أطروحات الدكتور طه جابر العلواني حول حجية السنة عدم استقلالها بالتشريع وتفاصيل أخرى نشرت على موقع "إسلام أون لاين.نت"، كانت مثار جدل بين كثير من علماء الأمة، ففي حين أكد البعض أنها محاولة مقدرة منه، وفتح لباب اجتهاد علمي في خدمة السنة، بدل الانحصار في خانة التعامل معها. رأى آخرون من المتخصصين في السنة والأصول، تراتبية السنة في المكانة بعد القرآن واستقلاليتها بالتشريع، مرجعين رد أي تعارض بينهما إلى ضعف العقل البشري، وليس إلى تعارض ظاهر في الوحيين. كانت البداية مع الدكتور أحمد الريسوني، عالم المقاصد والخبير الأول بمجمع الفقه الإسلامي بجدة، حيث أكد على اعتزازه بالدكتور طه العلواني واجتهاداته العلمية، وأثنى عليه قائلا: " العلواني عالم ومفكر، فقيه وأصولي كبير، وهو قبل ذلك رجل دعوة وجهاد علمي وفكري طيلة حياته، ومن شأن عالم بهذا المستوى أن تكون له استقلاليته في النظر والتفكير والاجتهاد، وكل من يجتهد فهو عرضة لأن يصيب ويخطئ." درء التعارض بالتأويل والتثبت
ويشير الريسوني إلى أن رأي العلواني "أصْله قديم عند بعض العلماء، وأقربها في موضوعنا رأي الإمام الشاطبي، الذي يقول: "السنة راجعة في معناها إلى الكتاب: فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره، وذلك لأنها بيان له، وهو الذي دل عليه قوله تعالى ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ ، فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية، وأيضا فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها، فهو دليل على ذلك ..." ( الموافقات - ج 4 / ص 12). ويتابع: "على أن الشاطبي لا ينكر وجود أحكام تفريعية تفصيلية منصوصة في السنة دون القرآن، وهو مثل جمهور العلماء يقبلها ويأخذ بها، ولكنه يعتبر ويبرهن أن أصلها موجود في القرآن، ويعتبر أن من خصائص البيان وضرورته أن يأتي بما ليس في المُبَيَّن، وإلا صار هو هو . يقول رحمه الله: "فإذا كان الحكم في القرآن إجماليا وهو في السنة تفصيلي، فكأنه ليس إياه ..." ( الموافقات -ج 4 / ص 20). ويضيف الريسوني: " ومعنى هذا وفق الشاطبي أن ما صح في السنة، إذا كان له أصل في القرآن، ولو لم يكن هو هو، يلزم قبوله والعمل به، بينما رأي الدكتور العلواني كما فهمت أن كل حكم تشريعي في السنة ليس بعينه في القرآن، فهو مردود مطعون في ثبوته، والمعول في هذه الحالة على ما في القرآن وحده". وبعد مناقشة رأي العلواني بنفس مقاصدي، يخلص الريسوني إلى التأكيد: "والذي عندي والله أعلم أن كل ما تفردت به السنة، فيُتَثَبَّتُ فيه أكثر، فإذا صح على منهج الإثبات العلمي وقواعده، فلا يبقى إلا قبوله، لكن أيضا مع إمعان النظر في معناه ومقتضاه، بحيث لا يقبل بحال من الأحوال أن يكون ذلك مناقضا لما في القرآن، وهذا سبيله التأويل وإعادة النظر فيه والتأمل في الأدلة وتنسيقها، وليس رد بعضها ببعض". من جانبه يرى الدكتور أحمد عمر هاشم أستاذ الحديث بجامعة الأزهر ورئيسها السابق " أن القول بعدم استقلال السنة بالتشريع قول غير دقيق _مع احترامي الشديد للعلواني _فهل ورد في القرآن شيء عن زكاة الفطر، أم الأحاديث الواردة بشأنها تنص علي أن الرسول صلي الله عليه وسلم فرضها بوحي من الله وليس من عنده، كما أنها انفردت بتحريم الجمع بين البنت وخالتها