رجة أرضية في الجزائر    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    طقس الخميس: سحب عابرة والحرارة تتراوح بين 18 و26 درجة    بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    آخر ملوك مصر يعود لقصره في الإسكندرية!    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    قيس سعيد: الإخلاص للوطن ليس شعارا يُرفع والثورة ليست مجرّد ذكرى    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف تم اختراع الشعب اليهودي ...( 2-2)
نشر في الفجر نيوز يوم 02 - 01 - 2010


تأليف: شلومو صاند / ترجمة وعرض: بشير البكر
كيف تم اختراع الشعب اليهودي ...( 1-2)
ليس هناك وجود لليهود كشعب، هذه هي خلاصة كتاب “كيف تم اختراع الشعب اليهودي؟” (صادر عن دار فايار في باريس) للمؤرخ والأستاذ الجامعي “الإسرائيلي” شلومو صاند، الذي استند إلى جملة من المعطيات التاريخة والدينية، لكي يبرهن على وجهة نظره التي تعرضت لنقد شديد وازدراء من قبل الصهاينة .
كتب أحد منتقدي مؤلف الكتاب “كيف تم اختراع الشعب اليهودي؟” ما يلي: “يتذكر الجميع بعض الملفوظات التي أثارت فضائح: فحسب الإشاعة القادمة من أوروبا أن غرف الغاز لم توجد أبدا في حين أن الإشاعة الثانية القادمة من العالم العربي
تقول إن الهيكل اليهودي في القدس من اختراع المستوطنين الصهاينة، على الرغم من أن القرآن يصف عيسى وهو يصلي فيه واقفا . ولكن مع القرن الآتي والذي يعلن عن نفسه بكونه مخيفا نكتشف أن هذين النفيين ليسا سوى تفصيلين .
كتاب شلومو صاند، “كيف تم اختراع الشعب الصهيوني، من التوراة إلى الصهيونية”، يحل القضية بشكل نهائي . الشعب اليهودي لا وجود له: يا لها من مفاجأة إلهية”، لا يوجد تبسيط أكبر من هذا الكتاب (446 صفحة) تنضح صفحاته إحالات ومراجع ومصادر قيمة .
الآشوريون والبابليون والرومان لم يطردوا أي شعب
ضمن ما نقرأ في إعلان استقلال “إسرائيل”: “الشعب اليهودي الذي أرغم على التوجه إلى المنفى فهو يظل وفياً لدولة “إسرائيل” خلال كل تشتته، ويصلي دونما انقطاع من أجل العودة، يحدوه الأمل، دائما، في استعادة حريته القومية . اليهود الذين حفّزهم هذا التعلق التاريخي أجهدوا أنفسهم، خلال قرون عديدة، على العودة إلى بلد أجدادهم” .
ويستشهد المؤلف أيضاً بشموئيل يوسف أغنون وهو يتلقى جائزة نوبل سنة 1966: “لقد ولدت في إحدى مدن المنفى، منحدراً من الكارثة التاريخية التي قام خلالها تيتوس، الحاكم الروماني، بتدمير مدينة أورشليم ونفي اليهود خارج بلدهم . ولكني في كلّ وقت ومنذ البداية تخيلتني دائما كما لو أني وُلدت في أورشليم” .
ويعيد المؤلف التاريخ الحقيقي إلى نصابه فيكتب: “في البدء يجب أن نُذكّر بأن الرومان لم يمارسوا أبدا الطرد المنتظم لأي “شعب” . كما أنه بإمكاننا أن نضيف أن الآشوريين والبابليين لم يقوموا أبداً بترحيل السكان الذين قاموا بإخضاعهم”، ولكن ما يراه المؤلف لا يعجب منظّري الشعب المضطهد والمطرود في التاريخ . وهنا يستشهد بكتاب إسحاق كوفمان: “منفى وأرض أجنبية”، 1929 . ويرى أننا نجد لدى كوفمان كثيراً من “المنفى” ومن “الأمة” ولكن لا يوجد أدنى أثر ل”الطرد” .
هذا الكتاب، كما يرى صاند: “يشكل إحدى المحاولات المهمة للبرهنة على أن اليهود، خلال منفاهم الطويل، احتفظوا بكونهم أمة عنيدة ومنشقة وليس “ببساطة” جماعة اعتقادية” .
