بيان للهيئة الوطنية للمحامين حول واقعة تعذيب تلميذ بسجن بنزرت    لاليغا الاسبانية.. سيناريوهات تتويج ريال مدريد باللقب على حساب برشلونة    معرض تونس الدولي للكتاب: الناشرون العرب يشيدون بثقافة الجمهور التونسي رغم التحديات الاقتصادية    كأس تونس لكرة اليد : الترجي يُقصي الإفريقي ويتأهل للنهائي    الاتحاد المنستيري يضمن التأهل إلى المرحلة الختامية من بطولة BAL بعد فوزه على نادي مدينة داكار    بورصة تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث الأداء بنسبة 10.25 بالمائة    الأنور المرزوقي ينقل كلمة بودربالة في اجتماع الاتحاد البرلماني العربي .. تنديد بجرائم الاحتلال ودعوة الى تحرّك عربي موحد    اليوم آخر أجل لخلاص معلوم الجولان    الإسناد اليمني لا يتخلّى عن فلسطين ... صاروخ بالستي يشلّ مطار بن غوريون    الرابطة الثانية (الجولة العاشرة إيابا)    البطولة العربية لألعاب القوى للأكابر والكبريات: 3 ذهبيات جديدة للمشاركة التونسية في اليوم الختامي    مع الشروق : كتبت لهم في المهد شهادة الأبطال !    رئيس اتحاد الناشرين التونسيين.. إقبال محترم على معرض الكتاب    حجز أجهزة إتصال تستعمل للغش في الإمتحانات بحوزة أجنبي حاول إجتياز الحدود البرية خلسة..    بايرن ميونيخ يتوج ببطولة المانيا بعد تعادل ليفركوزن مع فرايبورغ    متابعة للوضع الجوي لهذه الليلة: أمطار بهذه المناطق..#خبر_عاجل    عاجل/ بعد تداول صور تعرض سجين الى التعذيب: وزارة العدل تكشف وتوضح..    قطع زيارته لترامب.. نقل الرئيس الصربي لمستشفى عسكري    معرض تونس الدولي للكتاب يوضّح بخصوص إلزام الناشرين غير التونسيين بإرجاع الكتب عبر المسالك الديوانية    الملاسين وسيدي حسين.. إيقاف 3 مطلوبين في قضايا حق عام    إحباط هجوم بالمتفجرات على حفل ليدي غاغا'المليوني'    قابس.. حوالي 62 ألف رأس غنم لعيد الأضحى    أهم الأحداث الوطنية في تونس خلال شهر أفريل 2025    الكاف: انطلاق موسم حصاد الأعلاف مطلع الأسبوع القادم وسط توقّعات بتحقيق صابة وفيرة وذات جودة    نهاية عصر البن: قهوة اصطناعية تغزو الأسواق    حجز عملة أجنبية مدلسة بحوزة شخص ببن عروس    الصالون المتوسطي للبناء "ميديبات 2025": فرصة لدعم الشراكة والانفتاح على التكنولوجيات الحديثة والمستدامة    انتفاخ إصبع القدم الكبير...أسباب عديدة وبعضها خطير    هام/ بالأرقام..هذا عدد السيارات التي تم ترويجها في تونس خلال الثلاثي الأول من 2025..    إلى أواخر أفريل 2025: رفع أكثر من 36 ألف مخالفة اقتصادية وحجز 1575 طنا من المواد الغذائية..    الفول الأخضر: لن تتوقّع فوائده    مبادرة تشريعية تتعلق بإحداث صندوق رعاية كبار السن    تونس في معرض "سيال" كندا الدولي للإبتكار الغذائي: المنتوجات المحلية تغزو أمريكا الشمالية    إحباط عمليات تهريب بضاعة مجهولة المصدر قيمتها 120 ألف دينار في غار الماء وطبرقة.    تسجيل ثالث حالة وفاة لحادث عقارب    إذاعة المنستير تنعى الإذاعي الراحل البُخاري بن صالح    زلزالان بقوة 5.4 يضربان هذه المنطقة..