عاجل/ رصد طائرات مسيرة حلقت فوق سفن أسطول الصمود..آخر المستجدات ورفع درجة الحذر..    عاجل/ هجوم إلكتروني على هذه المطارات..وهذه التفاصيل..    汽车零部件领域:中国10家供应商代表团赴突尼斯参加对接会    قبل ما تسكر كرهبتك.. اعمل خطوة صغيرة تحمي ''الموتور''!    خطير/صيحة فزع: أكثر من 50% من المؤسسات الصغرى والمتوسطة مهددة بالافلاس والاندثار..    المطر في تونس: وين كانت أكثر الكميّات حسب المدن؟    عاجل: إضراب عام في إيطاليا ...وهذا هو السبب    تاكر كارلسون يُلمح إلى "مؤامرة يهودية" وراء اغتيال تشارلي كيرك    أكسيوس: ترامب طلب عقد لقاء مع زعماء عرب وأردوغان لبحث ملف غزة    جراية التقاعد المبكر للمرأة: شروط، وثائق، وكمية المبلغ... كل شيء لازم تعرفو    كيفاش تعرف السمك ''ميّت'' قبل ما تشريه؟    حفل كبير اليوم في باريس... شوفو شكون من العرب في القائمة    عاجل : مباريات قوية مؤجلة من الجولة السابعة في الرابطة الأولى هذا الأربعاء!    عاجل للتوانسة: عامر بحبّة يحذّر من تقلبات جوية قوية ويكشف هذه تفاصيل    بداية مبشرة مع أول أيام الخريف: أمطار وصواعق في هذه الدول العربية    المفتي هشام بن محمود يعلن الرزنامة الدينية للشهر الجديد    تونس على موعد مع حدث فلكي غريب بدخول الخريف... الشمس تعانق خط الاستواء..شنيا الحكاية؟!    تحذير طبي جديد يخص حبوب شائعة الاستعمال بين النساء...شنيا؟    علامات خفية لأمراض الكلى...رد بالك منها و ثبت فيها ؟    الحماية المدنية : 408 تدخلات خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية    بطولة العالم لالعاب القوى: الأمريكي هوكر يستعيد مكانته بتحقيق ذهبية سباق 5000 متر    القصرين: تراجع إصابات داء الكلب وتواصل الحملة الوطنية للتلقيح    قفصة: تسجيل رجّة أرضية بقوّة 3،2 في الساعات الأولى من صباح الإثنين    5 سنوات سجناً لشيخ حاول اغتصاب طفل بحديقة الباساج    أحكام بين 10 و20 سنة سجنا في قضية تهريب مخدرات أطيح بأفرادها عبر "درون"    6 سنوات سجنا لكهل استدرج طفل قاصر وطلب منه تصوير فيدوهات...    انطلاق حملات نظافة كبرى في دور الثقافة والمكتبات العمومية والجهوية    نقابة المكتبيين وموردي وموزعي الكتاب تنظم دورة تدريبية حول "أدوات ادارة المكتبات"    قراءة سوسيولوجية في تطوّر العلوم لدى المسلمين    محاولة تهريب أكثر من 500 كغ من المخدرات: الاحتفاظ بموظفة في شركة خاصة وموظف في الديوانة    تواصل ارتفاع أسعار السيارات الشعبية في تونس.. وهذه أحدث الأسعار حسب الماركات..    الدورة الاولى لصالون الابتكارات الفلاحية والتكنولوجيات المائية من 22 الى 25 اكتوبر المقبل بمعرض قابس الدولي    تنبيه/ احتجاجات وغلق لهذه الطريق..#خبر_عاجل    تقلبات جوية مرتقبة.. ومرصد سلامة المرور يحذّر مستعملي الطريق    القبض على مروّج مخدرات بحوزته كوكايين وزطلة ..    البطولة الفرنسية : موناكو يتفوق على ميتز 5-2    أول تعليق من أمريكا بشأن اعتراف "حلفائها" بدولة فلسطين    عاجل/ آخر مستجدّات فقدان مهاجرين تونسيّين في عرض البحر منذ أسبوع..    أول لقاء علني بعد الخلاف.. تأبين الناشط اليميني كيرك يجمع ترامب وماسك    السينما التونسية تتألّق في مهرجان بغداد السينمائي... التتويج    طقس الاثنين: خلايا رعدية وأمطار غزيرة محليا مع تساقط البرد... التفاصيل    آفاقها واعدة .. السياحة البديلة سند للوجهة التونسية    قابس...انطلاق الاستعدادات للموسم السياحي الصحراوي والواحي    حافلةُ الصينِ العظيمةُ    لأول مرة في تاريخها ...التلفزة التونسية تسعى إلى إنتاج 3 مسلسلات رمضانية    الصينيون يبتكرون غراء عظميا لمعالجة الكسور    في اليوم عالمي للزهايمر: هذه توصيات وزارة الصحة    رابطة ابطال افريقيا : الاتحاد المنستيري يروض اسود الشرق السيراليوني برباعية نظيفة    الحوت الميت خطر على صحتك – الهيئة الوطنية تحذر    كأس الكنفدرالية الإفريقية: النتائج الجزئية لذهاب الدور التمهيدي الأول    المراقبة الاقتصادية تحجز 55 طنا من الخضر والغلال ببرج شاكير والحرايرية    الجمعية التونسية للطب الباطني تنظم لقاء افتراضيا حول متلازمة "شوغرن"    محمد علي: ''الأسطول يقترب كل دقيقة من غزة.. أما أنتم؟ مجرد أصابع ملوثة على لوحة مفاتيح''    درجات الحرارة لهذا اليوم..    غدا الأحد: هذه المناطق من العالم على موعد مع كسوف جزئي للشمس    تكريم درة زروق في مهرجان بورسعيد السينمائي    استراحة «الويكاند»    ما تفوتهاش: فضائل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكمة العم سرحان: جيلاني العبدلي
نشر في الفجر نيوز يوم 14 - 11 - 2009

ذكراهُ ما انفكّتْ تطفو على سطح ذاكرتي.. مذ جلستُ إليه ذات يوم وشخصيّتُه الحيّة لازالتْ تمثلُ أمامي وحديثُه السّلس المحكمُ لازال يسكنُ في مخيّلتي.
