بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    آخر ملوك مصر يعود لقصره في الإسكندرية!    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    قيس سعيد: الإخلاص للوطن ليس شعارا يُرفع والثورة ليست مجرّد ذكرى    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مراجعة نقدية لمعركة العزة وتداعياتها (4)دراسة في السوسيوبوليتيك
نشر في الفجر نيوز يوم 05 - 03 - 2010


دكتور أحمد محمد المزعنن الفجرنيوز
جدلية السوسيولوجيا والأيديولوجيا في المجتمع الفلسطيني
توطئة
منذ انعقاد لقاءات الحوار الفلسطيني تجمعت عدة مناسبات فرضت هذه الحلقة من سلسلة المراجعة النقدية لمعركة العزة وتداعياتها،ومن هذه المناسبات ذكرى استشهاد الشيخ الشهيد أحمد ياسين رحمه الله فبعض ما ورد في هذه المراجعة هو إهداء إلى روحه وأرواح القادة والمجاهدين،وتأجيل الحوار والمصالحة الفلسطينية في القاهرة بعد عودة الوزير عمر سليمان من زيارته لواشنطن،وعودة نبرة الفتنة ومحاولات الإفساد وتكريس الانقسام المتمثلة في تصريحات عزام الأحمد متزامنة ومتناغمة ومتناسقة مع الإعلان عن قرب تشكيل الوزارة الصهيونية من حزب الليكود والعمل وممثلي قطعان عتاة المجرمين الصهاينة من الأحزاب المتطرفة،بعد ظهور نتائج الانتخابات الصهيونية التي جرت في أوائل العام 2009م،وما صدر عن المكلف بتشكيل الوزارة الصهيونية الصهيوني نتنياهومن إشارات احتيالية خداعية لرفع معنويات وأسهم فريق أوسلو من الجواسيس ورعاتهم من العرب ،وذلك بقوله إنه ملتزم بعملية السلام،وانتظار مؤتمر القمة العربي في الدوحة،والأحداث التي وقعت في القدس وأم الفحم في إطار الاحتفالات بالقدس عاصمة للثقافة العربية لعام 2009م، والذكرى السادسة للغزو الصهيو أنجلو أميريكي للعراق ،وأخيرًا الإعلان عن هجوم جوي غامض على قافلة سيارات في شرق السودان ومحاولة ربطه بالاتفاقية بين اليهود والأميريكان لمنع تهريب السلاح إلى عزة،والتئام المتحاورين ثانية في القاهرة ورفع رموز سلطة أوسلو لقائمة الشروط المستحيلة استجابة لضغوط خارجية،وانفضاض الاجتماع دون التوصل إلى أي نتيجة ملموسة،وبعد ذلك تشكيل الوزارة الصهيونية من رموز العنصرية والعدوانية،أضيف إلى ذلك كله في التاسع عشر من يناير 2009م جريمة إرهابية من نمط الجرائم المنظمة اغتال فيها الصهاينة في فندق البستان روتان بدبي القائد القسامي الشهيد لابطل محمود عبد الرؤوف المبحوح بأسلوب أشبه بالغزو منه إلى الجريمة،ولذلك يمكننا أن نطلق على هذا العمل الإجرامي :غزوة دبيّ .وما ذلك إلا لأن تاريخ الأمة العربية والإسلامية حاليًا يكتب بالمقلوب لصالح الغزاة الصهيوصليبيين ،فنحن في انحسار وجزر ،والغزاة في تقدم ومد،ويستكثر علينا اليهود الغزاة حتى رمزية الماضي الذي نتنكر له شعوبًا وأنظمة،وتتباعد المسافة بيننا وبينه.
لكل هذه الاعتبارات والمتغيرات والتطورات فإنه من المناسب تسليط الضوء على جذور أعمق للمأزق الفلسطيني تمتد إلى أجيال ما قبل نكبة 1948م،وظل انتحاء الجذور الاجتماعية يعمل وفق قوانين الفعل الاجتماعي والفردي في ظروف استثنائية،وأخذت تتجمع عناصر تغير اجتماعي فرضت أحكامًا عريقة للسوسيولوجيا المتحالفة والمتفاعلة مع الأيديولوجيا في إنتاج الفعل الفردي والجمعي ،وهي حالة لم يكن من الممكن التخفيف أو التقليل من فعلها في المجتمع الفلسطيني طوال سنوات الخضوع لإدارات غريبة عن مكونات هذا الشعب،حتى جاء أنموذج أوسلو الاحتيالى الذي قاده جواسيس أوسلو،ورسم خطوطه محمود عباس الذي يمثل مهندس هذا المشروع التخريبي لأنموذج السوسيولجي الأيديولوجي الفلسطيني.