#خبر_عاجل    النفيضة: حجز كميات من العلف الفاسد وإصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن    تنبيه/ انقطاع التيار الكهربائي اليوم بهذه الولايات..#خبر_عاجل    برنامج مباريات اليوم والنقل التلفزي    هام/ توفر أكثر من 90 ألف خروف لعيد الاضحى بهذه الولاية..    خطير/كانا يعتزمان تهريبها إلى دولة مجاورة: إيقاف امرأة وابنها بحوزتهما أدوية مدعمة..    الدورة الاولى لصالون المرضى يومي 16 و17 ماي بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة    أريانة: القبض على تلميذين يسرقان الأسلاك النحاسية من مؤسسة تربوية    بطولة فرنسا - باريس يخسر من ستراسبورغ مع استمرار احتفالات تتويجه باللقب    سوسة: الإعلامي البخاري بن صالح في ذمة الله    لبلبة تكشف تفاصيل الحالة الصحية للفنان عادل إمام    بعد هجومه العنيف والمفاجئ على حكومتها وكيله لها اتهامات خطيرة.. قطر ترد بقوة على نتنياهو    ترامب ينشر صورة له وهو يرتدي زي البابا ..    كارول سماحة تنعي زوجها بكلمات مؤثرة    هند صبري: ''أخيرا إنتهى شهر أفريل''    قبل عيد الأضحى: وزارة الفلاحة تحذّر من أمراض تهدد الأضاحي وتصدر هذه التوصيات    صُدفة.. اكتشاف أثري خلال أشغال بناء مستشفى بهذه الجهة    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تركيا . . ماذا تريد منا وماذا نريد منها؟
نشر في الفجر نيوز يوم 06 - 12 - 2009

أينما ذهبت فى بلاد المشرق ستسمع من يشيد بما فعله رجب طيب أردوغان حين انسحب من أحد لقاءات مؤتمر دافوس “احتجاجا على أقوال نطق بها شيمون بيريز بينما واصل عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية اللقاء ولم يغادر” . سمعت الرواية تحكى بنغمات مختلفة ولم اسمع سوى مرات قلائل من يحكيها كما وقعت بالفعل، وهو أن أردوغان انسحب لأن دافيد إجناشيوس، وكان يدير الجلسة، لم يعطه حقه في الرد . على كل حال، كانت الرواية كما تداولها الناس في تركيا والشرق العربي والشرق الآسيوي، هي الرواية التي تحن الشعوب إلى سماعها، رواية ترضي أمما باحثة عن بطل، أو أمم تحن إلى دور كان لها وفقدته . لذلك كان استقبال الأتراك لأردوغان عندما عاد من دافوس إلى بلاده أسطوريا، حتى إن صحافيين أمريكيين أعربوا عن الشك في أن يكون الاستقبال غير مدبر أو مرتب من جانب حزب العدالة والتنمية . ومع ذلك فإن التشكيك في عفوية الاستقبال التركي لا يفسر عفوية الشعبية التي حاز عليها أردوغان في أوساط عديدة في العالم العربي، حيث يفتقر الناس بالفعل إلى زعيم يتجرأ ويغادر محفلا يشارك فيه قادة “إسرائيليون” كبار، وبخاصة بعد أن صاروا يألفون منظر قادة عرب من رجال دين وسياسة وثقافة يستقبلون “إسرائيليين” في مكاتبهم ويهرولون نحوهم في المؤتمرات ويتصدرون معهم المآدب والاحتفالات . قد لا يكون هذا الحدث نقطة البداية في مسيرة اهتمام العرب بتركيا وزعمائها، ولكنه بدون شك لعب دور “المسرع” في علاقة جديدة بين تركيا والشعوب العربية والإسلامية .
