لا تزال قضية سحب جوازات السفر والأرقام الوطنية من مواطنين أردنيين من أصل فلسطيني تشغل الرأي العام منذ أن عاودت الظهور إلى السطح بعد نشر تقرير منظمة "هيومان رايتس ووتش" الأمريكية المستقلة والتي اتهمت فيها الحكومة الأردنية بالتعدي على حقوق مواطنين بإلغاء جنسياتهم بشكل غير دستوري. أثار نشر التقرير حنق الحكومة الأردنية التي هاجمت المنظمة واتهمتها بالانحياز ضد الأردن وبالتجني على الحقائق. ووصف مسؤولون أردنيون ما يجري بأنه "تصويب أوضاع" يستند إلى تعليمات مرتبطة بقرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية والذي أعلن عنه الملك الراحل حسين عام 1988. وبينما قال تقرير منظمة "هيومان رايتس" إن وزارة الداخلية الأردنية ألغت جنسيات ما يزيد عن 2700 أردني من اصل فلسطيني بين عامي 2004 و2007، قالت الحكومة إن أحدا لا يملك حق إلغاء جنسيات مواطنين باستثناء مجلس الوزراء الذي يحتاج قراره إلى مصادقة الملك.
التوقيت توقيت نشر التقرير أثار لغطا في الإعلام وفي أوساط الأردنيين. فبينما تساءل وزير الدولة لشؤون الإعلام د. نبيل الشريف عن أهداف المنظمة وربط ذلك بحملة تستهدف الأردن، أشار إعلاميون إلى الكشف عن التقرير وتوجيهه اتهامات إلى الأردن وتجدد الدعوات الإسرائيلية لدور أردني أمني في الضفة الغربيةالمحتلة. كما نبه آخرون إلى تصريحات يمينية إسرائيلية تنادي بتوطين اللاجئين الفلسطينيين أو باعتبار الأردن دولة فلسطينية ضمن ما يسمى بالخيار الأردني. وحتى عندما حاول التلفزيون الرسمي الأردني استضافة مسؤولين وإعلاميين للدفاع عن موقف المملكة من قضية "تصويب الأوضاع" انبرى وزير سابق وعضو في مجلس الأعيان الأردني وهو مروان دودين ليحمل الحكومة المسؤولية في فشلها تزويد المنظمة الأمريكية بالإجابات عن الأسئلة التي كانت قد طلبتها، بينما أكد على مصداقية "هيومان رايتس ووتش" التي كانت قد كشفت عن تجاوزات الجيش الأمريكي في معتقل أبو غريب العراقي.
قرار دون قانون لكن قضية سحب الجوازات وإلغاء الأرقام الوطنية ليست جديدة. ومنذ أن أعلن عن قرار فك الارتباط فقد العديد من حاملي الجنسية الأردنية من فلسطينيي الضفة الغربية حقوقهم وألغيت جنسياتهم تحت باب "تصويب الأوضاع". المشكلة تكمن في عدم الإعلان صراحة عن محتوى التعليمات التي كلفت دائرة المتابعة والتفتيش التابعة لوزارة الداخلية بتطبيقها. كما إن هناك اتهامات للحكومة وموظفيها بالانتقائية والاجتهاد في تطبيق فحوى التعليمات. إضافة إلى ذلك فان هناك من يقول صراحة إن قرار فك الارتباط غير دستوري ولم يصادق عليه من قبل البرلمان. وهناك عدة اجتهادات قانونية لمحامين مرموقين تفند القرار، الذي لم يتبع بقانون، وبالتالي فإنها تعتبر كل ما ترتب عليه من إجراءات بحق مواطنين أردنيين غير قانونية أو دستورية.
الموقف الرسمي الأردني يدافع عن هذه الإجراءات التي طالت آلاف المواطنين من اصل فلسطيني منذ عام 1988، بالقول بان الأردن إنما يسعى للحفاظ على حق مواطني الضفة الغربية في الإقامة على أرضهم في مواجهة خطط إسرائيلية لطرد هؤلاء وحرمانهم من حقوقهم. ويضيف د. الشريف إن الأردن إنما يقوم بذلك بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية، وهو ما لم تؤكده الأخيرة.
