دراسة منهجية في أصول الصراع بين أمة الإسلام ويهود دكتور أحمد محمد المزعنن الفجرنيوز · فيما يبدو أنه خاتمة أكبر عملية نصب واحتيال في التاريخ . · أغرب سلوك جنوني : فيه يسلم مالك الوطن وطنه للصوص القتلة. · وصمة العار التي لحقت بأمة الإسلام في " النظام الدولي الجديد " . · مهزلة المقولة الماكرة : " الأرض مقابل السلام " . · مصيدة التفاوض التي اقتيد إليها الفلسطينيون منذ مؤتمر مدريد ! · المضامين الأهوائية للدولة الهوائية ! · المكر الصليبي لقمع أصول الإسلام الجهادي في الشعب الفلسطيني . · أحدث خطة شيطانية لضمان البقاء لدولة يهود على حساب الحقوق التاريخية الثابتة شرعًا وقانونًا وعرفًا للشعب الفلسطيني . · عناصر المنهج الإسلامي التي توضح الحكم على المتفاوضين مع يهود للاعتراف بهم ملاكًا للوقف الإسلامي الخالد :" فلسطين " . المبحث الأول فلسطين :أرضها وأهلها وهمومها رؤية من خارج إطار أوسلو المشؤومة! [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] {ق:37} بقلم : د أحمد محمد المزعنن مقدمة بدأت كتابة هذه الصفحات قبل إعلان المباديء (غزة .. أريحا .. أولاً) ، وقبل توثيق الاعتراف بدولة يهود في حفل واشنطن الشهير في 13 / 9 / 1993م ، وظلت تتنامى حتى أصبحت جديرة بالنشر والإعلان، للتحذير من المصيبة الكبرى والهاوية العظمى التي ينجرف إليها المتهالكون المهرولون ، الذين يتعجلون تسليم صكوك بلادهم (لدولة) البغي والعنصرية من بقايا يهود الخزر الذين لفظتهم كل بقاع الأرض ، وظنوا أن لهم موطىء قدم في أرض القداسات والطهر، ولنذكرهم بالمنهج الإسلامي والإنساني الحاكم للصراع مع ( يهود هذا الزمان) أحفاد قتلة الأنبياء من القردة والخنازير وعَبَد الطاغوت ، المعاندين لله ولرسوله ، المتآمرين على دينه ، وأنهم مهما ادَّعوا من الأباطيل التي أوصلتهم إلى التسلط على مصائر الناس تحت حراب المستعمرين لأرضنا أو المتآمرين الداعمين لهم من الأوروبيين والأميريكان ، فلن يغير ذلك من قضاء الله وقضائه وأحكامه فيهم ، أو فيمن يستمر في عناده يستمرىء الكيد لشعبه ،ويتنكر لحقوقهم الأزلية في وطنهم ، واستمروا في غفلتهم،وفي حملة التضليل ومصادرة حقوق الشعب في أرضه،مما يثبته واقع حالهم الذي يتذرعون به بأنها سياسة وحنكة،وما هي إلا الغفلة والتكالب على الدنيا،وبيع الأوطان بخسيس المغنم.
فليتقوا الله وليعودوا إلى صفوف شعبهم،وليكونوا عضدًا له وسندًا،بدلاً من أن يكونوا في صف اليهود،يجمعون لهم المعلومات،ويعدون معهم الخطط السرية والعلنية لحمايتهم والكيد لأخوتهم في الدين والوطن،بالتنسيق الأمني تارة،وبالخطط الخبيثة تارة أخرى ، وما بدر منهم كان أشبه بقمة جبل الثلج القادم مع (ساستنا) الحكماء الواقعيين الأذكياء المحنكين ، ونسوا الشروط الموضوعية ، والمسلمات المنطقية لكل عملية تفاوض ، وأنها لا تنطبق بأي حال من الأحوال على قضيتنا ، وأن المعارضين لخطهم الاستسلامي الانهزامي الخائن الجبان لا يصدرون عن عناد أو قصر نظر ، وإنما عن رغبة في استثمار عناصر القوة التي لا يزال هذا الشعب يمتلكها
توشك (حنكة (الإخوان!)،السياسية،وبراعتهم الدبلوماسية،وحكمة (الأبوات!) منهم،أن توصلنا وتوصلهم إلى نهاية المصيدة التي بلعوا فيها الطعم في (مؤتمر أنابوليس في 24 /11/2007م ومفاوضات الحل النهائي ) وتهالكوا على المناصب والزعامات ، واستأثروا بما توهموا أنه القرار الذي ألغوا فيه في زحمة الأحداث ثلاثة أرباع شعبهم ، وانفردوا بمن اخترعوا لهم جواز السلطة ليجربوا عليهم (الديموقراطية الفلسطينية !) والسلطة القوية التي تمثلها النجوم التي تلمع على أكتاف العمداء والجنرالات الذين جلبوهم ليحكموا شعب الأصالة والثورة ، وابتكروا تحت وطأة العجز والحصار مصطلح (العصبية الفتحاوية!) هكذا صرح أحد حكمائهم في مقابلة مع إحدى القنوات الفضائية ، وفي إطار تقسيم الأدوار تحت سقف العجز العربي راحوا يركضون خلف سراب من الوهم بالموقع المتكافىء بينهم وبين (يهود)،هم يدورون في بيدر العجز على تربة خلت من ثمرات الحصاد،وقد كلت دوابهم أمام آلات الحرب اليهودية التي حرثوا