البداية متعددة النقاط، ولم تكن عشوائية أو وليدة الصدفة، إذ اشتركت أحداث دولية كبيرة فى التأثير على مسارات تركيا أبلغ الأثر، أولها سقوط الاتحاد السوفييتي، ونحن نعرف أن الاتحاد السوفييتي كان التبرير الأقوى أمام العالم لانضمام تركيا لحلف الأطلسي ولقبولها القيام بدور هام في أمن المنظومة الغربية . وثانيها أزمة الخليج الأولى، حين اكتشفت تركيا أن حاجة أمريكا إلى تركيا الإسلامية تفوق حاجتها إلى تركيا العلمانية، وحين كان المطلوب أمريكيا أن تشترك تركيا وسوريا ومصر في الحرب لتحرير الكويت لأنها دول إسلامية وليس لأي اعتبار آخر . ثالثها حرب العراق، فمنذ اليوم الأول تأكدت تركيا أن المصالح القومية التركية لم تعد تتطابق مع المصالح الأمنية الغربية، وأظن أن مصر والسعودية، شعرتا الشعور ذاته وإن بحدة أقل جدا . ساد وقتها اقتناع بأن الغزو الأمريكي للعراق يعني احتمالا قويا بتمزيق العراق . بمعنى آخر، تأكدت تركيا أن أمنها صار مهددا بالاحتلال الأمريكي للعراق وهو الأمن الذي كان يعتمد اعتمادا قويا على استقرار العراق، كاعتماده على استقرار سوريا . أما رابع التطورات التي أقنعت حكومة أنقرة بضرورة تسريع مسيرة تغيير سياساتها الخارجية، فكان خيبة الأمل في تركيا من مواقف دول أوروبية، بخاصة فرنسا وألمانيا، من مسألة الانضمام التركي إلى الاتحاد الأوروبي . هنا لم تكن خيبة الأمل حافزا يدفع نحو التخلي عن حلم الانضمام، بل العكس تماما، وهو أن تعود تركيا من مسيرة جديدة في سياستها الخارجية وفى حقيبتها نفوذ قوي في المنطقة العربية والإسلامية وفى القوقاز ووسط آسيا، وإن أمكن، في إفريقيا جنوب الصحراء .
القوة التركية الناعمة
جلست بقدر ما سمح وقتي ووقتها مع مليحة أتومشبك أستاذة العلاقات الدولية والمتخصصة فى علاقات تركيا بالمنطقة العربية . بادرتني بأنها تتردد على الدول العربية منذ سنوات عديدة، وأنها ذهلت للحفاوة التي استقبلت بها في كافة أنحاء العالم العربي وبخاصة في سوريا التي زارتها الأسبوع الماضي . قالت “ذهلت لدفء استقبالي وللتغير في مشاعر السوريين الذين كنت قبل سنوات أخشى التصريح أمامهم بأنني تركية” .
الفضل في تغيير مشاعر السوريين، وغيرهم من العرب، يعود في رأيي إلى أن تركيا استخدمت وبكفاءة مدهشة عددا من أساليب “القوة الناعمة” في علاقاتها الجديدة مع العرب . تقول مليحة “بضائعنا صارت في كل أسواق العرب، مواقفنا السياسية، وبخاصة موقف حكومتنا من عدوان “إسرائيل” على غزة والمذابح التي ارتكبها “الإسرائيليون” فيها وموقفنا من سعي الدول الغربية لفرض عقوبات على إيران، ودعمنا المعلن لحق إيران في الحصول على التكنولوجيا النووية، وموقفنا من وحدة الكيان العراقي، ودعوتنا قيادات سياسية في السودان وحماس لزيارة أنقرة رغم ضغوط الغرب وإنذاراته، وتوسطنا في لبنان وحصولنا الفوري على قبول حزب الله لنا ولدورنا بل وإعلانه استعداده أن يفضلنا على إيران لو غيرت إيران سياستها تجاه الفلسطينيين، كل هذه المواقف وأكثر منها تعرفونه، جلب لنا شعبية وافرة في الشارع العربي” .
