تَمُرُّ البوسنة بأصعب المراحل في تاريخِها منذ توقيع اتفاقية دايتون للسلام عام 1995م، والتي أنهت مذابح استمرَّت طيلة أربعة أعوام بحقِّ مسلمي البوسنة، بعد رفضِهم تقسيمَ بلادِهم بين صربيا وكرواتيا لإقامة صربيا الكبرى وكرواتيا الكبرى على حسابِهِم. دايتون جديدة وتُشبِه الأوضاع حاليًا مخاضًا عسيرًا، يهدِف لميلاد دايتون جديدة؛ فالصرب يهدِّدون سلامة البلاد وأمنها إذا رغب الشركاء في الداخل والمجتمع الدولي في بقاء البوسنة على قيد الحياة، ويعمل رئيس وزراء "جمهورية صربسكا" أحد كياني البوسنة "ميلوراد دوديك" على تنظيم استفتاء لدعم اتفاقية دايتون، منتصف شهر فبراير القادم؛ وذلك لاستباق أي حلٍّ يمكن فرضُه من قِبل المجتمع الدولي في البوسنة. بينما يرى آخرون أن أي استفتاء -مهما يكُنْ نوعه- فهو غير شرعي، ولن يُسمحَ به، وأن البوسنة في حاجة لخطة دولية تكون على غرار خطة مارتي اهتساري في كوسوفو، بدلًا من اتفاقية دايتون التي يؤكد جميعُ الأطراف الدوليين والشركاء الإقليميين -مثل الرئيس الكرواتي المنتهية ولايته "ستيبان ميسيتش" والسلوفيني "دانيال ترك"- على أنها "أنهت الحرب لكنها لم تُقِمْ دولةً طبيعية!". ولإدخال بعض الإصلاحات على اتفاقية دايتون جرت محاولات أوروأمريكية شهري أكتوبر ونوفمبر من العام المنصرم، لكن هذه الإصلاحات -للأسف- جوبهت بصخرة التعنت الصربي، والذي وصل إلى حد التهديد بإبقاء الوضع كما هو عليه أو نهاية البوسنة، كما جاء على لسان وزير داخلية صرب البوسنة "صربسكا"، ورئيس وزرائها. اهتمام أوروبي وقد بدأ مجلس أوروبا يوم الاثنين 25 يناير الحالي الدورة الشتوية، ووضَع البوسنة على رأس أولوياته، وأعرب المجلس عن قلقه من الوضع في البوسنة، داعيًا الأطراف السياسية في البلاد للقبول بالإصلاحات التي اقترحها كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكيَّة في وقت سابق من العام المنصرم. ويرى مجلس أوروبا أن رئيس وزراء صرب البوسنة "ميلوراد دوديك" يمثِّل عقبةً أمام الإصلاحات التي ستُمَكِّن البوسنة من الاندماج في الشراكة الأوروأطلسية، كما يدين مجلس أوروبا –وبشدة- إنكار دوديك لجرائم الحرب في البوسنة، ولا سيما "سريبرينتسا". ويخشى مجلس أوروبا من أن تجري الانتخابات -المزمع تنظيمها في أكتوبر القادم- في ظل الوضع الحالي، مما يعني استمرار نفس التركيبة السياسية في الحكم، ولا سيما في "جمهورية صربسكا". كما أعرب المبعوث الدولي إلى البوسنة "فلانتينو إنزكو" عن قلقِه حيال الوضع السياسي في البوسنة، وقال عقب لقائه بوزير خارجية ألمانيا "غيدو فيستر فالي" للتليفزيون الفيدرالي البوسني: "طلبتُ من وزير خارجية ألمانيا دعم الوجود الدولي التابع للأمم المتحدة في البوسنة". وأضاف: "الوضع في عام 2010 سيكون أسوأ بسبب الانتخابات الرئاسية، ولهذا فالبوسنة ستبقى في حاجة للمجتمع الدولي لمواجهة التحديات القائمة في البوسنة.. وعلى الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة التعامل مع هذه التحديات بروح المسئولية والحذر والحزم". قلق أطلسي وكان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "أنديرس فوج راسموسن" قد أعرب بدورِه عن قلقِه من الأوضاع السياسية في البوسنة، بعد فشل المحادثات التي تمت في ضاحية بوتمير القريبة من سراييفو نهاية العام الماضي، والمتعلقة بإصلاح الدستور. وقال راسموسن: "الوضع السياسي في البوسنة بعد فشل محادثات بوتمير، ليس كما ينبغي أن يكون، ولكن في نفس الوقت نحن راضون لأن هذا الوضع ليس له مضاعفات من الناحية الأمنية". هذا