وعن العلاقة بين اليهودية والاسلام يكتب المؤلف أن الإسلام القديم لم يرغم اليهود على اعتناق الاسلام بل طردهم من أراضيهم .
أما عما يروج له اليهود الصهاينة من أن “الذين فقدوا أراضيهم” والذين “طردوا” أو “الهاربين المهاجرين” أخذوا طريقاً طويلة ومؤلمة للمنفى، حسب الأسطورة القومية، تاهوا من دون نهاية عبر القارات كي يصلوا إلى المناطق الأكثر بعداً، وأخيراً، مع مجيء الصهيونية، عادوا أدراجهم ودخلوا، جماعاتٍ، إلى الوطن الذي هجروه . وهذا الوطن، في حقيقة الأمر، لم ينتم أبداً للعرب “الفاتحين” ولكنه من حق اليهود: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” . فيعلّق عليه الكاتب ويقول: “هذا الحكم أو الأمر القومي الذي حصل على شعبيته وعلى فائدته في أحضان حركة صهيونية في مختلف تنويعاتها، كان ثمرة مخيال تاريخي وفي قلبه يوجد المنفى” .
ويضيف المؤلف شارحاً تناقضات وأكاذيب المؤرخين الصهاينة، فيقول: “على الرغم من أن معظم المؤرخين المهنيين عرفوا أنه لم يكن ثمّة أبدا طردٌ بالقوة ل”الشعب اليهودي”، فقد أخذوا تسلسل الأسطورة المسيحية في التقليد اليهودي من أجل أن يتركوها تَشُقّ طريقَهَا بحرية على الساحة العمومية وفي الكتب البيداغوجية للذاكرة القومية، من دون أن يحاولوا كبح مسارها . بل إنهم شجعوها بصفة غير مباشرة وهم يعلمون أن هذه الأسطورة وحدها يمكن أن تؤمّن شرعيتها الأخلاقية للاستعمار من طرف “أُمّة منفية” لأرضٍ يحتلها آخرون”، ويوجه الكاتب انتقاداته للفكر الصهيوني: “ليس مصادفة أن الفكر الصهيوني يستمد مرجعياته من المصادر الإثنو تخييلية القديمة . يستولي عليها باعتبارها كنزا نادرا ويقوم بقولبته على هواه في مختبراته الايديولوجية” .
أمكنة الصمت
في البحث عن الزمن (اليهودي) الضائع كان لليهود وجود كبير في شمال إفريقيا وهو ما يقول الكثيرون من المؤرخين والعلماء، ومن بينهم العلامة ابن خلدون الذي ينقل المؤلف فقرة وردت في كتابه المهم: تاريخ البربر: “قسم من البربر كانوا يَدينون باليهودية، وهي ديانة تلقوها من جيرانهم الأقوياء، يهود سوريا . ومن بين البربر اليهود قبيلة جراوة، وهي قبيلة سكنت الأوراس والتي تنتمي إليها الكاهنة، وهي امرأة قتلها العرب في عصر الفتوحات الأولى” .
يتحدث الكاتب عن فكرة شائعة ولكنها خاطئة عن اليهود، وهي أنهم لم يقوموا بالعمل الدعوي، ويقوم بفضحها . “إن تمثيل اليهود تحت قسمات طبقة منطوية على نفسها وخبأت إيمانها الحاد في أحضان نقاشات تلمودية متعلقة بالفتوى تتناسب بالأحرى مع رؤية مسيحية مهيمنة، كانت مساهمَتُها في إنشاء صورة اليهود في العالم الغربي مُحددة”، ويضيف الكاتب أن “هذا الجانب المهين لهذه الرؤية لم يتم تقبلها من قبل كتابة التاريخ الما قبل صهيونية والصهيونية على الرغم من أنها ظلت خاضعة لها ومخلصة لها .
والحقيقة كما يسطرها هي أنه “قبل انطوائها على نفسها، حين دفعها محيطُهُ المسيحي إلى الهامش، انصرفت اليهودية إلى العمل الدعوي والتبشيري في أماكن كانت عذراء ولم يكن لها أدنى علاقة مع التوحيدية التوسعية”، وذلك “من الجزيرة العربية إلى الأراضي السلافية وإلى جبال القوقاز وهضاب الفولغا والدون والفضاءات الموجودة من حول قرطاجة القديمة، التي دمرت وأعيد بناؤها، إلى الجزيرة الإيبيرية قبل إسلامية، واصلت الديانة اليهودية إيجاد أتباع، وهو ما وفّر لها ديمومة تاريخية . والمناطق التي استطاعت اليهودية أن تتسلل إليها كانت على وجه العموم توجد فيها حضارات في طور التغير، مجتمعات قبلية نحو التحول إلى ممالك . وكانت جميعاً وثنية” .
