"نطلب من الحكومة الفدرالية الإعتراف بنا كأقلية" أجرى الحديث: كمال الضيف فرضت النتيجة الواضحة والمفاجِئة للتصويت الشعبي، الذي أقَر حظر بناء المزيد من المآذن في سويسرا، على جميع الأطراف المعنية من سلطات وأحزاب سياسية ومجتمع مدني ومسلمين، أفرادا وهيئات، إطلاق عملية تفكير جِدية ومعمّقة وإعادة النظر في العديد من المسلّمات والأفكار والمقاربات. وبقطع النظر عن الجدل القانوني والقِيمي والإيديولوجي، الذي تلا يوم الاقتراع، أنحت عدة مداخلات وكتابات وتصريحات باللائمة على المنظمات والجمعيات والاتحادات الممثلة بطريقة أو بأخرى للجاليات الإسلامية في سويسرا، بسبب انكماشها وتحفّظها الزائد عن اللّزوم، وحضورها الباهت (بل تخلُّفها في العديد من الأحيان عن المشاركة) في النقاش العمومي الساخن، الذي شهدته البلاد خلال الحملة التي سبقت التصويت. في الوقت نفسه، حثّت العديد من الأطراف الرسمية والحزبية والدِّينية والجَمعوية، المنظمات والاتحادات الإسلامية والجاليات المسلمة عموما، على مزيد التّنسيق فيما بينها والتعاون مع بعضها البعض لإيجاد هيكل موحّد أو مجلس يجمع بينها، بما يُوفِّر مُحاورين أكفّاء وممثِّلين شرعيين، وطرفا مسؤولا يُمكن للدولة والمجتمع ومختلف الجهات المعنية أن تتحدث وتتناقش وتتفاوض.. وتتّفق معه. الدكتور هشام ميزر، مواطن سويسري من أصل فلسطيني يعمل طبيبا في شرق البلاد ويترأس "فدرالية المنظمات الإسلامية في سويسرا" (تأسست في أبريل 2006)، التي تضم اليوم في صفوفها حوالي 140 جمعية ومركزا ومنظمة إسلامية، تتوزّع على 17 كانتونا وتشمل المناطق اللغوية الأربع للبلاد. وبحُكم الحضور الواسع لهذه الفدرالية، تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى محاوِر مهمة للسلطات وسجّلت حضورا مُلفتا في وسائل الإعلام. يوم 16 ديسمبر 2009، أجرت الحوار التالي مع رئيسها الدكتور ميزر، الذي يُرشّحه كثيرون للعب دور مهِم في سياق بلورة علاقة هادئة وعقلانية وتوافقية بين الأقلية المسلمة والدولة والمجتمع السويسريين في المرحلة القادمة. : أولا، لا مفرّ دكتور هشام من الحديث عن ما بعد 29 نوفمبر، لأنه سيتحول حسبما يبدو إلى تاريخ مهمّ وحاسم في علاقة المسلمين بالدولة والمجتمع السويسريين. ما الذي يُمكن قوله الآن وقد مرّ أكثر من أسبوعين على الحدث؟ د. هشام ميزر: لاشك أنه لابد من القول أن يوم 29 نوفمبر 2009، كان يوما حاسما في تاريخ سويسرا ككُلّ. إننا كنا شهداء على العصر فيما تم في ذلك اليوم، لأنه لم يكن يوما تُسر له القلوب، لا فقط من طرف المسلمين، بل ومن الأطراف الأخرى لما آلت إليه الأمور من قبول المبادرة. المبادرة وما دار حولها من جدل، ونتائج التصويت التي بلغت 57.5% من الناخبين، أثبتت شيئين: أولا أن المصوِّتين لم يكونوا على عِلم شامل بالنسبة لِما صوّتوا عليه ولم يكُن عندهم الإدراك بأن تصويتهم على المبادرة سيؤثِّر على البلاد بأسْرها، وبأن موافقتهم ستكون تعدّيا على أسس تقوم عليها سويسرا بشكل كامل. الدولة السويسرية هي الضامن للحريات، وهي الدولة التي أودعت فيها (معاهدات) حقوق الإنسان، أي المؤتمنة على حقوق الإنسان، ودائما ما تدعو إلى الديمقراطية، وهي في ذلك مثال ونموذج لمكافحة الأشياء التي لا تقوم على هذه القيم. كيف بهذه الدولة الآن أن تنادي بمثل هذه القيم في الوقت الذي لا تقدر فيه على حمايتها في الداخل؟ هذا بالنسبة لذلك اليوم، فهو يوم تاريخي لاشك، لكنه كان يوما أسودا، ليس فقط بالنسبة لنا كمسلمين، وإنما بالنسبة لسويسرا كدولة ذات سيادة وقيم ديمقراطية، ولو أن هؤلاء الذين نجحوا في التصويت كانوا يعتقدون أن هذا دليل على نضج الشعب السويسري، فالنتيجة تدل على العكس. فعلى سبيل المثال، المنارة Minaret (أي المئذنة) التي صوت عليها، لا يوجد لمصطلحها تفسير لا في القانون السويسري الفدرالي ولا في قوانين الكانتونات أو البلديات. منذ ذلك التاريخ، بدأنا نشهد في سويسرا تحركات عديدة وتساؤلات كما طُلب من المسلمين أن يتحدثوا بصوت واحد وإيجاد جهة تمثِّل المسلمين كي تتحاور السلطات معها. باعتباركم رئيسا لفدرالية المنظمات الإسلامية في سويسرا، التي تأسست في عام 2006، تتجه الأنظار إليكم أكثر من غيركم للإجابة عن هذا السؤال. ما الذي يحول دون تشكُّل هيئة أو تجمّع أو انضمام الجميع إلى فدراليتكم في الوقت الحاضر؟ د. هشام ميزر: لا يوجد أي شيء يمنع ذلك، وهذا ما صرحت به في صحيفة تصدر بالألمانية يوم 16 ديسمبر، حيث أنني شرحت ما هي الفدرالية، ووصفتها بأنها وعاء كبير يحوي جميع المنظمات الإسلامية التي تحمِل الشعار الإسلامي وتريد أن تُمثِّل ليس المسلمين فقط بل المصالح الإسلامية القائمة في هذا البلد.. ولكن دكتور، هذه الفدرالية لماذا لم تنضمّ إليها جميع التشكيلات الأخرى إلى حدّ الآن؟ هل تُجرون محادثات أو مفاوضات معهم لتجميع صفوفكم أم لا؟ د. هشام ميزر: المباحثات مع الجهات الأخرى كانت منذ البداية على قدَم وساق، وكانت الدعوة إلى الآخرين من الأساس واردة وموضوعة على الطاولة، لكن أُثبِت لنا أنه لا محال لنا إلا أن نعترف أن ما يقوم به الدكتور فرهاد أفشار (رئيس تنسيقية المنظمات الإسلامية في سويسرا – التحرير) من تمثيل، هو شيء لا يرى ضرورة لإنشائه أو للانصراف عنه وبقِيت عنده ثلاث أماكن كاتحادات وبقي تحت المنظمة التنسيقية. فما تم خلال الثلاث سنوات الماضية، لم يكن إلا اتفاق بيننا وبين الآخرين، حتى لا نظهر بذلك المظهر بأننا نريد التفرقة وأننا نسعى إلى شيء أكبر قبل أن نكون في استطاعة وفي إمكانية أن نلبس الثوب الذي يُناسبنا. ولهذا السبب، تقبّلنا وجود التنسيق الذي كان يقوم تاريخيا مع الدكتور أفشار، ولهذا السبب كان التمثيل له ولي أيضا في مجلس الأديان (يضم ممثل واحدا عن الكاثوليك والبروتستانت واليهود وممثليْن عن المسلمين - التحرير). ومع مرور السنين، وجدنا أن هناك ضروريات أخرى مُلحّة، وهذه الضروريات أثبتت شرعيتها، خاصة أثناء المبادرة وأثناء التصويت عليها وأثناء الفترة التي جاءت بعدها، بحيث أن الضغط أصبح قائما، حتى بالنسبة للأشخاص الذين يعرفون الفدرالية أو لا يعرفونها، توجّهت الأصوات والوجوه إلى الفدرالية وقالوا أنتم تُمثِّلون عددا كبيرا من الجمعيات التي تُغطّي جميع أرجاء سويسرا، وهذا عامل مهمّ جدا أن يُحفَظ في الذاكرة.. إذن، هل تتجهون الآن إلى مزيد من التنسيق أو إلى انضمام "التنسيقية" إلى فيدراليتكم؟ د. هشام ميزر: نحن ندعو إلى الوحدة والألفة والوقوف في صف واحد منذ البداية. وفي سياق ذلك كان لنا اجتماع قبل يومين (13 ديسمبر 2009)، اتّخذنا فيه إجراءات ومواقِف معيّنة، التي تمثل لنا المستقبل القريب والبعيد، حتى نرى إلى أين نحن ذاهبون. تلتقون يوم 22 ديسمبر مع وزيرة العدل والشرطة ضِمن عدد محدود من المسؤولين عن المنظمات والهيئات المسلمة في سويسرا. ما هي الرسالة الأولى التي تودّون إبلاغها إلى الحكومة الفدرالية؟ هل ستكون متعلِّقة مثلا بمسألة ضرورة اتِّخاذ إجراءات حاسمة للاعتراف بالدِّين الإسلامي في سويسرا؟ د. هشام ميزر: الاعتراف بالدِّين الإسلامي كما يطلق عليه "الإعتراف الحقوقي العَلني"، هذا أمر لا يتمّ عن طريق الوزيرة التي سنزورها مستقبلا. وهنا، قد أختلف مع من يقول أن علينا أن نطالب الآن بمثل هذا الإعتراف وفي مثل هذه الأجواء، فنحن نعلَم أن جميع الناس هنا سترفض ذلك لأنه ليس السبيل الذي يُسار فيه بهذا الشكل. إن الاعتراف بالديانات المتعددة لا يتم إلا عن تراضٍ مع من نعيش بين ظهرانيهم. إن علينا أن نقدم أولا أنموذجا إسلاميا سليما مقنعا دالا على الوسطية واستيعاب العصر. عندها نستوفي الشروط المتطلبة للحصول على مثل هذا الاعتراف. بمعنى آخر، أريد أن تنضُج هذه الفكرة من القاعدة وتصل إلى درجة يكون لها قبول تلقائي شعبي واسع. عندها، سنجد المؤيدين الذين يقفوا إلى جانبنا أكبر بكثير مما لو طالبنا الآن بأن يتمّ الاعتراف بالإسلام ومن هناك ننطلق.. ألا ترون أن 43% من السويسريين الذين صوّتوا ضد مبادرة حظر المآذن يمثلون نسبة كبيرة من المجتمع السويسري الذين لا يرون غضاضة في الاعتراف بالدين الإسلامي والتعايش معه واحترام أتباعه؟ د. هشام ميزر: هذا أمر لا أستطيع تحليله بهذا الشكل، لأن الدوافع (الكامنة وراء التصويت) هي دوافع متعددة. فمنهم من يقول مثلا نحن شعب حرّ وعلينا أن نضمن الحريات الأخرى بما فيها حرية الديانات الأخرى، وهناك من يرفض التمييز على أساس العرق أو الدين أو اللون أو اللغة وإلى غير ذلك من الدوافع الأخرى.. إذن أنتم تريدون العمل الهادئ وطويل الأمد الذي يتعامل ويُقنع المواطن السويسري العادي.. د. هشام ميزر: نعم، لأن هذا لا يتم، خاصة في بلد مثل سويسرا إلا بهذا الأسلوب. أنظر إلى تاريخ سويسرا: إذا كان الإنسان ناضجا، سياسيا وتاريخيا، يدرك عندها أن هذه السُّبل لا تؤدّيِ إلى تحقيق الهدف إلا إذا تمّ بناؤها على أسس واضحة ومعالم ملموسة للجميع. ولكن، كيف يُمكن لكم أن تتصلوا بالشعب وأن تتعاملوا معه وأن تبلِّغوه وأن تُفهِموه وتشرحوا له مواقفكم، دون أن تكون لديكم موارد مالية، وهنا يرى البعض أنه لا يمكن الحصول على تمويلات إلا إذا تم الاعتراف رسميا بالدين الإسلامي؟ د. هشام ميزر: هذا خطأ كبير في التفكير، فمن يعتقد أن مسألة الموارد المادية ستُحَلّ عندما يُعترف بالدين الإسلامي وكأنه دين دولة ومقابل ذلك سيُلقى علينا بالملايين، هذا تفكير غير صحيح وخاطئ تماما... عفوا دكتور، أعتقد أنني لم أشرح فكرتي جيدا. في الوقت الحاضر، عندما تعترف الدساتير في الكانتونات بديانات معيّنة، مثل البروتستانتية أو الكاثوليكية أو اليهودية، فإن كل منتسبي هذه الديانة أو تلك، والذين يُعلِنون في وثيقة الضرائب السنوية أنهم يتبعون الكنيسة الكاثوليكية أو الكنيسة البروتستانتية، يدفعون ما يُسمى بالضريبة الكنسية والدولة تأخذ منهم هذه الضريبة ثم تُحوِّلها إلى الكنيسة أو الهيئة أو المجلس، الذي يُمثِّل هذه الديانة أو تلك. فأنا أتحدّث عما يعنيه الإعتراف بدين ما من الناحية القانونية ومن الناحية التمويلية، أي عن شيء موجود في القانون السويسري.. د. هشام ميزر: أنا أعيش في هذا البلد منذ 42 عاما ولدى الإطِّلاع والإتصال والمناقشات الطويلة والعريضة في هذا المجال. من المعلوم أن هذه الدولة لديها موقف حيادي بالنسبة للأديان، وأن الدين والدولة منفصلان، إلا في مثل هذه الحالات... بما يُسمُّونه التقليد الأساسي (أي ان تقاليدهم تقاليد مسيحية الأصل) الذي تقوم عليه هذه الدولة تاريخيا. فهُم لا يعترفون بكافة الطوائف الدينية الأخرى، فاليهود لم يُعترف إلا بقسم قليل منهم والباقي غير مُعترف به، الكنيسة الأرثودكسية غير مُعترف بها، كما لا يجب أن ننسى ما دار بين البروتستانت والكاثوليك عبر التاريخ من حروب... إلخ.. هناك اتفاقات تتِم بين الدولة وبين الكنيسة كمؤسسة مستقلة قائمة بحد ذاتها، أما نحن فلسنا مؤسسات بهذا المعنى، هذه النقطة الأولى. النقطة الثانية، فتتعلق بالأموال التي تجبى عبر الضرائب من المسيحيين حتى تصل إلى المؤسسة (الكنسية) عن طريق الدولة. هذا شيء يختلف عمّا نحن نتمثل به. فالدولة لا تستطيع أن تفرض على المسلمين بمجرد إعلانهم بأنهم مسلمون جباية الضرائب منهم وتوصيلها على الإتحادات المختلفة. أضف إلى ذلك أن 85% من المسلمين (المقيمين في سويسرا) لا ينتمون إلى اتحادات أو جمعيات إسلامية، لذا من الصعب جدا أن تفرض أية دولة كانت مثل هذه الضريبة. د. هشام، حسب الوسائل المعتمدة في البلدان الغربية، مثل بلجيكا والنمسا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ما هو النموذج الأقرب الذي قد ترون أنه يلائم الوضع السويسري أم أنه يجب ابتكار شيء جديد؟ د. هشام ميزر: لابد من ابتكار شيء جديد، لأن الفرق شاسع جدا بين النمسا مثلا وسويسرا، مثلما هو الحال بالفرق بين فرنسا وسويسرا بالنظر إلى المسلمين والإسلام، ما نستطيع أن نحصُل عليه ونطالب به، هو أن نطلب من الحكومة الفدرالية الاعتراف بنا كأقلية مسلمة فوق أراضيها. فالإعتراف بنا باعتبارنا أقلية مسلمة في هذا البلد يكفي كمنطلق. انظر إلى الرومانش على سبيل المثال (وهي أقلية لا يزيد تعدادها عن 35 ألف شخص تتحدث لغتها المعترف بها رسميا والتي لها حقوق محفوظة من طرف الدولة). إن الإعتراف بوضع الأقليات يضمن الحقوق رسميا وبشكل أعمّ مما لو تم الإعتراف بالدِّين فقط. أجرى الحديث: كمال الضيف - swissinfo.ch