بها المزارع والبيوت،بعد أن بطشت طائراتهم بأجساد الأبطال وخلطتها بحديد السيارات والمركبات والورش ،فأعادتهم إلى المعدن الذي صيغت منه أبدانهم ،وأخيرًا أسلموا شعبهم بتأجيجهم لما عرف بانتفاضة الأقصى التي كان وقودها وضحاياها الأبطال الذين اعتبروهم خطرًا على مناصبهم ، ونذر فشل لمؤامرة (أوسلو)،وهم متأكدون أن دولة يهود لن تمسهم أو تمس مكتسباتهم أو تمس أولادهم أو أموالهم أو أقاربهم بسوء ما داموا يخدمونها بتقديم القرابين من شعبهم،واكتفوا بتوجيه اللوم والتقريع والإدانة والوصم بضيق النظر، وقلة البصيرة إلى من قاموا يقارعون يهود ؛ ليبرهنوا لهم على أصالة وقوة شكيمة هذا الشعب،واستمرار جذوة الإيمان والوطنية الصادقة، تنتقل (مورثاتها) من الأجداد والآباء إلى الأحفاد والأبناء جيلاً بعد جيل. هذا إنذار للمتفاوضين،ليرعووا،وليتداركوا الأمر قبل فوات الأوان،وليعلموا أنه لا حراساتهم،ولا أعوانهم من اليهود والمتعاونين معهم،ولا مناصبهم تحميهم من غضب الشعب عندما يكتشف في الوقت المناسب بشاعة ما أقدموا عليه ولكن بعد فوات الأوان .(ولقد وقع ذلك في 14 يونيو 2007م في غزة عندما فاض الكيل) لماذا وإلى أين ؟ صفر 1414ه أغسطس 1993م طريق الدم والدموع .. لم تكن فلسطين أرض الإسراء والمعراج أرض الطهر والقداسة والبركة،التي مهرها خاتم الأنبياء عندما شرَّفها بالسجود على ثراها بجبينه الطاهرإمامًا لجميع الأنبياء في ليلة الإسراء والمعراج ، نقول لم تكن وهي واسطة العقد بين ديار المسلمين،وأُولى القبلتين،لم تكن رخيصة يومًا على كل مسلم مؤمن غيورعندما كانت قضيتهم،وعندما كان للدين وتعاليمه،وللذمم وللديار من يغارون عليها،ويصونون حماها،ويبذلون المهج والأرواح فداءً لكل ذَرَّة تراب شرَّفها نبي الهدى بالسير عليها،وإعزازًا لكل كلمة وصفها بها ربُّها في كتابه العزيز،أو ذكرها بها نبيُّه في معرض حديثه عن أرض الملاحم في بلاد الشام التي تشمل منذ الأزل فلسطين وما حولها،وبيت المقدس وأكناف بيت المقدس. لقد كان هذا منهج الأجيال من أمة الإسلام:يصونون حماها،ويبذلون المهج والأرواح والنفوس طلبًا للشهادة فوق ترابها أو الظفر بالنصر المبين،وذلك يوم كان يجمع المسلمين والعرب جبهتهم المتقدمة في كل ساحات النزال شعور عامٌّ بالتوحد والتواصل،وقبل أن تقطعهم الحدود المصطنعة،والأحداث والفتن والنزاعات التي حولتهم حراسًا لذواتهم من ذواتهم،وقبل أن تخلج قلوبهم ونفوسهم وأرواحهم فتنة الخليج اللعينة عام 1990 م،وقبلها حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران ظاهريًا وفي حقيقتها كانت حربًا بين الفرس والعرب يحاربها العراق نيابة عن الغرب ، كما كان يصنفها معظم الذين أشعلوا نارها وأضمروا أو صرحوا بما في نفوسهم،أو اختاروا لها الرموز الثقافية والإعلامية والشعارات الخادعة،ومن بعد ذلك الحرب الثالثة التي اقتنصت العراق من بين بلاد الإسلام وحولته إلى أرض احتلال وسلمته لليهود الحاقدين منذ مارس عام 2003م.
وطوال مراحل الصراع مع يهود ومَنْ خلفهم من أعداء الإسلام لم تضن عليها أجيال الأمة بزهرة شبابها ، وبالشُمِّ الأُباة من خيرة رجالها ، هكذا كان حال كتائب التوحيد من(الإخوان) لمجاهدين الأوائل الذين قدموا من جزيرة العرب على عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود يرحمه الله صاحب الرأي الصائب السديد في دعم الشعب الفلسطيني وتثبيته في أرضه في مواجهة عصابات اليهود القتلة،وكذلك كان هذا حال الأبطال من أرض الكنانة،وحال من تنادى أو استجاب للجهاد والثأر والنزال من أقطار بلاد الشام،وبلاد وادي الرافدين الأوائل،ومن لبَّى نداء الجهاد من السودان وبلاد المغرب،وبقية بلاد المسلمين في كل مكان كان يرتفع فيه نداء التوحي . ومع بداية الخمسينيات من القرن العشرين الميلادي كانت عصابات يهود مثل الهاغانا وشتيرن وزفاي لؤمي،وما عُرِفَ فيما بعد بجيش الدفاع الإسرائيلي يصول ويجول بعد هزيمة الجيوش العربية أمامها في حرب عام 1947م المسرحية،وكانت هذه الجيوش قد دخلت الحرب في فلسطين بأجساد رجالها وأرواحهم،وعلى رأس معظها قيادات خائنة باعتها