تحتاج فكرة المراجعة إلى قدر كبير من الوعي بأهمية النقد الذاتي، مصحوبا بقدر كبير من الشجاعة المعينة على الاعتراف بالخطأ، ووضع الممارسات والأفكار على محك نقدي صارم، وذلك لإنتاج مواقف جديدة، أو الإمساك عن ممارسات تبين خطؤها أو ضررها مع كر الأيام وتوالي السنوات. -الكتاب: مراجعات الإسلاميين -المؤلف: عدد من الباحثين -عدد الصفحات: 290 -الناشر: مركز المسبار للدراسات والبحوث, دبي -الطبعة الأولى: ديسمبر/2009 ولأن الأفكار النظرية التي تدور في الأذهان هي التي تنتج المواقف والممارسات العملية على الأرض، فإن المراجعات النظرية للتفكير العنفي الإقصائي تكون أهم وأعمق من تراجع عملي عن العنف، قد يكون -برأي محرر الكتاب- مجرد هدنة حتمها عدم توازن القوى، بينما تعد المراجعات الفكرية تحولا عمليا حقيقيا في اتجاه مضاد ومختلف، واعتذارا معلنا أو مبطنا عن مواقف سابقة. وفي هذا الكتاب نطالع عددا من الدراسات التي ترصد مراجعات هامة لجماعات وأفراد، كان لهم بالغ الأثر على الواقع المصري والعربي ميدانيا أو فكريا. جماعات العنف بين عهدين تعتبر المراجعات الفقهية التي قامت بها جماعات العنف المصرية نقطة تحول كبرى، ولحظة فاصلة في تاريخ هذه الجماعات، اعتبرها الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية الباحث عمرو الشوبكي اعترافا بفشل الخيارات الفقهية القديمة لهذه الحركات من جهة، ومحاولة للتراجع عن التفسيرات التي بررت عمليات العنف لفترات طويلة سابقة من جهة أخرى. وقد اختارت الجماعة الإسلامية في مصر أن تأخذ مراجعاتها شكل سلسلة من الكتب أصدرها قادة الجماعة مطلع 2002, تحت عنوان "سلسلة تصحيح المفاهيم"، وقد تضمنت -برأي الباحث- تحولا فكريا وعقائديا حقيقيا وعميقا، كما حظي هذا التحول بقدر كبير من اهتمام الدولة، التي سمحت بخروج الكتب من السجن بل وسمحت بنشرها. وإذا كانت مراجعات الجماعة الإسلامية قد حظيت باهتمام ورعاية الدولة فقد تباينت منها مواقف النخب السياسية المصرية، وهو ما يرصده الباحث متصديا للآراء المشككة في جدية هذه المراجعات التي اعتبرها البعض نتيجة طبيعية للضغوط الأمنية الشديدة من قبل الدولة، وهو ما يراه الباحث تقييما غير دقيق، إذ يصعب القول إن هذه المراجعات مجرد نتاج ميكانيكي للضغط الأمني، وإنما هي نتاج للهزيمة الفكرية والسياسية لتنظيمات العنف في مصر والعالم. كما يرفض الباحث القول بأن المراجعات تعتبر نوعا من التقية تمارسه جماعات العنف إلى أن تتاح لها الفرصة وتتهيأ لها الظروف كي تعود مرة أخرى إلى الفعل العنفي، ويؤكد أن الجماعات الجهادية المصرية لا يمكن أن تعود إلى العمل المسلح مرة أخرى بعد أن انتهى تقريبا الرابط التنظيمي الذي جمعها في عقد الثمانينيات، وبعد أن استيقنت أن طريق العنف لم يكن مجديا في أي مرحلة. وإذا كانت المراجعات التي قامت بها قيادات الجماعة الإسلامية ومن بعدها تنظيم الجهاد قد أفضت بالتنظيمين إلى نبذ العنف، والتخلي عن العمل المسلح، فإن الباحث يلفت الانتباه إلى أن هذه المراجعات لن تأتي بنفس النتيجة مع نوع آخر من العمل الجهادي، يأخذ الشكل الفردي، ويقوم به شاب هاو لا صبر له على التأسيس الفقهي، ولم ينتم إلى أي جماعة تنظيمية، وتتوقف حدود فكره "الإستراتيجي" عند القيام بعملية عنفية يسقط فيها أبرياء ولا يعرف ما العمل أو ما الهدف بعدها. سلمان العودة.. من الإسلاميين إلى الإسلام وأعدت وحدة البحوث بمركز المسبار للدراسات بحثا عن التحولات الفكرية للداعية والمفكر الإسلامي سلمان العودة، الذي جاءت مراجعاته في صورة محاضرات أو مقالات تثير قدرا كبيرا من النقاش والجدل، وتحظى بمواقف متباينة من القبول والرفض. ويتوقف معدو البحث كثيرا أمام مقالة سطرها العودة بعد زيارة قام بها إلى تونس التي لم تزل الحركات والرموز الإسلامية تصفها بالتطرف العلماني، ومحاربة مظاهر التدين من صلاة في جماعة وحجاب للنساء. وفي مقاله سجل العودة صورة مختلفة عن تونس، مؤكدا أن مجريات الواقع الذي شاهده تختلف عن الصورة التي تكونت عنده من قبل، فقد رأى الحجاب شائعا جدا دون اعتراض، ومظاهر التدين قائمة، والمساجد تزدحم بروادها، والقرآن يتلى عبر إذاعة مخصوصة، ولغة الخطاب تتكئ على أبعاد عروبية وإسلامية مع رفض العنف والتطرف والغلو. وقد أثار العودة بمقاله جدلا واسعا، وتعرض لحملة شرسة من النقد لا سيما من المدافعين عن فكرة الكيانات التنظيمية الإسلامية، لكنه حظي أيضا بقدر كبير من التأييد والترحيب، واعتبر كثير من الباحثين المقال تدشينا لمرحلة جديدة سماها باحثو المسبار "نهاية التنظيمات وصحوة المراجعات". وقد حاول سلمان العودة في مقالات مختلفة أن يؤكد ضرورة إبراز الفرق بين الإسلام وبين الحركات الإسلامية، فالإسلام أكبر وأبقى، والحركات مجرد محاولات بشرية يعتريها الخطأ، وتفتقر إلى التصحيح والاستدراك الدائم. المسيري والإيمان بالإنسان أما مراجعات المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري، فقد تناولها الباحث ممدوح الشيخ مبينا أن الركيزة المحورية في مراجعات المسيري وتحولاته الفكرية تتمثل في قدرته على إدراك التناقض, وهو -برأي الباحث- شرط ضروري وموضوعي للقيام بالمراجعة، فبحدوثه تبدأ عملية اختبار القناعات للحذف والاستبقاء، ومن ثم، تأتي مرحلة طرح الأسئلة، ثم بلورة الإجابات الجديدة. وينقل الباحث عن المسيري تأريخه للمرحلة الأولى من المراجعة، حيث يقرر المسيري أنه أعاد اكتشاف الإسلام حينما عاش فترة في بلاد الغرب، وذلك من خلال زياراته المتكررة للمتاحف التي تعرف فيها على عظمة الحضارة الإسلامية من خلال الأجنحة المخصصة للفن الإسلامي، ثم من خلال الدراسات المختلفة لبعض المستشرقين ممن قدموا دراسات ذات مقدرة تفسيرية عالية للحضارة الإسلامية. وقد اكتشف المسيري عبر رحلته الفكرية أن الفكر المادي الصرف يعجز عن تفسير الظاهرة الإنسانية المركبة؛ فالظاهرة الداروينية