يرى المؤلف أن ابن خلدون، وهو أكبر مؤرخ عربي في القرن الرابع عشر، “يؤكد أن قسما من البربر على الأقل ينحدرُ من الفينيقيين أو من شعوب أخرى ذات أصل كنعاني قادمة من مكان ما من سوريا والتي اعتنقت الديانة اليهودية (يتحدث ابن خلدون عن الأصول الخميرية لقسم من البربر) . وعلى كل حال فالقبائل التي يتحدث عنها ابن خلدون قبائل كبيرة ومحترمة تمتد على شمال إفريقيا . وعدا “جراوة” التي كانت تستوطن منطقة الأوراس، فإن قبيلة “نفوسة” كانت تستوطن محيط ما تمثله طرابلس في وقتنا، أما قبائل “مديونة” فقد كانت مستقرة في غرب الجزائر الحالية، بينما “فندلاوة” و”بهلولة” و”فزاز” فكانت تتقاسم المنطقة الواقعة اليوم حول مدينة فاس المغربية، في المغرب الحالي . وعلى الرغم من الاعتناق الكثيف للإسلام الذي تبع الفتوحات العربية فإن التقسيم الجغرافي لهذه القبائل يتصادف مع هذه الجماعات اليهودية التي حافظت على بقائها حتى الأزمنة الحديثة” .
ينقل المؤلف فقرات طويلة من كتابات العلامة ابن خلدون، الذي يعتبر حجة زمانه في التاريخ، وخصوصاً حينما يتحدث عن اليهود في الشمال الإفريقي وفي العالم العربي الاسمي . ويستغله المؤلف لدحض الفكرة الصهيونية المغلوطة عن العِرْق اليهودي، فنحن هنا أمام أقوام اعتنقوا اليهودية وليسوا من أصول يهودية . “يتحدث ابن خلدون في أماكن عديدة عن مقاومة ملكة جبال الأوراس الكاهنة للفتوحات الإسلامية . وقد كانت الملكة التي اعتنقت اليهودية معروفة بمواهبها في الكهانة، وهو ما يفسر اسمها “كاهنة” وهي مشتقة من الجذر العبري “كوهن” . وقد حكمت مملكتها بقبضة حديدية، وحين حاول العرب المسلمون فتح شمال إفريقيا نجحت سنة 689 في ضمّ العديد من القبائل الكبرى إلى جيشها ونجحت أيضاً في صدّ جيش حسان بن النعمان القويّ . بعد خمس سنوات، وبفضل سياسة الأرض المحروقة، وبعد أن أحرق المدن والقرى على طول الساحل، انهزمت الملكة وقتلت في قلب المعركة . وقد اعتنق أبناؤها الإسلام وانضموا إلى الفاتحين . وهكذا انتهى حكم طويل يظل تذكره ملفوفاً بكثير من الأساطير ومن الأسرار إلى يومنا هذا” .
لم يكن العلامة ابن خلدون المؤرخ الوحيد الذي اهتم بشأن هذه الملكة، فالكثير من المؤرخين العرب القدماء من القرن التاسع، أشاروا بالتفاصيل إلى معاركها ضد المسلمين . ومنهم الواقدي الذي أشار إلى قسوتها مع رعاياها .