لليهود،وخانت الله والوطن والدين والشرف،وخذلت المخلصين من جنود الإسلام وعرضتهم للأخطار. منذ هذه السنوات المبكرة بدأت حركة الفداء المنظم وما كان الشعب الفلسطيني إلا أرضًا تنبت فدائيين وكان رائدها في قطاع غزة الخاضع للإدارة المصرية آنذاك المجاهد البطل مصطفى حافظ،وكان ضابطًا رتبته حسب المسميات القديمة للرتب العسكرية في مصر ( صاغ ) أي رائد،وبه كان يُعرف باسم( الصاغ مصطفى حافظ )،أسد من أسود الكنانة الأبطال،بدأ عمله بعد العدوان اليهودي على محطة القطار في شرق مدينة غزة في 28 فبراير عام 1955م،وقد رأيت بأم عيني آثار هذا الهجوم حيث دمر اليهود البئرين اللذين يُزودان مدينة غزة بالماء العذب،وأبادوا حامية الحراسة وكلهم من جنود الهجانة السودانيين،وقد شاهدت صبيحة ذلك اليوم دماءهم الزكية تملأ أرض المحطة في كل مكان خلف الأشجار،ولكن في المقابل شاهدنا آثار الجثث اليهودية التي كانوا قد سحبوها معهم عند انسحابهم نحو خط الهدنة،وكانت ظاهرة على الزروع شرق المنطقة.ومن الأمور المؤلمة التي لا تنمحي من الذاكرة أن فرقة من اليهود كمنوا في ظلال أحد بساتين البرتقال إلى الغرب من نقطة البوليس الحربي عند مفترق طرق استراتيجية غرب مدينة غزة،مستغلين ضوء القمر وظلال أشجار السنط(الغيلانة الشوكية)التي يزرعها الأهالي عادة على هيئة أسوار عالية حول البساتين،وقطعوا أسلاك الهاتف العسكري الأرضي حيث كان هو المستخدم في الجيوش آنذاك،وانتظروا حتى وصول نجدة من الكتيبة الفلسطينية المرابطة في رفح جنوب القطاع،التي أصبحت نواة جيش التحرير الفلسطيني فيما بعد،وكان قوام النجدة ستة وثلاثين جنديًا في سيارة ( لوري ) عسكرية،وقطعوا عليها الطريق عن طريق لغم أرضي،ثم أمطروها بوابل من الرشاشات والقنابل اليدوية فأبادوها حرقًا،ولم ينج منهم إلا السائق بعد قطعت كلتا يديه،وجمع رفاتهم جميعًا فيما بعد في قبر جماعي،على الطريق جنوب نقطة البوليس الحربي على يمين الخارج من غزة إلى المعسكرات الوسطى،وقد نسفه الصهاينة في العدوان الثلاثي على مصر وقطاع غزة عام 1956 م،ولا أدري ماذا حدث له الآن ، أما السائق فقد عاش وواصل تعليمه،وقد كُلِّفَ كاتبُ هذه السطور عام 1963م من قبل لجنة امتحان شهادة الإعدادية في مدينة غزة وكان مقرها وقتذاك مدرسة ناصر الثانوية المطلة على ملعب اليرموك،بأن يكتب لهذا السائق حلول امتحان مادة الهندسة إملاءً منه لعدم تمكنه من الكتابة حسب النظام في مثل تلك الحالات الخاصة.وكانت واقعة المحطة وما حدث للنجدة العسكرية الشرارة التي أشعلت الأحداث في قطاع غزة والتي كان من بين نتائجها صفقة السلاح الشيكي وبداية التوجه نحو الكتلة السوفيتية بعد اليأس من الغرب وتواطئه مع دولة اليهود. جاء البطل مصطفى حافظ إلى قطاع غزة بأوامر من القيادة العليا في مصر لكي يباشر تنظيم حرب العصابات ضد اليهود،فذهب من فوره إلى سجن غزة المركزي،وأخرج منه كل سجين كانت تهمته" اجتياز خط الهدنة "إلى بلده(فلسطين) التي هاجر منها حديثًا،وكانت هذه التهمة ضمن أحكام اتفاق الهدنة بين اليهود والحكومات العربية الذي عقد عام 1950 م،وكان اللاجئون في هذه الأوقات حديثي عهدٍ ببلادهم التي غادروها تحت ضغط العمليات الإرهابية اليهودية،وقد تركوا فيها كل ما يملكون؛على أمل أن يعودوا إليها بعد أن تهدأ الأمور،كما حدث لأهل غزة إبان الحرب العالمية الأولى،وكانوا يصرحون بذلك،ويعتقدون أن الهجرة كما كانوا يطلقون عليها لن تدوم طويلاً! جمع هذا البطل القادم من أرض الكنانة هؤلاء الأبطال من السجن،وانضم إليهم بعض المتطوعين الذين توافدوا عليه نتيجة لما سمعوا عن شخصيته النبيلة،وأخلاقه القيادية العالية،وإخلاصه ومعاملته لهم بكل احترام ورجولة،وأخضعهم لعمليات توجيه معنوي،ودربهم على حرب العصابات،وكان معظمهم من الرجال الذين ولدوا في فلسطين،وقضوا قسمًا كبيرًا من شبابهم في مدنهم وقراهم وبواديهم قبل النزوح عنها عامي 1947م ، 1948م،وأخضعهم لعمليات تدريب قاسية في الصحاري المصرية؛بهدف إعادة صقلهم وإعدادهم ليوم الانطلاق نحو العدو الصهيوني الجاثم فوق أرضهم،واستغل فيهم روح التحفز