كنا نظن وكان كل العالم يظن أن الجدار العازل عنوانا للاستبداد والدكتاتورية والعنصرية والجريمة الأخلاقية...كنا نظن أننا، نحن القادمين من تاريخ حافل بالقيم، حافل بالعبر، حافل بالفضائل والمكارم، والحاملين إلى يوم الناس هذا ولو بكثير من العثرات لشارة أخلاقية ومنظومة عالية من القيم...كنا نظن أنه ليس لنا جدار!!! جدار برلين كان اغتصابا للحقوق وعدوانا على الحريات وتفريقا بين أمة واحدة، وكان منزله أوروبا القرن الماضي حيث فقد الإنسان إنسانيته من قبل على وقع طبول حربين، حملتا شعار النازية والفاشستية والعنصرية، فجاء جدار برلين ليؤكد واقع القيم المهزوزة والمداسة تحت أحذية السياسة والأيديولوجية...ثم سقط الجدار بعد عودة الوعي! ثم كان جدار الخزي والعار، جدار فلسطين الحبيبة ففرق بين القرى ودخل البيوت والغرف وقسّم الأحياء وداس على المعتقدات والأحلام والذكريات..والعالم ينظر من ثقبة باب أسقطت من يافطته عناوين حقوق الإنسان ومواطنته واستقراره وأمنه...كان الجدار الجديد موقعه فلسطين على جرح ينزف في أجسادنا، كنا نهوّن آثاره وندعي أنه وسيلة من وسائل الحرب المعلنة ضدنا، فالعدو أنشأه والعدو أقامه والعدو يبقى العدو! وبقينا بين الأمم بدون جدار، فرغم انتكاستنا الحضارية والتي ولّدت تخلفا في كل المستويات، فإننا لا زلنا نتمسك ببعض التلابيب الأخلاقية التي أورثها لنا الأجداد، ونقبض ببعض الحياء على خيوط رفيعة لا تزال تربطنا إلى مقدس جميل...ومرت الأيام... فرغم هذا السقوط الحضاري التي تعيشه أوطاننا بقيت هذه الورقة الأخلاقية رغم ذبول أطرافها أحيانا في سلوكياتنا، إلا أن البعض من حكامنا أبى إلا أن يسقط ورقة التوت الأخيرة التي يحملها، لتصبح الصورة عارية تماما دون رتوش أو مساحيق...لقد قررت مصر السلطة والحكم أن تبني جدارا عله يلحقنا بركب حضارة الجدران! لقد أصبح لنا جدار! ولكننا أردنا أن نتميز، لم يكن جدارا بين جنسين مختلفين، ولا بين أيديولوجيتين، ولا بين ديانتين، ولا بين ثقافتين...إنه جدار عازل بين الأخ وأخيه، بين الأم وحفيدها، بين أسر وأصهار، بين أناس يحملون نفس الهم، نفس المشروع، نفس الهوية، نفس الثقافة، نفس اللغة، نفس التاريخ، نفس الجغرافيا وإن غلبت على بعضها التضاريس، ولعله نفس المصير!!! كان الجدار العنصري الذي أقامته إسرائيل على الأرض المحتلة مجلبة للعار والخزي لكيانها، ولم تجد لا في الشرق ولا في الغرب من يدعم بصدق وخلق هذا الجدار. كان الجدار الإسرائيلي هزيمة أخلاقية وقيمية لم تفلح إسرائيل في رأب صدعها لدى المواطن البسيط والرأي العالمي، وقد ساهم بناءه في انحدار صورتها وانتقالها من منزلة الضحية التي بنت أطرافها على ذكرى المذابح النازية، إلى منزلة المغتصب والمعتدي التي أورثها إقامة هذا الجدار العنصري. وجاءت مصر الحكم والسلطة لتسحب هذه الصفة اللا أخلاقية وهذه الهزيمة القيمية، فللعرب جدارهم اليوم ولإسرائيل جدارها...جدار أسقط جدارا، أسقط حاجزا نفسيا رهيبا لم تكن إسرائيل قادرة على الإتيان عليه بهذه السرعة. فهنيئا لنا فقد أصبح لنا جدار وهنيئا لمصر السلطة بهذه القفزة الحضارية والإنسانية، وصبرا مضاعفا لأهل غزة، فالجدار والحصار والأنفاق ليسوا إلا قصة قصيرة وإن كُتبت بالآلام والدموع والدماء وسُطّرت تحت عناوين الامبالاة والشماتة، إلا أنها تمثل ساعة من نهار، ساعة في مسار طويل نحو الانعتاق والنصر والتحرر. لقد أفلحت غزة من جديد، كما عودتنا دائما رغم وعورة الطريق ورمادية المشهد، عبر أنفاقها وحصارها وجدارها، بدمعة أطفالها وصبر نسائها وشجاعة رجالها، إلى تعرية النظام العربي إجمالا إلا من رحم ربك، حيث لم يعد يخفى على أحد حتى وإن أغمض العين وسد الأذن، أنه من أجل بقاء هذا النظام الرسمي واستمرار وجوده مستعد أن يخدم أجندات الغير على حساب أجندته، وأن يحصن مصالح الآخر على حساب مصلحة الوطن والأمة، وأن يلبي مطالب الخارج ولو كانت تدوس حاجات قومه وشرفهم ومنظومة قيمهم. ولم يبق بعد هذه التعرية الجديدة والمتواصلة مثقال ذرة من دعوة الجهل أو اللامبالاة، فلن يقول أحد أو يزعم أنه لم يكن يعلم أو لم يكن يعي، فمشوار الاستبداد والجور مر من غزة ويمر من فلسطين، ولعله لن يمر انعتاق كل الأمة وتحررها وعودة وعيها إلا عبر هذه البوابة الصغيرة حجما والكبيرة تأثيرا ووقعا. د.خالد الطراولي [email protected]