردن أولاً" و"كلنا الأردن" تستهدف فلسطينيي الأردن وليست النية من ورائها توحيد المجتمع على طريق المقاومة بل على طريق الرضوخ للمعاهدة واستحقاقاتها والتي على رأسها الوطن البديل. وفي غياب المعارضة الجادة والرضوخ للقمع وسيادة الصمت طلباً للنجاة, فإن عدم ارتفاع الأصوات لا يعني الموافقة. ولولا هذا الرفض الجماعي شبه الكامل لما حدث ما ذكره ناهض لاحقاً بقوله " لاحظنا مدى السهولة التي استطاعت بها قوى معارضة محدودة إسقاط "مشروع الأقاليم". إن دقة الكاتب في نقد شعار رفض الوطن البديل كشعار سلبي تدل على عمق في التفكير والتحليل لديه, فناهض يصر على أن الشعار الذي يجمعنا جميعاً يجب أن يكون شعاراً إيجابياً, وهو شعار "حق العودة" أما الوطن البديل فقد ينقلب لاحقاً صراعاً حول مكان الوطن البديل لا رفضه. وإن دعوة ناهض لضرورة اجتماعنا, أردنيين وفلسطينيين ,على إنشاء مقاومة مستعدة للدفاع عن الأردن من الزحف الصهيوني , لهي دعوة جريئة إيجابية أتمنى أن يرتفع لمستواها آخرون, كذلك , أتمنى أن يرتفع سواهم إلى مستوى إعلانه الإيمان الكامل بأن الدفاع عن الأردن لا يمكن أن يقوم إلا بالدفاع عن فلسطين, وأن تقاعس الأردنيين عن الدفاع عن فلسطين "كقضية أردنية" لن يتسبب إلا في ضياع الأردن لاحقاً. إن هذا الموقف الدقيق يختلط على كثيرين ممن لا يحبون ناهض فيضخمون ما يمكن تأويله على أنه "عنصرية" بدلاً من تفسيره على حقيقته كخط مقاوم. وبالمناسبة غير المخطط لها فإن الموقعين الإلكترونيين اللذين رفضا الضغوط الأمنية لإزالة رسالتي إلى وزير الداخلية هما موقع "كل الأردن" الذي يشرف عليه الصديق ناهض. وموقع Jordandays الذي يديره ابن الصديق الآخر عدنان أبوعودة المتهم بدوره بما يتهم به ناهض في الطرف الآخر. ولا أعتقد جازماً بأن أياً من الصديقين إقليمي رغم أن كلا منهما قد يخالفني رأيي في الآخر, وأطمح فكرياً إلى تأسيس حوارات بين الصديقين تخرج منها مواقف فكرية وطنية تجمع أبناء الأمة والوطن على النضال وتوقف تشكيك بعضهم ببعض. وأعجب ممن يتهم الصديق ناهض بالطائفية مع أن دعمه للمقاومة التي تمثلها حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان دعم غير محدود , وما نقده لبعض ما يرى من سلبيات عند بعضها إلا من باب الموضوعية. وأذكر بأن ناهض قد وجه لي في السابق نقداً شديداً في بعض المواقف وهذا حقه. ولكنني لم أعتبر ذلك أبداً نقداً صادراً عن "طائفي حاقد" لا سمح الله بل من غيور على وطنه خالفني الرأي . أما إن كان لا سمح الله طائفياً كما يزعم البعض فإنني بالضرورة إذاً ساذج لعدم اكتشافي ذلك طوال هذه السنين رغم علاقته القريبة مني. في مواقف مهمة في مواجهة السلطة على مواقفها, مثل الصمت على غزو العراق ومثل احتمال ارسال قوات أردنية إلى العراق وغيرها مما كانت تضعف عن نقده شخصيات وتنظيمات كثيرة, كان ناهض أصلب المتجاوبين مع تحركي, وفي أكثر من حالة كان هو المتحرك الأول الذي لاقى دعماً مني. ولن يثنيني أي نقد له من أن أقدر ما خبرته فيه شخصياً من وطنية وصلابة وشجاعة. أدعو أصدقائي من كل الأطياف وما أكثرهم والحمد لله إلى أمرين: 1- إلى التضامن مع أنفسنا بالتضامن مع ناهض في هذا الشأن, ومع كل الآخرين الذين يواجهون القمع والمنع, وافقناهم الرأي أم لم نوافقهم. 2- أن يفتح المختلفون فكرياً مع بعضهم بعضا, حوارات هادئة في جلسات خاصة يمكن نشر نتائجها لاحقاً بلغة تليق بآداب الاختلاف دون الانتقال إلى نعت بعضنا بعضا, بالنعوت التي تجعل من التقائنا على عمل وطني مستقبلاً, أمراً غير ممكن. جريدة العرب اليوم (7/11/2009)