والحماس والرغبة في الانتقام والثأر،إلى جانب الدراية والمعرفة التامة بطبيعة وطبوغرافية فلسطين التي قضوا فيها شبابهم،وكانت ملاعب صباهم،ومهوى أفئدتهم،وأصلى اليهود بهم نارًا لا ينطفيء أوارها،وكان يرسلهم في جماعات صغيرة تضم كل منها ثلاثة أو أربعة رجال،وعلى رأسهم مسؤول منهم(حكمدار)، وكان تسليحهم من نوع السلاح المناسب لحرب العصابات،رشاش الكارلوجوستاف السويدي الذي أصبح يصنع في مصر باسم الرشاش بورسعيد،ومكعبات الجلجنايت (مواد ناسفة)،وبعض القنابل اليدوية،ويُكَلَّفُ كلٌّ منهم بالمهمة في دائرة المنطقة التي يعرفها حق المعرفة،ويصرعليهم بضرورة العودة سالمين،ويظل جالسًا ينتظرهم على كرسي من الخيزران خارج بيته البسيط على الحافة الغربية للغابة شرقي مدينة النصر وكانت الغابة حينئذ تضم مشتل البلدية،وإذا أدركه النعاس تلقي عليه أسرته بطانية عادية،ويظل نائمًا حتى يوقظه أول(أبنائه)من الفدائيين العائدين من مهماتهم فيبادرونه بالبشارة،ويقدمون له تقاريرهم عن مهماتهم،فهكذا كان يناديهم،هذا حال كتائب الفداء الأولى التي كان قوامها ثلاثمائة بطل،ولكنه لم يدم طويلاً في مهمته تلك فسرعان ما اغتيل بواسطة طرد ناسف على هيئة كتاب عن حرب العصابات حمله إليه عميل مخابرات مزدوج فقد بصره في نفس الواقعة وكان ذلك في 11 يوليو عم 1956 م،وأدى ذلك إلى توقف عمليات الفدائيين من قطاع غزة الذين كان القضاء عليهم هدفًا رئيسًا من أهداف العدوان الأنجليزي الفرنسي الصهيوني على مصر في نوفمبر عام 1956م. وطوال السنوات العشر الممتدة بين (مارس 1957 يونيو1967 م) تعثرت حركة الفداء؛حيث أقامت قوات الطواريء الدولية حاجزًا يحمي حدود الكيان اليهودي مع قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء،وكانت الحدود بين الكيان اليهودي والضفة الغربية محمية من العمل الفدائي بواسطة الجيش الأردني الذي كان أشد وطأة من اليهود على الشعب الفلسطيني،فقد كانت الضفة جزءًا من المملكة الأردنية الهاشمية بعد ضم الأردن لها رسميًا بعد النكبة مباشرة،والحدود مع لبنان تحميها قوات الدرك اللبناني كذلك،أما الحدود مع سوريا فكانت جبهة حصينة تصلي اليهود نيران لا تهدأ وخاصة بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958م. وخلال هذه السنوات جرت تصفية معظم من بقي حيًا من رجال البطل مصطفى حافظ عن طريق إرسالهم في مهمات لا فائدة منها ، وأبعد ما تكون عن المهمات التي سبق أن أعدهم من أجلها قائدهم الشهيد البطل ( يرحمه الله) ،وفي حالات كثيرة كانت قوات الطواريء تبلغ عنهم اليهود عند عبورهم خط الهدنة ، فيتعقبهم هؤلاء بوسائل اقتفاء الأثر حتى يباغتوهم ويقضوا عليهم ، وقد كانت دماؤهم مهدرة من اليهود بسبب البطولات التي أحرزوها بكل شجاعة وإقدام،والنتائج المدوية التي ترتبت عليها في داخل مجتمع العصابات اليهودية. (وقد كنت موجودًا ذات يومٍ بمستشفى الشفاء بغزة عندما أتوا بالشهيد البطل مصطفى شلحة من أهل النزلة والشهيد البطل محمد أبوالكاس من بلدة نِجد وقد أحضرا في صندوقين خشبيين مقطعين ومشوهين في صبيحة يوم من أيام عام 1964 م،في عملية تصفية من هذه العمليات المريبة التي كانت روائحها تزكم الأنوف وتسبب الغليان والغضب السياسي والشعبي العام.) وقد وفرت هذه السنوات وقتًا ثمينًا استطاع فيه اليهود أن يبنوا الكثير من مؤسساتهم،وأن يوسعوا دائرة استغلالهم للأرض بجلب المزيد من المهاجرين الغرباء،وأن يتجذروا في البلاد المغتصبة أفقيًا ورأسيًا،بعد أن جعلهم الفدائيون ينكمشون في المدن،ويحتمون بالمؤسسة العسكرية ،والتنظيمات شبه العسكرية،ولكن وبالرغم من ذلك كانت قد انبعثت في الشعب الفلسطيني في جميع تجمعاته في المنافي روح جديدة،تعتمد على التنظيم والعمل السري، قادها المثقون المخضرمون الذين عاصروا مؤامرة تسليم بلادهم لليهود عام 1947 م،واستمرار المؤامرات لتثبيت ذلك كأمر واقع،إلى جانب أفواج المتعلمين والمثقفين الجدد الذين فتح لهم أبواب الجامعات عبد الناصر وغيره من الزعماء في البلاد ذات الخط القومي العروبي ،أو الذين تمكنوا من الدراسة المجانية ، أو الذين