المسلسلات التركية الناطقة بالعربية
لم أكن يوما من عشاق المسلسلات الطويلة متعددة الحلقات وإن كنت من الدارسين لدورها في تشويه ثقافة قائمة وصنع ثقافة بديلة، وكان قد لفت انتباهي منذ سنوات هذا الشغف المكثف من جانب المشاهدين في مصر ودول عربية كثيرة بالمسلسلات التركية . كنت أتحرق رغبة لأعرف إن كان للدولة التركية دور في إنتاج هذه المسلسلات أو تشجيعها والترويج لها، خاصة وأنه سبق لي أن طالبت المسؤولين عن الإعلام في الحكومة المصرية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات التدخل للمحافظة على هذه الموهبة الناعمة التي تمتلكها مصر وحمايتها من الاختراق ومنع توظيفها لصالح مذاهب دينية غريبة عن المزاج المصري ولغرس تقاليد اجتماعية تمارس في دول عربية أخرى وتتنافى مع تقاليد مصر ودرجة تطورها وسمعتها وثقافتها . عرفت وقتها أن منتجين من خارج مصر يفرضون مسلسلات أبطالها يتحدثون بلهجة بين بين، أي بين أن تكون مصرية وبين أن تكون شيئا آخر . عرفت أيضا أنهم يختارون نساء ورجالا يمثلون أدوارا لا تعكس الطبائع الحقيقية للمصريين وإن كان بعضها يعكس حالات منحرفة صارت في نظر المشاهدين العرب والمصريين طبيعة مصرية خالصة بعد عقود من التكرار والاحتكار .
تذكرت قصتي مع هذا الرصيد من قوتنا الناعمة، وأنا أسمع من مليحة وآخرين في تركيا عن الدعم الذي بدأت الحكومة تقدمه إلى المسلسلات التركية التي حازت على رضاء المشاهدين، وصارت تمثل جانبا أساسيا من وسائل الترفيه الأساسية في البيوت والمقاهي العربية . قيل لي إن استطلاعا للرأي أجري في إحدى الدول العربية أثبت أن أكثر من 70 في المائة من نسائها يشاهدن هذه المسلسلات بانتظام . كذلك سمعت من أتراك أن الرجل الذي يملك البيت حيث جرى تصوير مسلسل “نور” قام بتحويله إلى متحف يقصده السياح العرب مقابل خمسين دولاراً للفرد .
تركيا والحكام العرب
لو كنت حاكما عربيا، محكوما بقيود ورثتها عن اتفاقيات مع “إسرائيل” وأمريكا أو معتمدا بالكامل أو بقدر كبير على دعم الغرب وحمايته، فبدون شك لن أنام مطمئنا وأنا أرى “تركيا الإسلامية” تكسب موقعا بعد آخر في قلوب أبناء شعبي أو أمتي . حرمتني لباقة أكاديميين وصحافيين أتراك، خلال لقاءات سريعة، من أن أسمع تفصيلات عن استقبال حكومات الدول العربية الكبيرة للانفتاح التركي على المنطقة العربية . لم يخرج الرد على سؤالي الذي بقيت أردده بصياغات مختلفة عن أن “واجب الحكومة التركية هو أن تتجاوز العلاقات الرسمية وتتوجه إلى الشعوب ورجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني” . أحدهم توسع في الرد فقال” يهمنا جدا أن نقنع العرب بتغيير مناهج التعليم ومحتويات الكتب المدرسية لنمحو الضغائن الموروثة لدى الطرفين” . ومع ذلك اجمع كل الذين قابلتهم على أن المشكلات التي ستواجه حكومة أردوغان على صعيد العلاقات الخارجية لا يجوز الاستهانة بها .
لم أكن أقل تشاؤما من هؤلاء الذين يعتقدون أن مسيرة الانفتاح التركي على العرب ستكون صعبة ومعقدة حين طرحت رأيي قائلا “إن التعقيدات الصعبة ستأتي عندما تجر تركيا معها في رحلتها شرق الأوسطية مشكلاتها، مثل المشكلة القوقازية “الأرمينية - الآذرية”، والمشكلة القبرصية، ومشكلات آسيا التركمانية، والمشكلة الكردية، وتطلب من العرب دعمها” .