مؤرخون آخرون جاءوا بعد ابن خلدون اهتموا بالملكة اليهودية، التي وصل اسمها إلى مسامع الباحثين المعاصرين . ومن جهة أخرى يرسم المؤرخ الفارسي أحمد البلاذري بسرعة قصة الكاهنة “كما أن بعض المؤرخين الفرنسيين في الحقبة الكولونيالية الفرنسية في الجزائر استغلوا الأساطير القديمة التي تخص الكاهنة، من أجل “التذكير” بأن العرب، أنفسهم، في الماضي، اصطدموا بمعارضة شرسة من السكان المحليين . وفي المقابل فإنه بعد تفكيك الاستعمار أصبحت الكاهنة بطلة عربية أو بربرية، محاطة باعتزاز قومي تجاوز الاعتزاز الذي تحركه جان دارك . ولكن بسبب إشارة الأدب العربي إلى يهودية الكاهنة فإن الأمر أثار فضول مؤرخين صهاينة . . .” الفتوحات الإسلامية لشمال إفريقيا بدأت في سنة 711 من تاريخنا . وقد تم الأمر بمشاركة من فيالق بربرية، وليس من التعسف افتراض أنها كانت تتضمن في ثناياها عددا كبيراً من اليهود . وقد دانت مصادر مسيحية من تلك الحقبة عدم وفاء اليهود الذين استقبلوا بحماسة جيش الغزاة، بل قبلوا تشكيل وحدات مساعدة إلى جانبهم، وبينما هرب العديد من المسيحيين فإن كثيرا من اليهود، منافسيهم، تم وضعهم على رأس العديد من المدن كي يحكموها .
قام دينور، في كتابه “إسرائيل في المنفى” بتجميع الكثير من المصادر عن هذا التعاون الوثيق بين العرب الفاتحين وبين اليهود . “الفيلق الثالث، الذي تم توجيهه ضد إلفيرا، وحاصر غرناطة، وعهد بحمايتها إلى حامية مشكلة من اليهود والمسلمين” .
وفي ما يخص القائد البربري طارق بن زياد: “حين رأى أن مدينة طليطلة فارغة، قام بتجميع اليهود وتركهم مع بعض من رجاله، في حين أنه غادر في اتجاه وادي الحجارة” .
طارق بن زياد، الزعيم العسكري السامي، وأول حاكم مسلم للجزيرة الإيبيرية (والذي منح اسمه لجبل طارق)، كان بربرياً منحدراً من قبيلة “نفوسة”، قبيلة الكاهنة . وقد وصل إلى إسبانيا على رأس جيش مكون من سبعة آلاف جندي سيلتحق بهم في فترة قصيرة خمسة وعشرون ألفاً من المقاتلين من السكان المحليين . ومن بينهم عدد كبير من اليهود . كما يرى المؤرخ الصهيوني دينور .
وبكثير من الحَرَج يتناول هذا المؤرخ الصهيوني حقيقة أن كثيراً من الإخباريين يوردون أن “كل البربر الذين أسهموا في الفتوحات العربية في إسبانيا كانوا متهوّدين” .
صحيح أنه من المبالغة، كما يرى الكاتب، القول إن فتح إسبانيا تمّ منذ البداية وفق عمل منسق ما بين البربر المسلمين والبربر اليهود . “ولكن يمكن أن نكتشف أن التعاون المثمر بين الديانتين في الجزيرة الإيبيرية وصل إلى أوجه مع بداية الغزو، وأن الوضعية التفضيلية لليهود فتحت لهم طرقا جديدة مساعدة للتوسع الجوهري لجماعاتهم . ولم تكن للأتباع القدماء لليهودية إمكانية تهويد الوثنيين والمسيحيين إلا في المراحل الأولى من الغزو العربي، حين كانت الهيمنة المسيحية في تراجع، ولم يكن المسلمون قد بدأوا بعد عملية الأسلمة . وابتداء من القرن التاسع تقلص هذا الخيار، من دون أن يختفي بشكل كامل .
لم يكن المسلمون الأوائل يعادون الديانة اليهودية . كما أن مسار الأسلمة الذي قام به العرب المسلمون “لم يضع حداً للمد المتواصل من أتباع اليهودية في كل جنوب إسبانيا ومن إفريقيا الشمالية . المؤرخ إسحاق بايير، في كتابه المهم عن يهود إسبانيا، سجّل في حينه بإعجاب “أن إسبانيا العربية بدت كأنها تحولت إلى مكان لجوء من أجل اليهود” . وهكذا استطاعت الجماعة اليهودية أن تزدهر من وجهة نظر ديموغرافية، بفضل تهويد محليّ وأيضاً بفضل موجات الفتح والهجرة . تفتحت الجماعة اليهودية، ثقافياً، في إطار تناغُم استثنائي انخلق ما بينها وبين التسامح العربي الذي كان يسود في مملكة الأندلس” .