وعمتها، وميراث الجدة فهل نلغي هذه الأحكام مادام لم يرد فيها نص قرآني؟.." ولفت هاشم إلى أن الطعن فيما أكد المحدثون أنه صحيح خطأ ما دامت تلك النصوص لا تناقض ما جاء في القرآن، وقد قال صلي الله عليه وسلم "ألا أني أوتيت القران ومثله معه "والمقصود بها السنة التي لا يجب التشكيك في حجيتها باسم إعمال العقل؛ لأن هذا يخدم منكريها ولو بشكل غير مباشر، حتى ولو كان القائل لذلك حسن النية يحاول الاجتهاد.." مستعد للمناظرة أما الدكتور عبد المهدي عبد القادر أستاذ الحديث بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر فقد دعا صاحب الاجتهاد د. العلواني إلي الجلوس مع أساتذة الحديث والتناقش حول تلك القضايا الهامة التي من المفيد أن تتم مناقشتها بعيدا عن العامة ووسائل الإعلام.. وعلل دعوته قائلا: " نؤكد على نقاش العلماء في الغرف المغلقة لمثل تلك القضايا حتى لا يؤدي هذا إلي اللبس علي الناس وإثارة البلبلة في نفوسهم وعقيدتهم، وإما أن يقنع د. العلواني المحدثين أو يقنعوه في كافة القضايا التي تحدث فيها.." وأكد قائلا: " أنا شخصيا مستعد للجلوس مع الدكتور في غرفة مغلقة نناقش اجتهاداته التي أثارت الجدل والبلبلة، أما إذا رفض ذلك وادعي انه الوحيد الذي يملك الحق وصادر علي حق الآخرين في توجيه النصح إليه وتوضيح الحقيقة له من المتخصصين فاني اخشي أن يكون في نفس خندق القرآنيين الذين اخبرنا رسول الله صلي الله عليه وسلم عنهم فيما ورد في صحيح السنة حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الخباب عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ معد يكرب الْكِنْدِيِّ : "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ أَلَّا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّه". من جهته يرد الشيخ محمد السحابي، مدير مدرسة التوحيد القرآنية التابعة لجمعية أبي شعيب الدكالي بالمغرب، ما يظهر من تعارض بين الوحيين القرآن وصحيح السنة إلى العقل البشري، داعيا إلى التفريق بين علم الأصول قديما وحديثا، فهناك أصول فكرية معاصرة تنجز بها الرسائل الجامعية وغيرها، وهناك الأصول المعتبرة التي أسس لقواعدها العلماء الأقدمون. استقلال السنة بالتشريع ويؤكد السحابي أن هناك استقلالا غير كلي للسنة في بعض أحكام التشريع، مقدما مجموعة من النماذج الدالة على استقلال السنة بالتشريع مثل بيان فرائض الإسلام، والتحليل والتحريم (تحريم كل ذي ناب من السباع، وحل الحرير والذهب للمرأة المسلمة...). ولا يرى السحابي تراتبية بين السنة والقرآن في التشريع، ويقول: "القول بالتراتبية ليس دقيقا، فقد تكون السنة متقدمة على نزول الآيات أو السور أو موازية لوقت نزولها، والتعارض الذي يظهر مرده إلى العقل البشري ويحتاج إلى تأويل. وحسب رأي السحابي فمخالفة السنة لصريح القرآن له وجوه، يجب حلها بثلاث طرق: البحث في ثبوتها أولا حسب قواعد علم الحديث، فلا يكون في الحديث طعن في السند أو المتن وليس فيه شذوذ، أما إذا كان غير صحيح فلا يأبه به في التشريع، وإذا كانت ثابتة، يأتي التأويل ومعرفة النسخ بين السنة والقرآن، والمسلك الثالث اختيار وجه من وجوه الخلاف: "ونفي وجوه التعارض أخذا بوجه واحد من الخلاف، وقد يكون ما أخذنا به ليس قويا من حيث الثبوت والدليل". كذلك