كنت دائما وأنا صغير، أقف منبهرا أمام مهرج في سيرك يقبض بيديه على خمس كرات وأحيانا سبع يقذفها في الهواء ويتلقاها بحرص يمنع سقوط إحداها على الأرض . تصورت دائما أن مهارة الرجل تكمن في قدرة فائقة على التركيز وتقدير الوقت وحسن توزيعه بين الكرات السبع . وتكمن أيضا في ثقة كبيرة بالنفس .
هكذا تخيلت المهمة الصعبة التي قررت حكومة تركيا تنفيذها وتحمل مسؤولياتها . تخيلت صعوبة التوفيق بين طموحات العثمانية الجديدة، التعبير المفضل الذي يطلقه المحافظون والديمقراطيون الأتراك على السياسة الخارجية التركية الراهنة، وبين المبادئ الكمالية الأتاتوركية التي اختارت التركيز على الداخل وعدم الاهتمام بالخارج، بحجة أن تحقيق السلام في الداخل يضمن تحقيق السلام في الخارج . وأظن أن فكرة قريبة من هذا المبدأ الأتاتوركي يعتنقها كثير من الحكام العرب . تخيلت كذلك صعوبات أخرى في التوفيق بين سياسات وسياسات، مثلا بين المصالحة مع أرمينيا من ناحية وسياسات التحالف التقليدية مع أذربيجان من ناحية أخرى خاصة ونحن نعرف أن بين الدولتين نزاعا عجزت قوى عظمى عن تسويته، أو التوفيق بين سياسات هدفها كسب ود العرب وسياسات غرضها عدم فقدان “إسرائيل”، وبين دعم تطلعات حكومة إيران ونقمة حكومات عربية عليها وخوفها منها، وبين التقارب مع كردستان العراق والمحافظة على وحدة العراق وكلاهما هدفان استراتيجيان، أو التوفيق بين الانفتاح على العرب والمسلمين والانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، وبين صعود شعبية تركيا في العالم الإسلامي وعضويتها في حلف الأطلسى الذي يخطط مع “إسرائيل” لغزو إيران والتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية .
حفزني التفكير في هذه الحقبة السياسية التي تحوي أهدافاً وطموحات صعبة المنال وبعضها شديد التناقض إلى البحث عن تفسيرات مقنعة وإجابات مفصلة لأسئلة بالفعل حائرة . توجهت بقائمة من الأسئلة إلى أحد كبار الدبلوماسيين الأتراك، جانب منها يتعلق بمسيرة الانفتاح على العالم العربي، ويتعلق جانب آخر بتجارب في التعامل مع قضايا داخلية أعتقد اعتقادا قويا أن كثيرين من مفكرينا يترددون في الاقتراب منها، بينما فى تركيا اقتربوا منها بالفعل، ورأيتهم يتعاملون معها .