إنّه عاملٌ بسيط نحيفً البنية نشيط الحركة، لا تفارقُ شفتيْه ابتسامتُه الخفيفةُ التي ألفها فيه كلّ الذين تعرّفوا عليه. علا شعره الكثيف شيءٌ من الشيْب، وبدتْ على جبينه العريض علاماتُ كفاح مرير في الحياة، ولكنّه مع ذلك لا يزال يتمتّع بطاقة فاعلة وحيويّة غامرة.
نشأ في أسرة وفيرة العيال شحيحة المال، وشاركها متاعبها الجمّة ومصاعبها العدّة، ولمّا لم يجلس طويلا على مقاعد الدراسة وبالتّالي لم ينل من التعليم غير حظّ يسير، فقد خيّر أن يلتحق بمركز للتدريب المهني حيث تعلم أصول الدّهانة وتمكن من فنون الطلاء، وحالما أنهى مدة التكوين التحق بسوق التشغيل، وأقبل على العمل بحماس فياض وطموح جياش، تُحرّكه في ذلك نزعة دفينة للنهوض بعائلته ورغبة شديدة في التعويض على سنوات حرمانه.
اختار العمل الحرّ الذي يتمتع فيه بالاستقلال لأنّ طبيعته لا تنسجمُ مع الحياة المهنيّة الرتيبة وضوابطها العديدة، ولم تكد تمرّ أشهر معدودة على ممارسته حرفته حتى ذاع صيته، وحدّث النّاس بإتقانه، وتواترتْ عليه عروض شتى في العمل.
كان كلّما تلقّى عرضا قلّبه من جميع وجوهه المختلفة، ودرس تكاليفه بروية، ثمّ تعهّد بإنجازه مقابل أجرة مناسبة في غير شطط، ثم تفانى في إتقانه محترما ما ضربه على نفسه من عهود وما قطعه عليها من وعود، وهذا ما زاد في شهرته وفتح له مزيدا من الآفاق في تحصيل الرزق.
وجدتُه ذات صباح مارّا أمام منزلي وعلى كتفيْه سُلّم يتهادى به كأنّي به يترفّق بشيء رفيع يخشى عليه من أثر السقوط، وحالما بلغ بناية بالجوار أنزله بعناية، ثم ثبّته في الأرض، ثم انصرف إلى إعداد الأخلاط الكافية وأدوات الطلاء اللازمة، وشرع بهمّة في العمل.
تراهُ تارة يركبُ سلّمه في تأنّ، وتارة أخرى ينزلُ عنه في حذر، تارة يقشّرُ الحيطان يُجرّدها تجريدا، وتارة أخرى يطلي الجدران يُلمّعها تلميعا، وهكذا تتابعتْ حركاتُه وتنوّعتْ أنشطتُه إلى أنْ أخذ منه التّعبُ مأخذا كبيرا، عندها جلس أرضا غير بعيد يسترجع أنفاسه وقد أسند ظهره إلى جدار مُولّيا وجهه شطر سُلّمه، ثمّ أشعل سيجارة يمصّها وينفثُ دخانها وهو يحدّقُ في السلّم قبالتهُ يتأمّلهُ كأنّي به يناجيه ويبثّه شكاويه.
قصدتُه أحملُ إليه فنجان شاي لمعرفتي بعشقه غير المحدود لهذا المشروب الذي يعدّهُ وقودا يستمدّ منه طاقته في العمل كما يعدّهُ عربون محبة وتقدير.