تخطوا الحواجز وواصلوا دراساتهم العليا في الخارج؛حيث كانوا أكثر من غيرهم على خط التماس مع التنظيمات والأحداث في بلاد العالم المختلفة في زمن الحرب الباردة،ودرسوا تجارب التحرر عند الشعوب المستعمرة،ولا شك أنهم أينما ذهبوا كانوا يحملون الهم الوطني،ويقارنون بينهم وبين باقي الأمم التي تعيش منعمة في أوطانها،وأنهم هم الشعب الوحيد في عصر التنوير الذي سُرق وطنُه،وسُلب حقُه في العيش الحر الكريم ، وكان عنوان انتمائهم أنهم وهم يحملون جوازات سفر وجنسيات غير جنسياتهم أو ممن قيدوا بوثائق السفر المحدودة الصلاحية يصرون عند ذكر انتماءاتهم أنهم من مدينة كذا أو قرية كذا في فلسطين الأولى قبل عام 1947م،ولا يزال هذا ديدنهم على الرغم من كل وسائل التذويب والتغريب والتضليل والتجهيل والمطاردة والنبذ . وأتاحت تلك الحالة إلى جانب العوامل الأخرى الفرصة لبناء التنظيمات الطلابية التي كانت محضنًا للقيادات السياسية،وكانت الساحات الفلسطينية تموج بالتنظيمات السرية والعلنية من كل الاتجاهات ، وكان يغلب على معظمها الطابع اليساري،تمشيًا مع الخط الثوري الذي اختارته القيادات المختلفة وسيلة لتحقيق الهدف المجمع عليه وهو تحرير الوطن وحق العودة،أما الجماعات الانتهازية فكانت تستفيد من الأمر الواقع في علاقاتها مع الإدارات المختلفة لمناطق التجمعات الفلسطينية على درجات في الولاء،وكان الكثير منها يتلون تبعًا للتغيرات التي تحدث بين الفينة والفينة بالبلاد التي يقيمون فيها، كما كان يحدث في مرحلة الانقلابات المتتالية في سوريا بعد حادثة الانفصال عن مصرعام 1961م،وقد دفعت الظروف المعيشية الكثيرين ممن كانوا يقيمون في البلاد العربية إلى الاندماج في الأحزاب السياسية في البلاد التي كانت توجد بها أحزاب علنية مثل العراق وسوريا إما عن التزام أيديولوجي،أو تقية لضمان البقاء وعدم إغضاب الحكام،أو اختيارًا نضاليًا حيث فتحت أمامهم الفرص للترقي في صفوف التنظيمات السياسية في البلاد العربية المختلفة. وعندما انطلقت طلائع الفداء الأولى(وتحديدًا حركة فتح عندما كانت حركة فدائية تنظيمية ثورية حقيقية ، وقبل أن تغرق في أوحال السياسة ، ويصبح سلوكها ردود أفعال ، وقبل أن تتورط قيادتها في مشاريع التصفية)كانت هذه الطلائع الأولى تقدم للعدو رسالة من نوع جديد لم يألفه من الأنظمة العربية الرسمية ، وكان مضمون هذه الرسالة : أن للأرض المغتصبة أهلاً يفضلون الموت على التشرد والذل،ولديهم الاستعداد للتضحية مهما عظمت أثمانها،وأنه لا توجد حواجز مهما علت تمنع المجاهدين الثوار من الوصول إلى أوطانهم .وكانت خطوات الثوار الأفراد في البداية نبضًا للقلوب التي أمَضَّها الفراق،وطال بها الانتظار،وكان دوي قنابلهم وأزيز رصاص رشاشاتهم صوت نداء يؤذن بفجر قريب،وكانت العيون محدقة في المجهول تجول في الآفاق البعيدة،تحاول أن تستجمع تفاصيل صورة هذا القادم الجديد وتتعرف على البطل الوليد وهي تخشى من وقع صدمة جديدة؛إذ أنها لم تكن قد أفاقت من هول صدمة الهزيمة النكراء في يونيو 1967م،وأصاخت الآذان السمع مشدودة لتستبين أمر هذا القادم،لتستوثق إن كان رصاصه هو رصاص المجاهد الصادق الذي يسير نحو الوطن السليب،بعد أن كانت قد أُهْدِرَت الطاقات في الصراعات العربية العربية التي قادت إلى هزيمة يونيو 1967م،ولما تبينت أمره،واكتشفت حقيقته فدائيًا فلسطينيًا ملثمًا بالكوفية التي استهوت حتى الأحرار من غير الفلسطينيين أو العرب ، يحمل جرح فلسطين في قلبه،رشاشه في يمينه ،فجعلت له سويداء القلوب مسكنًا،والأرواح حصنًا،وحدقات العيون حارسًا،وأصبح البطل الجديد هاجسًا يوميًا،ومحورًا لأحاديث لا تنقطع على مدار الساعة،وموضوعًا لتيار أخبار متدفق أقض مضاجع أجهزة الإعلام وطور آلات صناعة ونقل الخبر،وغذاها بسيل جارف من الأحداث الملاحقة عزَّ نظيره إلا في الصراعات الكبرى،ونشَّط حركة الكتابة والنشر،وأدخل إلى المعاجم العربية الكثير من المفردات الجديدة عن النضال والشجاعة والاستماتة في سبيل الوطن الذي ندر أن تجد على وجه الأرض له مثالاً،وقدم أنبل صورة لما يمكن أن يفعله الإيمان