وقد أكد راسموسن على أن قرار ضم البوسنة إلى حلف شمال الأطلسي "ناتو" قد تم اتخاذُه، ولكن هذا القرار ينتظر آليات وموعدًا لوضعه موضع التنفيذ، وأشار إلى أنه "قد أصدرنا قرارًا بأن تدخل البوسنة في برنامج المساعدات العملية، المقدَّمة للدول المرشحة للانضمام للحلف، والدفع باتجاه الإصلاحات المطلوبة لذلك". خطة الانفصال ويزعم رئيس وزراء صرب البوسنة "ميلوراد دوديك" أن "صرب البوسنة ليس لديهم خطة للانفصال، ولكنهم يطالبون بعدم المساس باتفاقية دايتون"، ولم يقل دوديك أن الصرب لا يريدون الانفصال وإنما ذكر بصيغة "الانفصال ليس في مقدمة أولوياتنا.. وإنما عدم تغيير اتفاقية دايتون.. وإذا أريد للبوسنة أن تكون مستقرَّةً يجب أن تنظم علاقاتها الداخلية على قاعدة اتفاقية دايتون". وكان عضو مجلس الرئاسة عن الصرب" نيبوشا رادمانوفيتش" قد ذكر في وقت سابق أنه لن يوقع على قرار المبعوث الدولي بتمديد عمل القضاة والمدعين العامين التابعين للأمم المتحدة في البوسنة. مساندة تركية نأتي إلى تركيا التي تراقبُ الوضع عن كَثَب، وتَعتبِر أن من واجباتها التاريخية الاهتمام باستقرارِ البَلقَان، فقد أعلنتْ تركيا على لسان وزير خارجيتها "أحمد داود أوغلو" -والذي نزل في سراييفو يوم 14 ديسمبر الماضي- أن تركيا مستعدَّة لبذلِ ما في وسعِها لمساعدة البوسنة، مؤكدا على أن البوسنة تحتل مكانة متقدمة في أولويات السياسية الخارجية لبلادِهِ، وأوضح بعد لقائه بعضوي مجلس الرئاسة البوسني الدكتور "حارث سيلاجيتش"، "وجيلكو كومشيتش" أن "تركيا مستعدة لدعم البوسنة على كافة المستويات". هذا وقد أكد أوغلو كذلك على أهمية الحفاظ على وحدة البوسنة والهرسك، وعلى اندماجهما في المؤسسات الإقليمية والدولية بشكل أكثر تماسكًا ومركزية، وهنأ البوسنة على حصولها على مقعد غير دائم في مجلس الأمن في دورته الجديدة، وأعلن تأييد بلادِه لانضمام البوسنة إلى حلف شمال الأطلسي الذي تُعد تركيا عضوًا فاعلًا فيه، كما أشار إلى أن بلادَه ستعمل مع إسبانيا الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي من أجل تمكين مواطني البوسنة من الدخول لدول تشينغن بدون تأشيرة. مضيفًا: "إن المجتمع الدولي مدينٌ للبوسنة، ليس على المستوى السياسي فحسب، وإنما الشعبي أيضًا" في إشارة للعذابات التي تجرَّعَها الشعب البوسني أثناء العدوان الصربيّ دون تدخُّلٍ حاسمٍ من المجتمع الدولي وتحديدًا الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة آنذاك وحلف شمال الأطلسي، وهي الجهات التي لم تسمح بحدوث حرب في سلوفينيا، ودعَّمت كرواتيا بالمال والسلاح، ولم تدعم البوسنة على مدى 4 سنوات. مفترق طرق وإذا أخذنا التهديدات الصربية مأخذ الجد، فإن البوسنة على مفترق طرق؛ وإن كان العديد من الجهات المحلية والإقليمية والدولية تستبعد عودةَ الحرب، إلا أن أوضاع عدم الاستقرار تثير قلقَ الجميع، والمخاوف من احتمال بقاء البوسنة خارج مسيرة الاندماج في الشراكة الأوروأطلسية بسبب رفض الصرب للإصلاحات المطلوبة تبقى قائمةً في ظل إعلانهم بأنه في حال اختاروا ما بين الاتحاد الأوروبي وجمهورية صربسكا، والتي حصلوا عليها من خلال اتفاقية دايتون، فإنهم سيختارون الأخيرة، الأمر الذي يحتم تدخلًا دوليًّا على غرار خطة مارتي اهتساري في كوسوفا، لتنهي السلبية القائمة. وأما إذا تُرك الأمرُ لاتفاقٍ لن يأتي بين الأحزاب والطوائف البوسنية، فإنهم بذلك يطيلون من عمر اللااستقرار ويتركون البوسنة نهبًا لأسوأ الاحتمالات. الاسلام اليوم الاثنين 17 صفر 1431 الموافق 01 فبراير 2010