البطاقات الصفراء لكن هناك خلطا كبيرا في فهم قرار فك الارتباط. فبينما أكد الملك حسين أن كل الأردنيين الموجودين في الضفة الشرقية لحظة إصدار القرار هم مواطنون أردنيون يتمتعون بكافة حقوق وواجبات المواطنة، تقول وزارة الداخلية إن ذلك القرار لا يشمل حملة البطاقات الصفراء، الذين يقطنون خارج الضفة الغربية لكنهم يملكون تصريحا إسرائيليا بالعودة إلى الأراضي المحتلة. وهنا تتداخل التفسيرات والتأويلات التي يعاد ربطها دائما بتعليمات فك الارتباط الغامضة.
يقول القانونيون إن حق المواطنة لسكان الضفة الغربية والذي صدر بقرار ملكي عام 1949 تم التأكيد علية بقانون الجنسية الأردني عام 1952 وبالتالي فان حق المواطنة قانوني وأصيل ولا يملك احد حق إلغائه. لكن المحاكم الأردنية ترفض النظر بالطعون المقدمة إليها بحجة أن سحب الجنسية هو من أعمال السيادة وبالتالي فان هناك مئات من القضايا سنويا لا تجد طريقها إلى القضاء.
حالات إنسانية لكن وزارة الداخلية ترد بانه بينما تقوم "بتصويب" وضع عشرات الحالات تم بالفعل تثبيت الجنسية لأكثر من مئة ألف حالة منذ عام 2004 وحتى نهاية 2009. كما إن لجنة للمظالم في الوزارة تنظر في كل حالة وتتعاطف مع الحالات الإنسانية في معظم الأحيان. كما تؤكد الحكومة أنها لا تقوم بهذه الإجراءات إلا من باب الدعم التاريخي للشعب الفلسطيني ولحقه على أرضه في مواجهة خطط إسرائيلية لترحيله وتوطينه في الخارج. إلا أن منتقدي هذه الإجراءات يشيرون إلى سوء استخدام للسلطة من قبل موظفين يؤدي إلى خروقات دستورية. وهناك من يشير إلى هذه الممارسات في إطار مؤامرة لشق الوحدة الوطنية وخلق البلبلة وإضعاف الأردن الذي يشكل ذوو الأصول الفلسطينية نحو خمسين بالمئة من سكانه على الأقل.
أكثر ما يثير الجدل في ما يتعلق بسحب الجنسية وإلغاء الأرقام الوطنية هو الجانب الإنساني حيث يجد مواطنون تمتعوا بالمواطنة لعشرات السنين أنفسهم وقد فقدوا حقهم في الاستفادة من حقوق التعليم والصحة والعمل والتملك في المملكة. كما إن معظمهم فقد حقه في العودة إلى الضفة الغربية لانتهاء صلاحية البطاقة الصفراء منذ زمن. إضافة إلى ذلك فان قضية سحب المواطنة خلفت قضايا معقدة كون أن هناك شرق أردنيين متزوجون من أردنيات من اصل فلسطيني تمتعوا بالجنسية وفقدوها بسبب تطبيق إجراءات تصويب الأوضاع.
لكن الجانب الأخطر يتعلق بالضرر الذي يصيب النسيج الوطني جراء تخوف آلاف المواطنين من فقدان حقوقهم في دولة طالما أكدت في خطابها السياسي على صلابة وحدتها الوطنية وتعدديتها من شتى الأصول والمنابت. ينتظر الأردنيون موقفا واضحا من قيادتهم إزاء اللغط المتزايد يؤكد على الثوابت الأردنية في مواجهة دعاة الحقوق المنقوصة من جهة ومروجي إسقاط الجنسية عن الفلسطينيين الأردنيين من جهة أخرى. * كاتب ومحلل سياسي أردني. إذاعة هولندا العالمية