بعض ما تنشره الصحف هذه الأيام من أخبار يدخل في باب العجائب والغرائب التي لو أدركها علماء السلف لاعتبرها بعضهم من علامات الساعة الصغرى، لكونها تمثل خروجا وشذوذا على المألوف، وانقلابا على سنن الحياة الطبيعية. من تلك الأخبار حادثة نشرتها «الأهرام» في 17 ديسمبر الجاري، وخلاصتها أن مستشارا بمجلس الدولة اقتحم إحدى المدارس الخاصة في محافظة الجيزة وتعدى بالضرب بالحذاء على مدرس للغة الإنجليزية، كما قامت سيارة تابعة له باقتحام مقر المدرسة وبها مجموعة من الأشخاص على صلة به، ما أدى إلى إتلاف بوابة المدرسة وإحداث حالة من الذعر بين الطلاب، وفهمنا من الخبر أن مديرة المدرسة تقدمت ببلاغ إلى النيابة شكت فيه من تصرف المستشار، وأن النيابة أجرت تحقيقا في الموضوع استمعت فيه إلى أقوال المديرة والوكيل وبعض المدرسين الذين شهدوا الحادث. كنت قد توقفت يوم السبت الماضي (19 ديسمبر الجاري) عند حادث من نوع آخر، وقع فى إحدى مدارس الصعيد (محافظة قنا). حيث اعتدى اثنان من التلاميذ بالضرب على معلمهما وكسرا أنفه، لأنه منعهما من استخدام الهاتف المحمول أثناء الدرس. وهو ما استهجنتُه وأرجعتُه إلى الانقلاب الحاصل في منظومة القيم السائدة وتدهور أوضاع المعلمين، الذي أدى إلى إضعافهم في مواجهة التلاميذ، ما أدى إلى اجترائهم عليهم. الحادثة الأخيرة أفدح من سابقتها، إذا ما ثبتت وقائعها بطبيعة الحال. فالجاني فيها منسوب إلى الهيئة القضائية التي هي من أرفع الفئات مقاما وأكثرها سموا وإجلالا. لذلك فإن أعضاء هذه الهيئة الذين يحرسون القانون ويمسكون بميزان العدل في المجتمع يطالبون بالخضوع لمجموعة من التقاليد الصارمة، التي لا تقيد سلوكهم فحسب، ولكنها تقيد علاقاتهم الاجتماعية ومظهرهم أيضا. وقد حدثني بعض المخضرمين من رجال الهيئة القضائية عن أنهم كانوا يحذرون من الجلوس في الأماكن العامة، حتى أن أحدهم عوتب ذات مرة لأنه تناول الغداء في «كازينو الحمام» بمحافظة الجيزة. كما أنهم كانوا يحذرون من ارتداء البذلات ذات الألوان الفاتحة، لأن الألوان الغامقة تضفى عليهم ما يستحقونه من وقار واحتشام. وقال لي أحدهم إن أحد وكلاء النيابة فُصل من وظيفته، لأنه صفع متهما، وإن قاضيا طلبت منه الاستقالة، لأن رشوة عُرضت عليه رغم أنه رفضها. وبرر ذلك وزير العدل بأن القاضي إذا شاع عنه أنه يمكن رشوته، فينبغى أن يستقيل من منصبه، حتى إذا لم يرتش أو رفض الرشوة. إذا صحت الوقائع المنشورة، فإن قاضي مجلس الدولة الذي تحدّث عنه الخبر ارتكب بما فعله ثلاث جرائم، وليس جريمة واحدة، جريمة بحق المدرسة التي اقتحمها وانتهك حرمتها، وأخرى بحق المدرس الذي استخدم الحذاء في الاعتداء عليه بالضرب فأهانه وحط من قدره أمام التلاميذ، أما الجريمة الثالثة فهي بحق الهيئة القضائية التي ينتسب إليها، لأنه شوّه صورتها وأهان تقاليدها وجرح قدسية الرسالة التي يحملونها، وتلك عناصر من شأنها أن تستدعى إنزال الحد الأقصى من العقاب التأديبي بحقه، علما بأن علو المقام يستدعي عسر الحساب. لا أعرف دوافع الرجل إلى ارتكاب الفعل الذي أقدم عليه، كما أنني لا أعرف ابن من هو أو قريبا لمن، لكن الذي أعرفه أن ثبوت التهمة عليه يجرّده من أهلية الانتساب إلى الهيئة القضائية، وأنه حين رفع الحذاء في وجه المدرس، فإنه أهان قيم المجتمع بأسره، وليس فقط كرامة المعلمين أو كرامة القضاة، ومن حق هؤلاء جميعا أن يعبروا عن استنكارهم واشمئزازهم مما حدث. بقيت عندي كلمة أخيرة خلاصتها أن ما أقدم عليه مستشار مجلس الدولة يُعد من دلائل انهيار التقاليد المعتبرة في المهن المختلفة في مصر، وهي الظاهرة التي تؤيدها شواهد عدة، وتحتاج إلى وقفة خاصة في تفسيرها وتأصيلها، وتحري صلتها بمجمل الانهيارات الأخرى التي شهدتها مصر في هذا الزمن. الرؤية السبت, 26 ديسمبر