سألت الدبلوماسي الكبير، متعمدا لفت انتباهه إلى السهولة التي تحقق بفضلها الانفتاح على العرب في خطواته الأولى . سألته إن كان المسؤولون الأتراك يدركون أن العرب ليسوا، كما تصور العثمانيون القدامى، كتلة واحدة . وأضفت قائلا “إن العرب الآن يتوزعون على اثنين وعشرين دولة، لكل منها علم وحكومة وشركة طيران ولهذه الدول حكام يعتقد بعضهم، وبكل الثقة، أنه وحده الأعمق فهما لأحوال العرب وأمنهم ومصالحهم، وهو الوحيد الذي يمكن أن يؤخذ رأيه باطمئنان، وإذا تجاوزته تركيا أو لم تتوقف عنده طويلا لتستشيره خلال زحفها الجديد وتطلب نصيحته فسيشن حربا إعلامية وسياسية ضدها ويهيج شعبه ضدها ويؤلب زملاءه من الحكام العرب على تركيا” . قلت أيضا إن تركيا الأتاتوركية، على عكس تركيا العثمانية، تجاهلت حقيقة أن فيها شعوبا من أصول عرقية ودينية وطائفية مختلفة عن أصل الجسم الرئيسي للأمة التركية . هذا الأمر ليس ممكنا تكراره في تركيا اللبرالية وبالتأكيد ليس ممكنا في العالم العربي بأوضاعه الراهنة، حيث صارت مشكلة الهوية القضية التي تتحدى أكثر من غيرها ذكاء الحكام العرب وخبرتهم وحنكتهم . أضف إلى ما سبق رواسب الماضي الشديدة منذ أيام الإمبراطورية وبعدها في أيام الغطرسة الأتاتوركية . عدت إلى سؤالي فصغته كالآتي: “كيف استعدت الدبلوماسية التركية لهذه التحديات التي ستواجه حتما مسيرة عودتها إلى العالم العربى؟” . وتدفقت أسئلة أخرى . سألت عن الحد الذي وصلت إليه تركيا على طريق إبعاد المؤسسة العسكرية عن السياسة ووقف تدخلها في الوظائف والمهام السياسية . وسألت، أيهما لعب الدور الأكبر في تحقيق هذا الانسحاب الملحوظ من جانب العسكر، أهو الداخل أم الخارج، وأقصد تحديدا الشعب والطبقة السياسية أم الاتحاد الأوروبي وضغوط الولايات المتحدة؟ . ولم أخف عنه اقتناعنا في دولنا وفي العالم النامي عموما بأن مشكلة دور الداخل والخارج في تحديد مسارات بلادنا التنموية والديمقراطية تكاد تشل حركتنا السياسية وتؤثر بشكل حاد في تحديد اختياراتنا الخارجية واستقلال قراراتنا .
كذلك كنت مهتما بشكل خاص أن أسأل عن قدر الإنجاز الذي تحقق في تركيا في مجال إصلاح القطاع الأمني ووقف تجاوزات الشرطة وغيره من أجهزة الأمن المتعددة، وما إذا كانت تركيا قد تأكدت من أن لا عودة إطلاقا بعد الآن من جانب أجهزة الأمن لاستخدام أساليب قمع وانتهاكات لحقوق الإنسان، ولو بالقدر الذي نجحت به بعض دول أمريكا اللاتينية ودول في أوروبا الشرقية . لم أنتظر إجابته إذ كان سؤالى التالي على طرف اللسان منذ اللحظة الأولى وكان واضحا على قسمات وجهي تلهفي لسماع الرد عليه .
سؤالي كان عن تفاصيل المؤامرة التي يحاكم بسببها ضباط في الجيش كانوا يخططون لإثارة فوضى في تركيا عن طريق شن حملة اغتيالات لقادة المعارضة والطوائف غير الإسلامية والكردية . وكنت أعلم أن رئاسة الأركان ترفض الإدعاءات الحكومية، وأن الصدام بين السلطة المدنية والسلطة العسكرية مؤجل لا محالة لأنه على عكس الصدامات السابقة نتائجه غير مؤكدة، فالحزب الحاكم يتمتع بشعبية متصاعدة، وقواعده في القرى والمدن الصغيرة قوية، والانتماء للهوية الإسلامية، وإن باعتدال وثقة في النفس واقتناع بمزايا الديمقراطية، كاسح . لم أحصل من الصديق التركي على إجابات شافية . ولا أخفي أنني خرجت بانطباع أن “الموظفين” الأتراك كالموظفين في عديد من الثقافات لديهم حسابات أخرى .