يلخص الكاتب وضعية اليهود في شمال إفريقيا والأندلس العربية الإسلامية، بكثير من الموضوعية والاعتراف بالحقيقة: “إن حياة اليهود في الوسط الاسلامي تكشف عن أن مجتمعا “متعدد الديانات” يمكنه أن يوجد في عالَم توحيديّ في طريق تشدد القرون الوسطى، في الوقت الذي كانت تهب فيه رياح نزوع متصاعد لإهانة “الآخر” وأحياناً أخرى إلى قمعه بسبب اختلاف اعتقاده”، ويذهب الكاتب في جرأته إلى حد القول: “خلافاً لصورة الماضي التي رسمها مسيحيّون يكرهون الديانة اليهودية والتي استغلّها (هذه الصورة) معادون حديثون للساميون، فإن “دياميس” التاريخ لا تخفي شعباً معذّباً ومنفياً عن الأرض المقدسة بسبب قتله للإله، والذي جاء من دون دعوة، من أجل الاستقرار مع شعوب أخرى” .
سياسة “إسرائيل” الهوياتية
أنصار المحكي اليهودي الخطّي وغير القابل للانقسام يتعبّأون ليس فقط في مجال تدريس التاريخ، أي تاريخهم، بل يقومون باستدعاء البيولوجيا أيضا . فمنذ سنة 1970 تتالت في “إسرائيل” أبحاث “علمية” تحاول جاهدة البرهنة، عبر جميع الوسائل، على القرب الجينيليوجي للعالم بأسره . ويمثّل “البحث حول أصول السكان” من الآن فصاعدا حقلا حصل على الشرعية والشعبية في البيولوجيا الجزيئية . كل هذا في بحث جامح من أجل وحدة أصل “الشعب المختار” .
هذا التصور التاريخي يشكل قاعدة السياسة الهوياتية لدولة “إسرائيل”، وهنا نقطة الضعف، لأنه يفتح المجال أمام تحديد جوهري وعرقي مركزيّ لليهودية، مغذّيا لتمييز يحافظ على البون ما بين اليهود وغير اليهود العرب، كما المهاجرين الروس أو العمال المهاجرين .
ترفض “إسرائيل”، بعد ستين سنة من نشوئها، أن تتصور نفسها كجمهورية وجدت من أجل كل مواطنيها . ما يقارب ربع سكانها لا يعتبرون يهودا، وحسب روحية قوانينها، فإن هذه الدولة ليست دولتهم . وفي المقابل تقدم “إسرائيل” نفسها باعتبارها دولة من أجل يهود العالم، على الرغم من أن الأمر لم يعد يتعلق بلاجئين مضطهدين، ولكن بمواطنين يتمتعون بكامل المساواة في الدول التي يقطنونها . بصيغةٍ ما إن عرقية مركزية من دون حدود تبرر التمييز القاسي الذي تمارسه ضد جزء من مواطنيها باستحضار أسطورة الأمة الخالدة، التي تشكلت من جديد من أجل التجمع على “أرض الأجداد” .
ويواصل الكاتب، من الصعب كتابة تاريخ يهودي جديد، بعيداً عن القبضة الصهيونية . إن اليهود كونوا، بشكل دائم، جماعات يهودية تكونت، في معظم الأحيان، عن طريق التهويد، في مختلف مناطق العالم . إنهم لا يشكلون “إثنية” حاملة لنفس الأصل الأوحد والذي يكون قد انتقل على مرّ تيه امتد عشرين قرنا . وأضاف ان تطور الكتابة التاريخية، مثل مسار التحديث يمران، كما نعرف عن طريق اختراع أمّة . والأمّة شغلت الملايين من البشر في القرن التاسع عشر وخلال جزء من القرن العشرين . في نهاية القرن العشرين رأينا تكسّر بعض هذه الأحلام . وقد قام باحثون، وهم في تزايد مستمر، بتحليل وتشريح وتفكيك المحكيات القومية الكبرى، وبشكل خاص أساطير الأصل المشترك العزيز على قلوب إخباريي ومؤرخي الماضي . إن كوابيس الأمس الهوياتية ستترك مكانها، في قادم الأيام، لأحلامِ هوية أخرى .
