من اللافت للانتباه، ما نطلع عليه دوريا عن علماء ومثقفين وهم بالآلاف، يهجرون سنويا بلدانهم الفقيرة التي هي في أشد الحاجة إليهم، إلى الدول الغربية المصنعة. رغم ما يراه البعض من جحد هؤلاء العلماء والمفكرين، الذين صرفت دولهم الأصلية أموالا لتعليمهم فهجروها، إلا أن لذلك مبررات متعددة. إذ هناك ظروف محلية تدفع للهجرة، وعوامل أخرى تجلبهم نحو دول المهجر، حيث يتم استقبالهم بأذرع مفتوحة. قد يستغرب البعض هجرة هذه العقول من علماء وباحثين وأساتذة في مختلف التخصصات، لأوطانهم وأهليهم وأصدقائهم إلى بلاد الغربة. إلا أن المتتبع لأحوال هؤلاء العلماء في أوطانهم، يرى وكأن دولهم لا تحتاج إليهم وهي تريد التخلص منهم وتدفعهم دفعا إلى الهجرة. ذلك أنهم مصدر إزعاج لكثير من القادة والمسؤولين وأنصاف أميين، في مجتمعات تتميز بهيمنة الجهل والفساد. وما يوضح ذلك ما يناله علماء بعض الدول العربية، ولنا في الجزائر مثل لذلك، إذ يهجرها آلاف العقول والخبراء ذوي المستويات العلمية العالية سنويا. وما يلفت الإنتباه، وصول الأطباء والأخصائيين إلى خروج للشوارع في مسيرات احتجاجية، مطالبين بتحسين أوضاعهم المادية والمهنية. تم ذلك بعدما سدّ المسؤولون آذانهم عن سماع الإنشغالات قطاع السلك الطبي واحتجاجاتهم وبعد قيامهم بإضرابات عن العمل. وهو ما شاهدناه يوم (03/02/2010) أمام مستشفى مصطفى باشا بالعاصمة، حيث خرج مئات من الأطباء من الجنسين، استقبلهم رجال الأمن بالهراوات والغازات المسيلة للدموع، مما أدى إلى سقوط جرحى بين الأطباء. إن مثل هذه الإعتداءات على الأطباء والإخصائيين لا نجدها إلا في بعض الدول العربية، ومنها الجزائر. إن طبيبا يُهان ويضرب في وطنه، ماذا ننتظر منه أن يفعل، إلا البحث عن فرص الهجرة والهروب إلى حيث تستغل قدراته وتصان كرامته. ليس الأطباء وحدهم يعانون من هذه البهدلة، فقد استهدَف الأمن من قبل أيضا أساتذة الجامعة، بعد أن خرجوا بمطالبهم إلى الشوارع لتحسين أوضاعهم، بكونهم الصفوة العلمية في المجتمع. ذلك أن ذنبهم الوحيد أنهم فضلوا البقاء في وطنهم لخدمة شعبهم، وأنهم أخلصوا لوطنهم. فكان جزاؤهم الإهانة بل الضرب، لأنهم يطالبون بحقوقهم بطرق سلمية يضمنها القانون. وهكذا بعد أن يئس الباحثون والعلماء والأساتذة والأطباء والمهندسون النزهاء من تدخل السلطات العمومية لتحسين أوضاعهم، لم يبق لهم إلا الهجرة، ولا أحد يستطيع طعنهم في وطنيتهم وفي حبهم لوطنهم، لأنهم دفعوا إلى ذلك. وقد فضلوا النزاهة على البقاء بهذا الوطن الذي ينخره الفساد، ولا يمرّ يوم دون أن تطلعنا الصحافة الوطنية على سرقات بملايير الدنانير، فهذا مجمع الخليفة، وهذه البنوك بمختلف فروعها، وهذا البريد، وأخيرا هذا الطريق السيار شرق غرب، وهذه سوناطراك أكبر شركة للمحروقات بالجزائر، حيث يتم توجيه الاتهام إلى رأس هرمها أي مديرها العام، وهذه شركة الكهرباء والغاز، والبقية تأتي... وفي كل حالة يكون حجم السرقات بأرقام بها عدد كبير من الأصفار، بحيث يصعب على الموظف البسيط قراءتها. فسرقة واحدة من هذه السرقات كافية لتحسين أجور عدد كبير من العمال والموظفين والأساتذة والأطباء، لعدة سنوات، فهي تسرق وتنهب ولا يسمح بمنحها إلى العقول المفكرة في الأمة. بعد كل هذا لا يمكن أن نلوم العقول المهاجرة، بل لا نلوم حتى المهاجرين غير الشرعيين. ففي بلد لا يقدّر العلماء والكفاءات، فكيف يقدر الشباب البطال؟ وما نلومه هي الأنظمة المهيمنة، إذ نجد نفس الممارسات في غالبية الدول العربية. كاتب جزائري القدس العربي 06/02/2010