فإن الدكتور وهبة الزحيلي رئيس هيئة علماء أهل الشام ونائب رئيس مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا يؤكد أن القول بعدم حجية السنة إلا بالقرآن وعدم استقلالها بتشريع قول خطأ من وجوه كثيرة، لافتا إلى أن هناك أحكاما كثيرة لم تعرف إلا من خلال السنة. وأوضح أن " إجمالات القرآن وإطلاقاته لم تحدد إلا بالسنة ، كما أن البيوع والأحوال الشخصية لم تعرف أحكامها إلا من طريق السنة، وهي أحكام مستقلة مثل " لا شرطان في بيع " وكذلك الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها وابنة أخيها، وابنة أختها كل ذلك لا يعرف إلا من السنة ". وأضاف الزحيلي: " إن إنكار حجية السنة يعد طعنا في هذا الدين بل هو رد على العلواني لأنه هو الذي نشر في المعهد الإسلامي في واشنطن حجية السنة لأستاذه الشيخ عبد الغني عبد الخالق فهل هو متناقض أم رجع عن هذه الآراء؟! ". واختتم كلامه قائلا : " القرآن أصل وذلك لا أشكال فيه.. لكن السنة وحي، وكلام العلواني بأنه لا حجية للسنة إلا بالقرآن هو كلام فيه تلاعب وتراجع منه، وبه إضعاف لمكانة السنة، والردود الكثيرة التي أوردها من قبل حول حجية السنة عن شيخه الشيخ عبد الخالق يؤكد أن هذا الكلام مردود عليه ". التراتبية موجودة الرأي نفسه يذهب إليه الدكتور إدريس العلمي دكتوراه في علم الحديث وباحث في العلوم الإسلامية، بنفيه للاستقلال الكامل بالتشريع للقرآن وحده "فالقرآن والسنة إنما خرجا من مشكاة واحدة هي مشكاة النبوة، فالسنة وحي من الله لرسوله عليه السلام، وإنما يَسُنُّ الرسول صلى اله عليه وسلم بحكم ربه، لا من عند نفسه _حاشاه_ فما سنَّه وجب اتباعه، سواء ورد في القرآن أم لم يرد". ويرى العلمي أن ما يظهر من نزاع السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه، ذكرها العلماء مثل الشافعي في الرسالة وابن القيم في إعلام الموقعين: أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها. والثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له، وهذا القسم أغلبُ ما في السنة، والثالث: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه، وهذا: كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وميراث الجدة، وأحكام الشفعة، وتحريم حلية الذهب والحرير على الرجال خاصة. ويستشهد العلمي بقول لابن القيم مفاده: "ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تُعارضُ القرآنَ بوجه ما، فما كان منها زائدا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي، صلى الله عليه وسلم، تجب طاعته فيه ولا تحل معصيته وليس هذا تقديما لها على كتاب الله، بل امتثالٌ لما أمر الله به من طاعة رسوله". ويتابع: "ولا خلاف بين العلماء في القسمين الأولين، وإنما اختلفوا في القسم الثالث، وهذه مسألة نشأ فيها الاختلاف بين العلماء قديما وليست بحادثة، وهي مبثوثة في الرسالة للشافعي وإعلام الموقعين لابن القيم والموافقات للشاطبي بتفصيل. ويستدرك العلمي: " لكن لا خلاف بين الفريقين أن السنة اشتملت على أحكام جديدة لم ترد في القرآن نصا ولا صراحة، فيرى المثبتون أن هذا هو الاستقلال في التشريع؛ لأنه إثبات أحكام لم ترد في القرآن، ويرى المنكرون أن أحكام السنة داخلة تحت نصوص القرآن وقواعده، فهي في حاصل