كل ذلك والصهاينة الغزاة يلهب ظهورهم كونهم غرباء وافدين ،ويجمعون عناصر مكون سوسيو أيديولوجي تلفيقي يحاول أن يغير معالم الظاهرة الاجتماعية الفلسطينية التي تمتد لآلاف السنين ،وبناء الظاهرة الصهيونية الغازية بمواصفات جديدة في المكان الذي غيروا معالمه وعبثوا بأسمائه التي ظهرت على سطح الثقافة الإنسانية من خلال تاريخ عريق وعميق من التفاعل الأزلي بين موجات إنسانية صنعت المكان وملأت الزمان بالفكر والفعل المتميزين،واكتسبت خصائص فريدة تستعصي على الطي واللي والتطويع والتزييف.
لا عيدَ لكمْ بعدَ اليوم
عندما وقعت هزيمة الجيوش العربية السبع التي هبَّت لنجدة الشعب الفلسطيني أمام العصابات الصهيونية،التي كانت مسلحة تسليحًا متقدمًا بالنسبة لتلك الجيوش في خريف سنة 1948م،وبدأت تلك العصابات في ارتكاب المجازر لنشر الذعر بين سكان القرى والمدن الفلسطينية ضمن خطة لطرد أهلها تنفيذًا لوعد بلفور،بدأ الشعب الفلسطيني عملية نزوح جماعية بحثًا عن ملاجىء آمنة إما في البلاد العربية المجاورة،أو فيما تبقى من الوطن في قطاع غزة،أو في الأراضي الشرقية من الوطن،وهي ما اصطلح عليه بالضفة الغربية بعد ضمها إلى الأردن عام 1951م،ووقتها كنا أطفالاً لا نفهم كثيرًا مما ما يدور حولنا،ولا يعدو تفاعلنا مع الأحداث أبعد من ترديد الأناشيد الوطنية اليومية في المدارس،ولا شكَّ أن معلمينا كانوا على دراية بما يحدث في وطنهم آنذاك،وكان الدليل على ذلك يبدو في حالة التوتر وقوة الانفعال والشحن الوجداني عند البعض منهم،وخاصة في أواخر سنة 1948م،وبعد خروجنا من قريتنا ولجوء أهلنا إلى قطاع غزة التحقتُ بمدرسة الزيتون الابتدائية ثم الإعدادية(المتوسطة)،وقد كانت الدراسة فيها للطلاب اللاجئين فترة ما بعد الظهر إلى المساء،ولا تزال صورة مدير مدرستنا الأستاذ محمود الشريف رحمه الله وهو من أهالي مدينة المجدل التي تقع قريتنا في قضائها،لا تزال صورته ماثلة في وجداني لا تفارق ناظري،ويده ترتجف من قوة الانفعال،وهو يخطب فينا غاضبًا عندما طالبنا الإدارة أن تمنحنا إجازة بمناسبة عيد الأضحى، قائلاً في سياق حديثه: (لا عيدَ لكم بعد اليوم )،وظننا وقتها تحت ضغط أحلام عالم الطفولة،واستجابة لتقاليد ثابتة أننا يمكن أن نفرح بالعيد،كما كانت عادتنا قبل النزوح من قريتنا أثناء عطلة عيد الضحى من عام 1948م،وظلت هذه الجملة تترسخ في الوجدان،ثم أصبحت حقيقة مدركة محفورة في اللاشعور ،وذات طبيعة قاسية متصلبة ،لم تفلح السنون في محوها،أو التخفيف من وقعها،وكان كلُّ يومٍ يضيف إليها رمزية اللجوء والغربة والتشرد والإصرارعلى عبث العابثين من الأسلويين المتحالفين مع الصهاينة الغزاة من يهود الخزر،والأنظمة العربية التي تبيع وطننا بالمواقف المتخاذلة التي تبنت واحتضنت محمود عباس وفريقه من الخونة والعملاء والجواسيس الذين اتخذتهم ستارًا يخفي استجابتها لمطالب وضغوط الدول الغربية الداعمة لليهود.
