إذا كان مالك بن نبي قد ضرب صفحاً عما ذهب إليه بعض تلاميذ الشيخ محمد عبده حين قالوا بوجود إشكال في العقلية الغربية، وضمن البناء الثقافي الغربي نفسه، فإنما كان يريد بذلك تجنب المعالجة التبريرية. مثل هذا الموقف الدفاعي عن الذات كان عنده عائقاً عن النهضة، ليس للأسباب التي ذكرناها آنفا فقط، بل لأنه اختيار يَقطعُ مع ما انتهى إليه الفكر العربي الإسلامي في أرقى مراحله، مرحلة الإبداع الخلدوني. لقد ذكر صراحة في أكثر من موضع من تأليفه هذه الوشيجة الفكرية التي تربطه بأطروحة العمران البشري، لكنه لم يتوقف عند ذلك الحد، وما كان له أن يفعل. مرة أخرى نعود إلى تموقع مالك الفكري. إنه في حرصه على التواصل مع الفكر الحضاري ونظرية الدورة الحضارية بمختلف أطوارها لابن خلدون لا يتردد في الانفتاح على فلاسفة غربيين محدثين كان لهم باع في فلسفة الحضارة. كان يعيد بهذا التمازج والتركيب قراءة الفكر الخلدوني في ضوء المستجدات المعرفية والحضارية الحديثة. إنّه "المريد" لكن من نوع آخر، أخذ عن "شيخه" لكنه تابع "شيوخاً آخرين" وتجاوز الأول دون أن ينسى سبقه. هذا التموقع النقدي جعل مالك بن نبي يرفض أن يستغرقه وضع محدد، يحرص أن يعيش على مشارف أكثر من فكرة وأكثر من عصر، وذلك بالربط بينها رغم ظاهر التباين والتباعد. لذلك جاز أن نعتبره رجل "الحدود"، ذلك الذي يريد تخطّي الحواجز الحضاريّة والتاريخية قَصْدَ إرساء جسور بين عوالم مختلفة: الشرق والغرب، أوروبا والعالم العربي الإسلامي، الإيمان الديني والفكر النقدي، الأصالة والحداثة. لعل هذا التموقع الحدودي هو العنصر- الأساس الذي يفسر لنا جانبا هاما من غربة مالك الفكرية في المشرق العربي بل وحتى في ربوع المغرب في حياته وبعد وفاته. هو ذات العنصر الذي جعله لا يشاطر فكر سيد قطب والمودودي لكونهما يدينان كل جلوس بين عالمين ويرفضان تمثلهما الإيجابي ثم تجاوزهما. ذات الاختيار جعله مفكرا ممجوجا لدى التحديثيين المغاربة الذين رأوا فيه كاتبا "تلفيقيا" هو أقرب للترميق (Bricolage) منه إلى الثورة. مع كل ذلك كان ابن نبيّ مستحضِراً بوعيٍ الرؤيةَ الخلدونية المقوّضة في نهايتها للتفكير الخرافي. هو في نظرته إلى ابن خلدون أقرب إلى مقولة فهمي جدعان القائلة إن الأزمنة العربية الحديثة بدأت مع مقدمة ابن خلدون وليس مع مدافع نابليون. ليس بمعنى أن ابن خلدون اصطنع وأبدع العصور الحديثة بل إنه حضّر وأعدّ للعصور الحديثة. بفضل هذا الوعي العقلي أمكن لصاحب المقدّمة إدراك تلك القطيعة بين العالم القديم والعالم الحديث، بين أفول العمران الإسلامي وبين بداية عصر جديد. بعده بقرون، كان مالك بن نبيّ يقول في أواخر أيامه لأهمّ من يسعون إلى لقائه: "إننا في فترة خطيرة تقتضي تغييرات ثورية، فإما أن نقوم نحن المسلمين بالتغيير في مجتمعاتنا، وإما أن تَفرض علينا طبيعة العصر تغييرات من الخارج كما هو حاصل الآن (سنة 1972) في اليمن وظفار وغيرهما لأن هذه هي روح العصر". ثم يواصل فيما كان سمّاه "وصيّته" قائلا: "إن المشاكل العالمية ليست ذات طابع اقتصادي وليست ذات طابع سياسي إلى حدّ كبير ولا ذات طابع اجتماعي لأن المشكلات التي عالجها الفكر الماركسي في متوسط القرن التاسع عشر حُلَّت الآن.. المشكلات التي ستواجه العالم هي مشكلات نفسية، هي بإجمال حيرة النفوس وشعورها بعدم الاستقرار رغم التمتع بجميع الضمانات الاجتماعية.. أما مشكلاتنا نحن فهي اقتصادية اجتماعية". يختم بعد ذلك وصيّته بقوله: "إن نجاحنا في المعركة العالمية سوف يكون بقدر نجاحنا في معركتنا الداخلية". هذه الرؤية الاستشرافية تجعلنا -حين نقرأ كتب ابن نبي- ندرك الخصائص الثلاث الكبرى لهذا المفكر: - جدوى التموقع النقدي - الديناميكية البنائية للآخر - أهمية الفكر الرابط بين العوالم، الرافض للحدود في مجالي المعرفة والإبداع. من هذا الأفق اختار مالك أن يقرأ النهضة حسب الرؤية الخلدونية، وهو ذات الموقع الذي انخرط فيه من قبل شيخه الأول ابن خلدون حين قال في نهاية القرن الثامن "إن دولة الإسلام العربي درست وإن العصر القادم للأتراك العثمانيين". لم يكن للشيخ ولا لمريده بعده علم بالغيب، لكنّ وعيهما وتمثّلهما روح الزمان جعلهما يدركان -كلٌ من موقعه- أنهما على مشارف نقطة تحوّل أساسية ستتضافر الأوضاع الموضوعية بعد ذلك في تجسيدها بشكل حاسم. تلك هي أهمية النخب وتلك هي مسؤوليتهم أمام مجتمعاتهم. إنها مهمة الوعي واستشراف روح الزمان بالتحرر من العَرَضي الظاهر وبالارتفاع الفكريّ إلى مستوى الأحداث الإنسانية. • كاتب تونسي العرب 2009-12-03