لما أتيتُه بشّ لي وهشّ وسبقني بالتحية، فرددْتُ بأحسن منها وناولتُه الفنجان، وجلستُ إليه أبادله الحديث.
سألتُه عن سرّ علاقته بسُلّمه التي ظلّتْ قائمة على مرّ العقود ولم تهتزّ لتقلّبات العهود.
نظر إلى السُلّم مليّا، وصمت قليلا، ثم التفت إليّ، وقال مشيرا بسبّابته:
"لسُلّمي هذا يا ابني مكانة خاصة في نفسي ومساحة واسعة في تفكيري، خضتُ به مُعتركاتي فكان دليلي في حياتي ورفيقي في دروبها المتشعّبة.
كنتُ حريصا على تعهّده وصيانته وحسن استعماله، ولم أستخدمْهُ يوما في غير العمل المحمود والإتقان المنشود، ولم أوظفْه أبدا في غشّ أو جشع أو إخلال بالوعد ونقض للعهد، فلم يغدرْ بي يوما، ولم يعرّضْني لمكروه، ودرّ عليّ خيرا عميما، فستر حالي وأعال عيالي، وعلّمني كيف أتدرّجُ في سُلّم الحياة بتأنّ ورفق وتبصّر وعزم كما لو كنتُ أرقى مدارجه.
بفضل هذا السلّم اشتريتُ قطعة أرض، وبنيتُ عليها منزلا مُحترما، ثمّ جهّزتُه، ثمّ تزوجتُ، وصار لي من النسل أصلحُه، فرعيْتُه أحسن رعاية، ولبّيْتُ حاجاته الأساسية، وما كنتُ يوما مستدينا، وهكذا عشتُ مستور الحال أشتغلُ بالنهار، فينال مني الإرهاق نيلا، وأنامُ بالليل ملء جفنيّ قرير العين هانئ النفس لا ألوي على شيء غير دوام هذه النعمة التي أسبغها الله عليّ.
ومع مرور الأيام والأعوام شعرتُ بعاطفة تكبرُ في نفسي، وإدراك يعظمُ في عقلي تُجاه سلّمي هذا، أصبحتُ أنظرُ إليه أحيانا لا كأداة عمل خاوية لا روح فيها، بل كصديق جليل أو رفيق خليل قد بادلني الإخلاص والوفاء، وقاسمني التضحية والصبر، وحماني من عُسْر الحال وسُوء المآل، وأنظرُ إليه أحيانا أخرى ككتاب مُبين أقرأُ على صفحاته فلسفة الحياة، وأدركُ حقائقها الكبيرة ومعانيها القويمة".
في هذه الآونة توقّف عن الكلام يأخذ نفسا من سيجارته، ويرتشفُ شايا من فنجانه، ثمّ أضاف:
"الحياةُ يا ابني مثلُها كمثل السُلّم كلّنا يجتهدُ في صُعوده بتدرّج، فمنْ أساء التقدير وأخطأ التدبير ظلّ في أسفله أو هوى منْ أعاليه، فانظرْ في واقعنا كمْ من فقير ترقّى بحكمة فصار ثريّا، وكم من ثريّ تعثّر فانحدر في مهاوي الفقر، وكم منْ شقيّ مُكترب تدرّج بصبْر فأضحى سعيدا مُبتهجا، وكم من سعيد تهاوى فأمسى تعيسا مُنتحبا، وكم من حائد عن طريق الحقّ ترفّع وتعالى فأدرك درجة الفضيلة، وكم من سائر في طريق الحقّ زلّتْ به القدمُ فإذا به في مساحيق الرذيلة مذموما مدحورا.
كلّنا يا ابني مُقبلٌ على ترقّي سُلّم الحياة، نقطعُ مشوارها الطويل بتدرُّج، نُولدُ فنشبُّ فنكتهلُ فنهرُم، ولكلّ مرحلة خصائصُها ومُقتضياتُها، حساباتُها وتقديراتُها، وخيرُنا منْ أدرك حقائق الحياة وأحسن الترقّي في سُلّمها".
لم يكد العم سرحان يُنهي حديثه الجميل الزاخر بالحكم والمواعظ حتّى أقبل عليه أحدُ حرفائه القدامى مُسلّما بحرارة مُعتذرا عن قطع حوارنا مُقترحا عليه عرضا لعمل جديد في بناية كبيرة راجعة له بالنظر، عندها استأذنتُ للانصراف حتّى أفسح لهما مجال التباحث، وغادرتُهما مُودّعا وقد غمرني إحساسٌ دافئ لذيذ عذبٌ شبيه بما يلقاه في العادة من يأتي على قراءة كتاب جميل في مبناه وفي معناه.
غادرتُ المكان في نخوة مُنتشيا، وما كنتُ أحسبُ قبل جلوسي إلى العم سرحان أنّ في بسطاء الناس منْ إذا نظر فكّر، وإذا تدبّر اعتبر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.