مثلا تعجز عن تفسير ظاهرة الفن، فهي قد تفسر الجانب التشريحي لذراع أي إنسان، لكنها لا يمكن أن تفسر ذراع مايكل أنجلو ذات المقدرة الفنية العالية. ويؤكد المسيري أن إيمانه بالإنسان كمقولة مستقلة عن قوانين الطبيعة ظل ملازما له خلال تحولاته الفكرية ومراجعاته المستمرة. وهذا الإيمان بالإنسان وبمقدرته على تجاوز ذاته الطبيعية وظروفه الاجتماعية والسياسية، هو ما دفع المسيري إلى اعتناق الماركسية، وهو أيضا ما دفعه إلى استيعابها وتجاوزها، بل كان الإنسان كظاهرة مركبة هو طريق المسيري إلى الإيمان بالله، أو كما يقول هو: "الإنسان المتجاوز لقوانين المادة هو أكبر شاهد عندي على وجود الله". منير شفيق.. الديمقراطية ليست أولا أما مدير تحرير قسم الرأي والدراسات بصحيفة الرأي الأردنية الكاتب والباحث محمد أبو رمان فتناول مراجعات المفكر الإسلامي منير شفيق الذي بدأ حياته سياسيا شيوعيا مسيحيا فلسطينيا، وعمل وفق هذا التوجه لسنوات طويلة، ليبدأ رحلة فكرية انتهت به إلى اختيار الإسلام كدين وكمرجعية، لينتقل عمله ونشاطه من المنظمات الفلسطينية العلمانية ذات الصبغة اليسارية إلى دعم وتأييد الحركات الإسلامية. لكن الباحث لم يتوقف كثيرا أمام تحول شفيق من الماركسية إلى الإسلام السياسي، فجاءت مساهمته كلها لتلقي الضوء حول رؤية شفيق لعملية الإصلاح والتغيير، وهي رؤية تجعل الأولوية المطلقة لمواجهة النزعة القُطرية في العالم العربي، والعمل على تجاوز حالة التجزئة الراهنة، والتوجه نحو آليات التعاون العربي وصولا إلى الوحدة السياسية. وإذا كان شفيق يرى أن القُطرية هي الخطر الأكبر والعقبة الأهم في وجه الإصلاح والتغيير، فإنه أيضا يعطي للعامل الخارجي دورا هاما في تعويق النهضة والإصلاح والتنمية الشاملة. وفي المقابل، يرفض شفيق تحميل "الداخل" مسؤولية الوضع الراهن، كما يرفض مقولة إننا إذا أصلحنا أنفسنا فستنصلح أوضاعنا، ويرى أن تجاهل التجزئة المعززة بالعامل الخارجي هو بمثابة رؤية سطحية وغير واقعية لمشكلات التغيير. ويرى الباحث أن كتابات شفيق تضع الديمقراطية والإصلاح السياسي في منزلة ثانوية غير رئيسة في سؤال النهضة وتجاوز الواقع الراهن، فالديمقراطية عند شفيق لا تعدو أن تكون تحسينا لشروط مواجهة العامليْن الأخطرين المتمثلين في القُطرية والتحدي الخارجي، لكنها (أي الديمقراطية) لا تمثل الحلقة الحيوية والمهمة التي تؤدي إلى التغيير العام كما يدعي المنادون بها. ويخلص الباحث إلى أن رؤية شفيق تقلب الطاولة على دعاة المسؤولية الذاتية عن الواقع العربي، ويرى أن الكثيرين يتفقون مع شفيق على دور الاستعمار سابقا والعامل الخارجي حاليا في إعاقة النهضة العربية، لكن الخلاف الأكبر مع شفيق يدور حول الوزن الكبير الذي يمنحه لهذين العاملين مقابل الاستهانة الصريحة والمعلنة بأهمية العامل الداخلي والتغيير الاجتماعي والثقافي. المصدر: الجزيرة الثلاثاء 16/3/1431 ه - الموافق2/3/2010 م