قطعة من التاريخ :السفربَرْلك
وقبل النزوح من بلادنا كان أهلنا في المدن في جبهات المقاومة المتقدمة يقاتلون اليهود الغزاة بكل ما يقع تحت أيديهم من سلاح،ويتصدون لموجات الهجرة والغزو والإجرام اليهودي المبرمج الذي يجري بتنسيق وحماية تامة من سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين،وكانت معارف سكان القرى محدودة بحدود ما يتناقلونه من أخبار عن جماعات المقاومة في أكثر من موقع،وخاصة في القرى التي تقع على خطوط الإمدادات بين المستعمرات اليهودية،وكان الاتصال الشخصي أهم وسيلة لنقل الأخبار نظرًا لضعف وسائل الاتصال،وندرة أجهزة جمع ونشر الأخبار والمعلومات،والافتقار إلى كيان فلسطيني حكومي رسمي يمثل مصدرًا موثوقًا للمعلومات،وفي غياب جهاز يوجه المواطنين لما ينبغي فعله،ويوضح ما يجري على أرض الواقع، فقد كان المذياع أو الراديو عملة نادرة في المدن أو عند بعض الوجهاء و(المخاتير)في القرى،والصحف كانت تصدر في المدننولا تصل إلى القرى،والأمية متفشية بين الفلاحين خاصة،باستثناء من تمكن منهم أن يرسل ابنه إلى مصر ليدرس في الأزهر،أو من استطاع أن يتلقى التعليم من أبناء الطبقات المقربة إلى الإدارة الإنجليزية الاستعمارية(حكومة الانتداب)،وأبرز ما كان يتناقله الكبار في ذلك الوقت كان يؤكد:أن عملية النزوح مؤقتة،وأنهم سوف يرجعون بعد شهر أو شهرين إلى بيوتهم،كما حدث لسكان غزة أيام(السفربرلك 1916م )ويقصدون بذلك آخر وأكبرعملية حشد عسكري عثماني أثناء الحرب العالمية الأولى(1914ه 1919م) عندما تحولت غزة إلى ساحة حرب بين الجيش التركي المتجه إلى قناة السويس بقيادة الضابط التركي جمال باشا،المعروف بالسفاح،والجيش البريطاني المدعوم بالأسطول من البحر،وبقوات قبائل (الأعراب) التي جندها لورنس وانضوت تحت لواء أبناء الشريف حسين شريف مكة آنذاك الذي تحالف مع الإنجليز وأعلن أثناء الحرب ما أطلق عليه (الثورة العربية الكبرى على الدولة العثمانية عام 1916م) في الحجاز لإضعاف الدولة العثمانية،وذلك بعد مباحثات مطولة بينه وبين مكماهون المندوب السامي البريطاني في القاهرة،ووعده الإنجليز فيها بدولة عربية تمتد من جبال طوروس شمالاً(الحدود الطبيعية بين سوريا وتركيا،بما فيها لواء الإسكندرون السليب)وقناة السويس جنوبًا،ولكنهم غدروا به،وأخلوا بعهودهم ووعودهم،بعد هزيمة تركيا وحليفتها ألمانيا،واقتسمت بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية بعد نهاية الحرب ولايات الدولة العثمانية،ومن بينها البلاد العربية وفق الاتفاقية الثلاثية المعروفة باتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية قبل قيام الثورة البلشفية في روسيا في أكتوبر 1917م.
وضع غزة
ونتج عن ذلك تحول منطقة غزة إلى ساحة حرب جعلت أهلها ينزحون عنها إلى الشمال في ضيافة إخوانهم المواطنين في المدن والقرى بحثًا عن مأمن،وكان عددهم حينئذ لا يتجاوز العشرة آلاف،لكن خروجهم وهجرتهم من مساكنهم لم يطل فقد عادوا إليها بعد هزيمة الجيش العثماني ،وتحطيم مقدمته في منطقة وادي العريش في شمال سيناء،وكانت واقعة هجرة أهل غزة هذه لا تزال حية في الذاكرة الفردية والجمعية للجيل الذي عاصر الحرب العالمية الأولى من الشعب الفلسطيني بعد حوالي ثلاثين سنة تقريبًا،فأوحت إليهم بالسلوك الجمعي التلقائي الذي اصطبغ بنوع من العدوى الانفعالية الاجتماعية كسلوك غرزي يدفع نحو البحث عن الأمن والنجاة نتيجة لتردد أخبار المذابح الصهيونية؛ولذلك ترك الناس دورهم بعد أن أغلقوها،واكتفوا بأن حملوا معهم مفاتيحها على أمل العودة قريبًا كما فعل أهل غزة.