الصادق في الشعوب،وفجَّر الطاقات الأدبية في الأمة العربية كافة،وألغى الكثير من الحواجز الإقليمية التي رسخَّتها الحدود المصطنعة،واخترق الكثير من المسافات النفسية التي تمنع تواصل أبناء الوطن الواحد ، وصار مطلبًا نضاليًا حتى للذين تحجرت أرواحهم،ووطنوا أمرهم ليكونوا جيرانًا أبديين للغزاة المغتصبين لأرض الإسراء والمعراج،واعتبره الكثيرون علاجًا ناجعا لكل العقد والأمراض النفسية التي أصابت الأمة بالوهن،وأفقدت الكثيرين الثقة في أنفسهم،وكادت أن تقذف بهم في هاوية اليأس والقنوط. ولكن البطل القادم من خلف حجب الغيب ، ومن ظلمات بحار المستحيل،ومن بيداء اليأس،لم يُتْرك ليحتل الساحة الطبيعية لنضاله،ولا أعطيَ الفرصة لمنازلة أعدائه الحقيقيين،محتلي أرضه،ومغتصبي حقه الطبيعي في الحرية والحياة الكريمة من فلول اليهود الصهاينة ، وكان العزاء حينئذ أن الفرص لا تُمنح ، بل تُؤخذ وتُكتسب ، وأن الشعوب لا تعيدها إلى الحياة إلا أنهار الدماء والتضحيات،ولا تعود إلى الجغرافيا إلا إذا عادت أولا ًإلى التاريخ،وكان التاريخ يومئذ قد توقف قطاره في أواخر الستينيات من القرن العشرين الميلادي،وذلك بعد هزيمة يونيو 1967م،فاستطاع هذا الراكب الجديد أن يلحق بالقطار لأول مرة منذ عام النكبة،وكان هو الوحيد الذي يصر على رفع الرشاش بيد،ويبشر الجماهير المحبطة اليائسة بعلامة النصر بسبابته والوسطى،ملثمًا بالكوفية الفلسطينية التقليدية المعروفة. ولكنهم لم يلبثوا ان أدموه في(محطة عمَّان)المذبحة في أيلول عام 1970 م،وظنوا أنهم دفنوه في أحراش جرش شمال الأردن،ولكنه كان قد أوثق قدميه إلى القطار بحبال من الدماء والعظام والجماجم والأيتام والأرامل والثكالى والجرحى والشهداء الذين يصعب على قطار الزمن أن يتجاهلهم فالكتابة المسجلة بدماء الشهداء تظل تتجدد مع فصول السنة أزهارًا وأشجارًا وأنوارًا وروائح عبقة تملأ الكون وتغطي على كل آثار العفونة والخيانة والغدر، فظل ممسكًا بقبضته في القطار حتى اختاروا له ( محطة الجولان )،ثم باعوه باتفاقية القاهرة 1968م بين السلطة اللبنانية والمقاومة واختاروا له المحطة الأخيرة في لبنان. وطوال سنوات الملاحم في لبنان ظلَّ الجميع بكل اتجاهاتهم وعلى مختلف دوافعهم الشريفة وغير الشريفة مع هذا القادم الجديد الذي أنساهم الشعور بالدونية أمام عدو رسَّخ في أذهان المنهزمين بأنه قوة لا تقهر، وأعاد للأمة بعض كرامتها التي أهدرتها قيادات الجيوش الرسمية التي لا تحمل في الحقيقة إرادة هزيمة العدو،وتكبل حركة الجندي العربي فيها بدوائرالقرار السياسي الذي أحيانًا يسيء تقدير وفهم المصلحة الحقيقية للأمة،هذا إن كان في أولوياته اعتقاد وجود أمة على الإطلاق! أنشئت منظمة التحرير الفلسطينية بقرار من مؤتمر القمة العربية المنعقد في الإسكندرية 1964م وكان وجودها في لبنان بموجب اتفاقية القاهرة فرصة لدعاة القطرية والتجزئة والشعوبيين ليتكاتفوا من أجل خلق قضية التناقض بين مصلحة القطر ومصلحة الأمة التي كان لديها شبه إجماع على تبني قضية فلسطين باعتبارها القضية المحورية للسياسات العربية،ولكن بعض الأطراف جسدوا هذا التناقض،وأوصلوا الأمور إلى درجة التصادم ثم الاقتتال،وكانت النتيجة أن الفدائيين الذين تجمعوا في لبنان أثخنتهم الجراح من طعنات الأخوة أكثر من صدامهم مع الأعداء ، وشاغلوهم بأنفسهم وبأمنهم،وأغرقوهم في مشاكل شعبهم والآخرين،بدلاً من أن يكونوا لهم عونًا وسندًا على العدو المشترك. ويصعب على المرء تصور وتذكر مرارة السنوات التي انفردت فيها ( دولة ) البغي الصهيوني بالفدائيين من الشعب المشتت،تلك السنوات المليئة بالقهر والإذلال والتصفية والتواطؤ مع اليهود المحتلين لأرض القداسات،وقد جمعت جوقة الأعداء تشكيلة غريبة لكل منها دوافعه في الطعن والكيد والحصار ولم تكن أحداث أيلول الدامية عام 1970 م غائبة عن تشكيل هذا الحلف الشيطاني الجديد الذي كان أشد خطرًا من الأعداء اليهود أنفسهم ، ووجهت جميع الخناجر والبنادق إلى ظهور المقاتلين الذين أدموا الصهاينة وأقضوا مضاجعهم في كل مكان كانت تصل إليه الصواريخ أو الغارات أو رصاص