إن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل يمكننا الحديث، فعلاً، عن نزوع مبالغ فيه من المؤلف للمبالغة في قراءته للأحداث ولوضعية “إسرائيل”؟ وهل ينطلق الكاتب من حقد مجاني على “إسرائيل”، كما يرى البعض، بل الكثيرون؟ وهل هو بالفعل معادٍ للسامية؟
لا يبالغ الكتاب، وإنما ينطلق من موضوعية جارفة . فمصير “إسرائيل” هو في علاقتها مع جيرانها، وخصوصاً مع الجار، أي الشعب الفلسطيني، ثم إن “إسرائيل” لا يمكنها أن تظل معزولة عن القرية الكونية، التي أصبح عليها العالم . “إن قوة الثقافة اليومية، محلية كانت أم شاملة، هي أكثر قوة وتحديدا من البِيَع اليهودية ومن الأنشطة الفولكلورية الصهيونية في أيام السبت . إن أسس القوة الديموغرافية للمؤسسات اليهودية سوف تتضاءل ببطء ولكن بشكل مؤكد . إن الإقامة المريحة لليهود في بلدان “المنفى” والحبّ الذي لا يمكن كبحه بين الشباب والتدني السعيد لمعاداة السامية، كل هذه الأشياء لها ثمن مرتفع . وتشير استطلاعات الرأي إلى أن “الزيجات المختلطة” في ارتفاع، كما أن الدعم والاهتمام ب”إسرائيل” في تراجع، بين أوساط اليهود الذين تقل أعمارهم عن سن الخامسة والثلاثين . وحسب هذه المعطيات فإن “إسرائيل” لا يمكنها الاستمرار في استمداد القوة من “الشتات الدولي” .
لا يريد الكاتب أكثر من تفاهم بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، وهو مفيد وحيوي من أجل بقاء “إسرائيل” . “كل شركاء السلام عليهم أن يعرفوا أن تفاهما مشتركا حول دولة فلسطينية، إن تحققت، سيسجل ليس فقط نهاية مسار طويل ومؤلم بل يسجل بداية مسار آخر طويل وضروري، وهو ليس أقل تعقيداً، في أحضان “إسرائيل” ذاتها . يُخْشى على الليل الكابوسي أن يكون متبوعاً بفجر مقلق . إن القوة العسكرية الهائلة ل”إسرائيل” وسلاحها النووي وحتى الجدار الخراساني العظيم الذي انغلقت فيه لن تساعدها على تجنب تحويل الجليل إلى “كوسوفو” . من أجل إنقاذ “إسرائيل” من الهوة المظلمة التي تحفرها لنفسها ومن أجل تطوير علاقاتها البالغة الهشاشة مع محيطها العربي، فإنه من الضروري جدا إجراء تغيير أساسي للسياسة الهوياتية “الإسرائيلية” وأيضا تحويل كل نسيج العلاقات مع القطاع الفلسطيني “الإسرائيلي” .
ما الحل؟
يرى شلومو صاند أن الحل الأمثل لمائة عام من الصراع هو “دولة ثنائية الهوية”: “دولة ديمقراطية ثنائية القومية تمتد من البحر المتوسط إلى نهر الأردن” . ولكنه يعترف بأن المسألة معقدة: “لن يكون من المعقول أن ننتظر من شعب يهودي “إسرائيلي”، بعد صراع طويل ودام، وبسبب المأساة التي عاشها عدد كبيرٌ من مؤسسيه المهاجرين في القرن العشرين، أن يقبل بأن يصبح يوماً أقلية في بلده” . ومن هنا ينتهي الكتاب بتقديم نصيحة قاسية ل”الإسرائيليين” ولمن سينتقدونه: “إذا كان ماضي أمّةِ ما يتعلق، جوهرياً، بأسطورة حُلْميّة، فلماذا لا يُبْدأ في إعادة التفكير في المستقبل، قبل أن يتحول الحلم إلى كابوس؟” .