الأتراك قادمون
نعم تركيا عائدة إلى المنطقة العربية، تعود كدولة وليس كإمبراطورية، كما يقول إينالشيك هاليل أستاذ التاريخ بجامعة بيكنيت بأنقرة، تعود بالقوة الناعمة، اقتصادية كانت أم تلفزيونية أم دبلوماسية . وليس بالقوة الصلبة أو الخشنة، ولكنها تعود . ويشير إلى أن في الغرب الآن حيرة وتردداً واستفسارات شتى، هل يؤيدون الزحف التركي بأمل التقريب بين المسلمين والغرب أم يعرقلونه خشية عواقب اجتماع هويات إسلامية ضد “إسرائيل” ومصالح الغرب . سمعت من أستاذ آخر أن المسؤولين يلاحظون كثافة ما ينشر في الآونة الأخيرة من مقالات في صحف الغرب تتضمن تهديدات مبطنة لهم . مثال على ذلك ما كتبه سانار كاباتاي ويعمل مستشارا فى معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى التابع لجماعة الضغط اليهودية، متسائلا فى خبث واضح، “هل قررت تركيا الرحيل عن الغرب؟” . وبخبث أشد يذكّر المسؤولين في واشنطن بأن حزب العدالة والتنمية، الذى يقوده أردوغان، كان صاحب وصف هجوم القوات الأمريكية على الفالوجة بأنه حرب إبادة، وأنه الزعيم التركي الذي اتهم حكومة عباس في الضفة الغربية بأنها غير شرعية، وهو الذي انتقد بشدة هجوم “إسرائيل” على غزة ومنع قواته المسلحة من الاشتراك فى المناورات الدورية المشتركة مع “إسرائيل” . سانار وغيره عشرات من كتاب المقالات فى الصحف الأمريكية يشنون حملة شرسة ضد حزب العدالة والتنمية بسبب هذه المواقف . وباطمئنان شديد يتحدث محللون أتراك عن مستقبل علاقات بلادهم بالغرب . يقولون إن الغرب ليس واحدا ولا موحدا . ويضربون المثل بنصيحة أوباما للأتراك خلال زيارته الشهيرة لتركيا بأن يواصلوا التقدم ضمن أوروبا الموحدة، وهي النصيحة التي دفعت ساركوزي الرئيس الفرنسي إلى توجيه نقد لاذع إلى أوباما في أول صدام علني بينهما عندما طالبه “بأن يهتم بشؤونه ولا يتدخل في شؤون الآخرين” . ولا ينسى الأتراك لساركوزي خطابه الذي دعا فيه زعماء أوروبا إلى التوقف عن الكذب . وأضاف “لا أستطيع أن أقول لطلاب مدارس فرنسا أن حدود أوروبا تقف عند سوريا والعراق . تركيا تقع في آسيا الصغرى وليس في أوروبا .” ولعل أكثر ما آلم المسؤولين الأتراك في انتخاب رئيس وزراء بلجيكا رئيسا للاتحاد الأوروبي لم يكن تصريحه عام 2004 الذي قال فيه “تركيا ليست جزءا من أوروبا . . ولن تكون” وإنما أن تصريحه هذا لم يقف عائقا ضد ترشيحه وانتخابه من جانب قادة الاتحاد .
كنت استمع إلى محدثي يكرر على أسماعي تفاصيل الحملة الإعلامية الغربية ضد مواقف أردوغان وحكومته بينما ذهب تفكيري إلى إعلاميين عرب وصفوا مواقف أردوغان وتصريحات زملائه “بالعنتريات التي لا تخدم بلاده ولا تخدم القضايا التي يتصدى للدفاع عنها” .
هل يكون الترحيب الشعبي بتركيا نتيجة اقتناع بما حققه الأتراك في بلادهم من ديمقراطية وتعليم جيد وإعلاء للمجتمع المدني وتقدم صناعي وتكنولوجي عالي المستوى ودبلوماسية واعية وشجاعة، وكلها إنجازات لم نحقق منها في بلادنا إلا النزر اليسير . أم يكون لأن تركيا توحي بأنها عاقدة العزم على التخلي عن أواصر التعاون الاستراتيجي التي تربطها ب”إسرائيل”، وبدأت بالفعل تتعمد صنع مسافة تتسع باستمرار وتباعد بينها وبين “إسرائيل” .
ما زلنا في بداية مرحلة جديدة في الشرق الأوسط . اللاعبون الجدد ليسوا من الخارج ولكنهم أيضا ليسوا منا، ليسوا عربا .
الخليج:الأحد ,06/12/2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.