ولنفس هذا الغرض النجاة والأمن من المذابح الصهيونية اتجه سكان المدن الفلسطينية الساحلية نحو أقرب حدود عربية لهم في حركة نزوح كبرى،ووقتها وتحت حكم الإنجليز كان عبور الحدود أسهل وأسلس وأكثر مشروعية ،فاتجه سكان حيفا وعكا مثلاً وما حولهما من القرى،وما يقع إلى الشمال منهما اتجهوا نحو لبنان،أما سكان شمال فلسطين في الداخل:مدينة صفد وطبريا وسكان سهل الحولة فاتجهوا إلى سوريا،وأهل يافا وما في جنوبيها من المدن الصغيرة كاللد والرملة والمجدل والقرى الشرقية وبعض سكان النقب اتجهوا نحو غزة،ونشرت قيادة الجيش المصري في المجدل آنذاك ومصر آنئذ كانت قبل ثورة يوليو 1952م تحت حكم الملك فاروق ،وهو آخر أفراد أسرة محمد علي باشا ، نشرت تلك القيادة بين السكان خبرًا يفيد أنها ستتمركز فيما عُرِف فيما بعد بقطاع غزة بموجب اتفاق الهدنة الثاني،وحدوده من بيت حانون وبيت لاهيا،اللتين كانتا عبارة عن قريتين صغيرتين تتكونان من بيوت طينية قليلة العدد،وحتى رفح التي كانت مجرد نقطة حدود تفصل بين مصر وفلسطين التاريخية،وقد بقي عبد الناصر رحمه الله وعدد من الأبطال معه محاصرين في جيب الفالوجا شرق غزة،وذلك بعد انسحاب الجيش الأردني فجأة وبلا سابق إنذار من اللد والرملة،وانكشاف ميمنة الجيش المصري الذي اضطر إلى التراجع عن هجومه على مشارف تل أبيب،وكان الجيش الأردني وقتها يُعرف بالفيلق العربي تحت قيادة ضابط بريطاني يدعى وينجت (وكانت شهرته في إمارة شرق الأردن أبو حنيك)،وكان الأمير عبد الله بن الحسين جد الملك حسين والد الملك عبد الله الثاني هو القائد العام للجيوش العربية السبعة التي كانت مشتبكة في حرب مع العصابات الصهيونية ،بعد رفض مشروع التقسيم هام 1947م،والزحف إلى ميدان فلسطين.
رغم النكبة والتشرد
في عام 1948م خرج معظم الشعب الفلسطيني حاملاً معه خصائصه الاجتماعية والمجتمعية الأصلية،فقد كان لدى سكان كل مدينة أو قرية أو خربة عادات ومهارات وتقاليد في الأفراح والأتراح والأعياد والملابس والعلاقات الاجتماعية وعادات إنتاجية ومعيشية ولهجة أو قل لكنة خاصة تميزهم في إطار الثقافة الشعبية الفلسطينية العامة التي تميزالشعب الفلسطيني،ولقوة الروابط الاجتماعية والدرجة العالية من التماسك الاجتماعي،ونمط التكافل الأسري الراقي، ولرسوخ الكثير من القيم الدينية والاجتماعية في الأسر النازحة،فقد حرصت النسبة العظمى من الشعب على إعادة بناء الكيانات الاجتماعية التي نشأوا وسطها لقرون ماضية في المدن والقرى والأودية والجبال والسواحل ويعيدوا بناءها في المواقع التي انتهى بهم مشوار اللجوء للاستقرار فيها وعلى صورة مجتمعاتهم الأصلية،فتجمع أهل كل قرية أو مدينة أو حي بطريقة تلقائية في موقع واحد في حدود الممكن والمتاح،وذلك سعيًا لتحقيق أعلى درجة من التجانس الاجتماعي والمجتمعي والثقافي،فعلى سبيل المثال تجمع عدد كبير من أهل بلدة الجورة الواقعة قرب مدينة عسقلان التاريخية ومسقط رأس الشيخ أحمد ياسين رحمه الله ومعهم كل من كانت حياته ترتبط بالبحر في بلدته الأصلية،تجمعواعلى ساحل البحر المتوسط غربي مدينة غزة فيما يعرف حاليًا بمعسكر أو مخيم الشاطىء،وبالطبع لم يعد المكان مخيمًا بل صار حيًا من مدينة كبيرة،وبعض أهل الجورة ابتعد بهم المشوار قليلاً فسكنوا سواحل خانيونس ورفح يفتشون عن بيئة زراعية متميزة تعرف بالمواصي(وهي الأرض الزراعية بمحاذاة سيف البحر مباشرة،ولها نظام دورة زراعية خاصة لا تنقطع فيها الزراعة على مدار العام فكأنها جزيرة زراعية في وسط محيط غريب عنها)،ومثلهم فعل أهل يافا وكل من كانت له علاقة بالبحر، وتجمع معظم سكان القرى الزراعية حول الأراضي الزراعية في المقار الجديدة في حي الزيتون والشجاعية على أمل استئناف أنشطتهم الاقتصادية في حدود المتاح رغم ضيق مساحة القطاع،ونفس الأمر حدث في الضفة الغربية مع اختلافات فرضتها حقيقة أن الضفة أكبر مساحة وأكثر تنوعًا في التضاريس وأكثر رحابة تسمح بتنوع النشاط البشري،وزادت الفرص بعد ضمها إلى الأردن وسلخها عن جنسيتها الفلسطينية واستبدالها بالجنسية الأردنية بعد مؤتمر أريحا عام 1951م،أما من كانت حرفته التجارة أو الصناعة فقد بحثوا عن ممارسة انشطتهم في أجواء المدن أو القرى والبلدات الأكبر حجمًا.