ما كان لهذا الكتاب الذي أحدث صدمة كبرى لدى العديد من “الإسرائيليين”، واعتبروه تجاوزاً كبيراً من هذا المؤرخ للعديد من أطروحات المؤرخين “الإسرائيليين” الجدد، الذين استخدموا طرق التفكيك الديريدية لتقديم قراءة جديدة ل”حقيقة/حقائق” “إسرائيل” . وقد تصدى الكثيرون من الكتاب والمفكرين والمؤرخين “الإسرائيليين” والصهاينة والمتصهينين لمهاجمة الكتاب الذي يعتبر في نظرهم موالياً للفلسطينيين، على الرغم من أنه ليس كذلك، ومن بين المنتقدين الشرسين إيريك مارتي، (وهو كاتب وناقد وأستاذ الأدب في جامعة باريس السابعة، ومعروف بحقده على الفلسطينيين، وسبق له أن انتقد الشاعر الراحل محمود درويش، غير ما مرة)، الذي كتب: كتاب صاند يُظهر هنا فقر وعَوَز “أبستمولوجيته” . صاند “حديث” الاتجاه (ذو نزوع حداثي) . ويريد أن يصبح ميشيل فوكو القرن الواحد والعشرين . إنه يتمنى، وهو يعلن أنّ الشعب اليهودي “اختراع القرن التاسع عشر”، أن يعيد، من خلال التقليد والمحاكاة، إنتاج فوكو الماضي وهو يؤكد أن الإنسان “اختراع حديث” . لكن، بالنسبة لفوكو، كان من الأساسي بالنسبة له أن يفكر، داخل خطاب فلسفي حديث، وبصفة منهجية، في هذا “الاختراع” في المعارف الإنسان ويقوم بتفكيكه .
ويقول إن كتاب شلومو صاند في هذه النقطة يكشف عن ضحالته . لأنه إذا كان يحرم على اليهود أحد تطلعاتهم، التي لم يحققوها كشعب، في أن يتشكلوا كعِرْق، فإنه لا يفكك مفهوم العِرْق . إلا أنه على النقيض، يمنحه، بقصد أو من دون قصد، مكانة حقيقة تعطي نفسها مكانة الحقيقة القصوى . إن خلاصة الكتاب التي هي، في حقيقة الأمر، خلاصة شاذة، تتمثل في منح الشعب الفلسطيني ما يحرمه على اليهود، وهو أن الفلسطينيين هم المنحدرون الحقيقيون، عضوياً، من العبرانيين الأصليين .
يواصل مارتي، وهو متخصص في أدب رولان بارث، انتقاده الحاد لخلاصات الكتاب: “هذه الخاتمة تكشف غائية الكتاب . وفيها نجد الميثولوجيا الرئيسية المقلوبة والتي اعتاد عليها الشعب اليهودي، والتي تعني أن اليهود يصبحون غير يهود، والفلسطينيين يصبحون اليهود الوراثيين” . وهنا يعبر الكاتب الصهيوني عن خوفه من خلاصات الكتاب ويكتب: “ونستطيع، من الآن، أن نستخلص من هو المحتل الشرعي للبلد” .
ويحاول مارتي أن يطهر شلومو وكأنه لا يكترث لليهود: “إن المُؤلف شلومو صاند، من خلال عدم قيامه بتفكيك مفهوم الإرث الوراثي، بصفة جذرية، ومن خلال قيامه، بدل ذلك، بتفضيل الشعب الفلسطيني، يكشف عن كل اللامُفكر فيه الذي يفسد، بطريقة غامضة، ما يمسك به باعتباره مشروعاً تحريرياً . إنه يبرز أن المنهجية التعويضية التي يستخدمها هي، بكل بساطة، مُخاتلة، ويَعْظُم الأمر حين نرى أنه يريد وضعها في خدمة وفاق بين الأعداء”، ويقول “إن نفي الهوية اليهودية فكرة متسلطة، وهي اليوم تشويش عنيد على الفكر المعاصر . من أين يأتي هذا الدوار السلبي؟ يمكن فهمه من خلال قراءة كتاب شلومو صاند . إنه ينطلق من رغبة غامضة في جعل اليهود أشباحاً صافية، أطيافاً بسيطة، وأمواتاً أحياء، وصُوراً مطلقة ونموذجية أصلية للتّيه، صُوَراً لمخادعين وهم يغتصبون، إلى الأبد، هوية ناقصة . فكرة متسلطة أبدية، بعيداً عن الانطفاء، لا تتوقف عن الانولاد، من الآن فصاعداً، مع حُجة ميثولوجية جديدة: الفلسطينيون” .
لا يزال المتصهينون يرفضون وجود شعب آخر إلى جانب اليهود في فلسطين . ولعلّ من أهم حسنات هذا الكتاب هو أنه أنْسَن الشعب الفلسطيني ومنحه حقه التاريخي في فلسطين . ولكن الطريق لا تزال بعيدة وطويلة كي يعترف “الإسرائيليون” أن قَدَرَهُم الدنيوي هو قدر الشعب الفلسطيني، أي شعْبان اثنان في أرض ضيقة واحدة تضيق كل يوم، أكثر فأكثر .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.