الرشاشات وهمم المقاتلين . ( أثناء الوجود الفلسطيني في لبنان ظهرت مشكلة نفسية نتجت عن خطأ مبدئي في القيادة الفلسطينية وهو أن هذه القيادة كانت تنظر إلى نفسها على أنها غريبة عن كل أرض عربية حلت فيها في مراحل صراعها مع العدو ، على الرغم من أن عامة جماهير الأمة قد قبلتهم وأحاطتهم بالرعاية والتأييد كتعويض جزئي عن الجيوش المنهزمة ، وتحملت أعباء النضال بكل صبر وشجاعة ، وكان الأولى بهذه القيادة التجذر في كل أرض عربية بشكل لا تثير معه حساسية الأنظمة الحاكمة ، وترسيخ عقيدة الموقف الموحد في مواجهة العدو وأن أرض المعركة يجب أن يكون على امتداد كل أرض العرب ، إذ أن فلسطين قد سلمتها الأنظمة الحاكمة لليهود إما طواعية وتواطؤًا أو من خلال التتخطيط والاتفاق مع الصهاينة أو مكرهة نتيجة للتقصير وانعدام الجدية في مواجهة اليهود الغزاة ، وتقع عليهم المسئولية القانونية دوليًا لاسترداد فلسطين مهما طال الزمن وعظمت تضحيات الأمة ، فهذا هو السبيل الوحيد لحفظ الأوطان وحماية الأمم ، وهي أمور بدهية أولية ) ( انظر كتاب : الجيش السعودي في حرب فلسطين1948م " مذكرات اللواء سعيد كردي" الرياض : منشورات دارة الملك عبد العزيز ، 1423ه 2002م ، ص ص 134 141) . ومما ضاعف الآلام دخول الإعلام الحديث بكل إمكاناته واتجاهاته وتضارب أهواء القائمين عليه ، والبراعة في استغلال أجهزته وأدواته للكيد للإسلام والمسلمين وتخذيلهم وبث الفرقة والاختلاف بينهم ، وكان الجيل الذي رفض الهزيمة وعاصر أحداث الصراع الأولى في البلاد العربية قد مات معظم رجاله ، وحلَّ محلهم جيل غسلت أدمغته السلطات الشعوبية التي تسللت إلى سدة الحكم بعد ( قتل ) عبد الناصر بالسم في كأس الليمونادة في مطار القاهرة ، واستخدمت في ذلك كل وسائل التضليل والتعتيم والتشويه والكذب وكانت عبارات السخرية والتهكم والشماتة الصادرة من هؤلاء الذين لم يكن لهم دور في الصراع إلا الكلام الشاجب المعترض المشتكي هو الرصاص الجديد الذي حمله أحفاد الأبطال الأوائل الذين تصدوا لليهود في معارك البطولة الأولى ، وكان ذلك أشد إيلامًا من كل أسلحة الفتك التي فتحت أوروبا وحلف شمال الأطسي ترساناتها لجماعات اليهود ، ليجربوها في أجساد المسلمين وبيوتهم ، وذلك على يد الكسندر هيج السكرتير العام الجديد للحلف وقتذاك . وقد تأكد فيما بعد أن هذه الحرب النفسية كانت تمهيدًا لموقف ستاتيكي تخاذلي ، وكان جزء كبير من المسؤولية فيه يقع على عاتق المنظمات الفلسطينية نفسها التي استعاضت في كثير من الحالات عن حرب عدوها بمحاربة بعضها البعض ، وكان ذلك من أسباب تبديد طاقاتها في المظاهر الاستعراضية والصراعات البينية . وبالرغم من أن الأمة نالت من عدوها في حرب أكتوبر المجيدة عام 1973م ، ورفعت رأس مصر والأمة العربية وأعادت التوازن بين الأمة وعدوها ، إلا أن تدخل الولاياتالمتحدة الأميريكية في أحداث الحرب بشكل مباشر وتردد الرئيس أنور السادات في استثمار نتائج انهيار خط بارليف قد فرَّغ الحرب من بعض أفضل نتائجها . وأغرى خروجُ مصر من حلبة الصراع بعد عقد معاهدة الصلح في كامب ديفيد أغرى ذلك شارونَ بدخول لبنان واحتلاله والوصول إلى بيروت في سابقة فريدة لا مثيل لها في تاريخ الصراع العربي اليهودي وذلك باحتلال عاصمة عربية ، وكان ذلك بالتواطؤ مع أطراف في القوات اللبنانية التي تمثل طائفة الموارنة المسيحيين ، وحاصر الجيش اليهودي وحلفاؤهم المقاتلين الفلسطينيين في بيروت برًا وجوًا وبحرًا ، وكان المحاصَرُ الحقيقي هو الشعب الفلسطيني كله داخل لبنان وخارجه ، وظهر فيما بعد أن الجميع قد اتفقوا على بيع قضيته ، وطمس هويته النضالية ، وتشجيع الاتجاهات الانهزامية المساومة ، وكان المحاصرون في بيروت رمزًا لأمةٍ تراخت وترهلت وتآكلت وكَلَّتْ النزال، وعزفت عن الصدام والملاحم قبل أن تحصل على الحد الأدنى من حقوقها ، واستبدلت أهدافها بأهداف خادعة ، وطمست تجاعيد الزيف في وجهها بكل ما ابتكره الغرب لها من أصباغ الخداع والتمويه الإصطناعية . واغتنم الأعداء هذه الفرصة وكأن الأمر مبيت بليل فاقتنصوا من المحاصرين تحت