ولم يكن المخيم أو المعسكر مجرد مكان أو مجال فيزيائي،ولكنه بوضعه الجديد وفرَّ وعاءً إنسانيًا متجانسًا،فكان معظم سكان أي جزء في المخيم أو (بلوك) كما كان يعرف ينتمون تقريبًا إلى نفس القرية أو المدينة في حدود الممكن،وربما لم يكن ذلك صدفة،بل كان ثمرة للمحاولات الأولى للتجمع المتجانس الذي أسسه اللاجئون الفلسطينيون الأوائل،ولهذه الظاهرة أمثلة في بعض بلاد العالم،ظهرت لدى المهاجرين الأوروبيين الأوائل إلى أمريكا الشمالية التي عرفت فيما بعد بالولايات المتحدة الأمريكية وبلاد أميريكا الجنوبية (اللاتينية)وأستراليا ونيوزيلندا عند اكتشافها،فعلى سبيل المثال نجد سكان الولايات الشمالية الشرقية الست على ساحل الولايات المتحدة الأميريكية المعروف بإقليم نيوإنجلند أي إنجلترا الجديدة هم في غالبيتهم من ذوي الجذور الأنجلوسكسونية أي من الجزر البريطانية،وتتركز السلالات اللاتينية (من أصول إيطاليا وإسبانية وبرتغالية وفرنسية )في دول أميريكا الجنوبية،وتتوزع الجماعات ذات الأصول المتوسطية بما يشبه الانتحاء الثقافي والاجتماعي أو الانجذاب المناخي في إقليم جنوب غرب أستراليا،ويكون الصينيون حاليًا نسبة كبيرة من سنغافورة وماليزيا وبعض أقاليم إندونيسيا.
النكسة 1967م
وأضيفت موجة جديدة من النزوح القسري والعشوائي والاحتيالي المبرمج بعد هزيمة عام 1967م بالتنسيق مع أطراف محددة من أنظمة الوهن العربي السيكوبولوتيك،ونتج عنها إضافة أعداد كبيرة من الجيل الثاني والثالث من سكان قطاع غزة والضفة الغربية إلى المقيمين خارج فلسطين،وبعد توقيع اتفاقية أوسلو حدث ما يشبه العملية الاحتيالية متعددة الأطراف ،فاعتبر نازحًا كل من لم يدخل في تعداد عام 1968م الذي قامت به سلطات الاحتلال الصهيوني حينها،أو من لا يحمل الهوية الإسرائيلية،ثم زادت عمليات النبذ والعزل والفرز بعد قبول فريق أوسلو من التجار والسماسرة والجواسيس قصر المواطنة والتبعية السياسية للكيان الجديد الذي أطلقوا عيه السلطة الوطنية على حاملي جواز السلطة من سكان الضفة والقطاع،أو مَنْ دخل مع إدارة السلطة من الأفراد الذين جذبتهم الاستثمارات التي كانت تبشر بسنغافورة ثانية في غزة من طبقة المغامرين الذين تحلقوا حول ياسر عرفات وأعوانه،كل حسب نيته،والجهة التي تديره وتوجهه،ومعظمهم اختفت آثارهم مع اختفاء المليارات والمشاريع الخيالية التي كان يسيل لها لعاب الطامعين في اقتسام الإرث المادي،بعد تبخر الإرث المعنوي في بيداء التنازلات والمشاريع التفاوضية الوهمية التي تحاول التوصل إلى سلام مستحيل.