الأمر بيان لما فيه، والخلاف لفظي فقط، ولا داعي لتهويل الأمر والنفخ فيه." غير أن العلمي يقرر أن السنة تمثل الأصل الثاني بعد القرآن في مسألة التشريع: " فالقرآن قطعي الثبوت والسنة ظنية الثبوت، ومرتبة الظني تأتي بعد مرتبة القطعي، والسنة إما بيان للكتاب، والبيان يأتي بعد المبيَّن، وإما زيادة عليه، ولا تعتبر الزيادة إلا بعد عدمها من الكتاب، فتَحَصَّل أن تكون السنة في المرتبة الثانية بعد الكتاب، وهو ما يدل عليه النظر ويؤكده الخبر، وقد عرف ذلك الصحابة، وأقرهم عليه النبي عليه السلام، وعملوا به في كثير من الأقضية".
وفي نفس السياق يوضح الداعية الإسلامي السعودي الشيخ عبد المحسن العبيكان المستشار القضائي وعضو هيئة كبار العلماء في السعودية، أن القول بحجية القرآن دون السنة ليست وليدة اليوم إنما يمتد جذوره إلي أوائل ظهور الإسلام حيث بدأت مع الخوارج حين قالوا "حسبنا كتاب الله " ولهذا أشاعوا الفتنة في صفوف المسلمين؛ لأنهم يلبسون الحق بالباطل وصدق عليهم قول ربنا " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون وهم يحسنون صنعا." وتابع: " ومن خلال تأملي لعلاقة القرآن بالسنة وجدت أن الأمر باتباع السنة ذكر في أكثر من أربعين موضعا في القرآن سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، كما أن هناك أكثر من ثلاثين آية تأمر بطاعة رسول الله صلي الله عليه وسلم. ويضيف العبيكان: " وإذا أردنا حصر الأحكام الشرعية التي استقلت بها السنة ولم يرد لها تفصيل أو حتى ذكر في القران لوجدناها كثيرة، مما يؤكد استحالة فهم القران أو تطبيق ما فيه من أحكام أو حتى معرفة كل ما يتعلق بها دون الرجوع إلي السنة، سواء في أمور العبادات أم المعاملات أم غيرها من أحكام الشرع الحكيم. دعوا العلواني يتكلم أما محمد خروبات، أستاذ الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بمراكش، فهو يشدد على حق العلواني في طرح الأسئلة الشائكة في مجال السنة قائلا: "أسئلة العلواني يجب ألا تصادر أو ننجز أحكاما حولها بالاتهام، بل هي هدية للفكر وللمنهج السني، وهي عبارة عن ماء بارد على العقل النائم، وعلى المشتغلين بالسنة الإجابة عنها بعلم وموضوعية دون تهرب بالقول أنها شذوذ أو غير ذلك". ويضيف خروبات: "دعوا العلواني يتكلم، ولا يجب تبرير العجز عن الجواب باتهامه، فلا بد من إعطاء المعرفة العلمية المؤثرة، وتلقيحها مثل تلقيح الجسد لمقاومة كل الأمراض". غير أن خروبات يقر باستقلال السنة بالتشريع، مكتفيا بتقديم أمثلة مثل بيان مقادير الزكاة وتوريث الجدة للسدس وحرمان الوارث من الوصية "لا وصية لوارث"، مبينا: " أن استقلال السنة بالتشريع لا تعني القطيعة، بل السنة تابعة للقرآن باعتبارها وحيا أيضا". وبعد أن أشار إلى أن مشروع العلواني حول مراجعة التراث الإسلامي يحتاج إلى وقفات وليس تصريحا مختصرا، يلح خروبات أن "المجتمع الإسلامي اليوم في حاجة إلى خدمة السنة وليس السؤال كيف نتعامل معها، مما يعني وجود حيرة وتشويش لدى العقل المسلم ويجب معرفة هذا الكيف". ويلفت خروبات إلى أن منهج النقد ومفهوم "النقاد" جاءا من عند أهل السنة، "وهو إبداع أصيل لم يستمد مقولاته من أي ثقافة أخرى، ولذلك لم يكن علماء المسلمين في حاجة إلى منطق اليونان أو غيرهم في خدمة السنة".