ضغط الظرف ، استغلالاً لحالة نفسية أُعِدَّ لها إعدادً متقنًا ، اقتنصوا وعدًا بالاعتراف بدولة يهود ، واختاروا لهم المنافي الجديدة ليحولوهم فيها بإرادتهم إلى دبلوماسيين ورجال دولة ليكون لهم صفة رسمية أمام المجتمع الدولي ((راجع مهمة الأميريكي لبناني الأصل (فيليب حبيب ) والترتيبات التي قام بتنسيقها لإخراج الفلسطينيين من لبنان ، وقد جرت أحداث هذه المهمة بشكل علني حتى نجح أخيرًا .)) ليشهد على توقيعهم علنًا على وثائق بيع بلادهم والاستهتار بكل المقدسات والقيم التي يمثلها الوطن في حياة الناس العقلاء الذين تحرك الفطرة السوية سلوكهم! ثم آلت الأمور إلى وقائع متسارعة مربكة كان من الصعب استيعابها وتفسيرها: إعلان الدولة الفلسطينية عام 1988 م في الجزائر ، ثم اغتيال وتصفية الكوادر ذات المصداقية المشهود لها بالنزاهة والوطنية في صف القيادات العليا في منظمة التحرير، ثم الأزمة بين العراق والكويت بعيد انتهاء الحرب بين العراق وإيران ، وصولاً إلى فتنة الخليج واحتلال العراق للكويت في سابقة غريبة في العصرالحديث على مستوى العلاقات بين الدول العربية ، (والانحياز المريب من ياسر عرفات إلى الطرف الظالم المعتدي ، وهتافه في إذاعة مونت كارلو :ويا جبل ما هزك ريح ! لقد ألحق هذا الانحياز في حينه إلى جانب الكثير من المواقف القاصرة أشد الأضرار بأبناء الشعب الفلسطيني العاملين والمقيمين في الدول الخليجية التي لم تقصر في إلغاء المعاملة الخاصة وبعض الامتيازات التي كانت تقدمها لهم،والتي كانت امتدادًا لمرحلة تاريخية كانت الحكومات العربية فيها تتعاطف مع الفلسطينيين كشكل من أشكال الالتزام،ذلك الالتزام الذي انهار بعد الاختراق الأيديولوجي والعملي للثوابت المتمثل في رحلة السادات إلى القدس،وفي الكثير من التصرفات غير المسؤولة التي لا تقدر العواقب للقيادة الفلسطينية الرسمية التي تنازلت عن ثوابتها وباعت حقوقها،وتنازلت عن أبسط قواعد الوطنية،وحينها بدت دول الخليج وكأنها هي الأخرى كانت متحفزة تنتظر الفرصة تتلمس الذرائع للتنصل من هذا الالتزام،وقد جاءها سريعًا وجاهزًا في هذا الموقف من ياسر عرفات وممن حوله،وكان المقيمون في الكويت على وجه الخصوص هم أكثر الناس تضررًا ،قياسًا إلى ما كانوا ينعمون به في الكويت من مميزات كانت سياسة ثابتة قبل اعتلاء جابر الأحمد سدة الحكم،وقد أدت مواقف الاستقواء والشعور بجرح الكرامة الناتج عن نكران الجميل من جانب القيادة الفلسطينية إلى الكثير من الإجراءات الاستفزازية في حينها،وهذه المواقف السلبية الخفية والعلنية في إظهار العداء خَلقت جوًا مشحونًا بالانفعالات. وفي حرب الخليج الثانية في 16 يناير1991م،وما تلا ذلك من أحداث مؤسفة كان الأجدر بالقيادة الفلسطينية تقدير الظرف الدقيق والوقوف على الحياد الإيجابي الذي يقوم بدور التوفيق وليس توسيع شقة الخلاف،ولا تزال الملابسات الكثيرة التي صاحبت تلك الفتنة طي الكتمان،وعلى الرجح أنها ستظل مطوية بعد أن غاب اللاعبون الرئيسيون عن مسرح الأحداث باستثناء بعض الرموز الصامتين ممن اقتسم غنائم ما جاءت به أوسلو،أو القابعين في رام الله فيما يعرف بمؤسسة السلطة ،أو مجموعة المستشارين،وسيظل تاريخنا بأيدي الذين يكتبونه وهم مغيبون عن المسرح،لأن الكثير من التفاصيل ماتت ودفنت مع من مات منهم ولا تزال أسرارًا تتكشف في تصرفات جماعة أوسلو ومن يكتفون بالسكوت على تصرفاتهم وتنازلاتهم التي يندفعون فيها حاليًا للوصول بالمشروع الأسلوي المشؤوم إلى نهايته قبل أن تنتهي فترة حكم عباس ، وللاستفادة من بقايا البشر الذين اقتطعهم الاحتلال الصهيوني،أو خشية من المفاجآت التي لم تكن بالحسبان كمفاجأة حماس لهم في غزة،أو ربما يتخطفهم الموت من بين أيديهم ومن خلفهم ومن فوقهم،ومن تحت أرجلهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم،فهذا مصير من يفرط في حقوق الأوطان،ولا يعتبر بحوادث الزمان،والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.قال الله تعالى: [وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {يوسف:21} . (يليه المبحث الثاني )