ولم يبقَ من هذا التنظيم السوسيولوجي إلا القليل بعد دخول سلطة أوسلو إلى الضفة والقطاع،وقيامها بمحاولات محمومة من أصحاب المشروع للتأسيس لشروط سوسيولوجية تستأصل ما يمكن أن نطلق عليه الانتحاء الاجتماعي الفطري المتأصل في الشعب الفلسطيني،والمتمثل في التجمع والتجانس الأسري،ثم الانطلاق في مشاريع الأسر الممتدة،وما ينتج عنها من نمو وتزايد في العلاقات الشبكية عن طريق النَسَب مع الأسر الأخرى، وأشكال العمل التعاوني الاجتماعي.
السوسيولو جيا القسرية في المخيمات
تشكلت السوسيولوجيا القسرية في المخيمات في البلاد العربية التي حاولت تزييف الانتماء الوطني الفلسطيني بطرح مواصفات جديدة للإنسان الفلسطيني،وربط السوسيولوجيا الأصلية التي حملها اللاجئون أو النازحون أو اللامنتمون أو البدون الفلسطينيون معهم بشروط جديدة من الولاءات المصطنعة الخاضعة لتوصيف الوسط الفيزيائي والثقافي الذي وجدوا أنفسهم خاضعين لعناصره وضغوطه الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
أدت بعض وقائع التناقض التي تصاعدت إلى حدِّ الصراع والصدام إلى تصدع الكثير من الأبنية السيكولوجية والسوسيولوجية،ولم تحدث مراجعات كافية للتجارب المريرة التي وجدت تجمعات الشعب نفسها غارقة في أوحالها،وكان ذلك من بين أسباب تسلل العبثية والعفوية في الظاهرة النضالية التي يصر بعض المنتمين إليها من أصحاب مشروع أوسلو وأعوانه وصفها بالتطور الطبيعي أمام ضغوط المحيط،وهم في ذلك يلقون مسؤولية الفشل على مُكَوَنٌ عام وغامض وهلامي بهدف تشتيت التركيز عن العجز الوظيفي الذي تمثله سلطة ارتضت دورًا ناقصًا حدده المحتل بالخضوع لعوامل القوة الصهيونية المسيطرة ،حيث تفرض هذه الشروط طبيعة الفعل ورد الفعل الفردي والمجتمعي بكل أشكاله.
نورد هذه الحقيقة لأن الذي يجري حاليًا على مسرح الأحداث في المستنقع الفلسطيني له جذور في التكوين السوسيولوجي،وتحديدًا في أجواء التطورات المتلاحقة بعد حرق غزة وقتل أهلها،وتدمير بيوتها في الحرب الإجرامية التي شنها الصهاينة عليها ما بين 27ديسمبر 2008م و21يناير 2009م،والعنصر الفاعل الذي يعمل لدى كل من يجرؤ على المساس بالحقوق الوطنية من هؤلاء هو نتاج سوسيولوجيا قسرية تكوِّن ظاهرة وظيفية انحرافية جاءت من تغير سطحي للتكيف للشروط غير الموضوعية في الوسط الذي وجد الشعب الفلسطيني نفسه فيه محاصرًا بكيانات ترفع في وجهه شعارًا ضبابيًا يروج لثقافة السلام فيما يعرف بالمبادرة العربية التي تتبنى مشروع أوسلو الذي ثبت فشله،ولكنه لم ينتهِ رسميًا.
حماس وتَعانق السوسيولوجيا والأيديولوجيا
عندما نزح الفلسطينيون قسرًا أو احتيالاً او اختيارًا عن وطنهم لم يكن يوجد صراع بين اعتبارات السوسيولوجيا والأيديولوجيا،حيث كانت الأبنية الاجتماعية توظِف توظيفًا تلقائيًا أحكام العقيدة الإسلامية لدى الغالبية العظمى من الشعب،وكانت شخصية المختار،أو رئيس البلدية أو الشيخ الأزهري(الخطيب أو المفتي)و(إكْبار) العائلات (أي الشخصيات البارزة فيها كما ينطقها الفلسطينيون)والوجهاء كل هؤلاء يمثلون إفرازًا سوسيولوجيًا لمجتمع متجذر أفقيًا ورأسيًا،ولا نبالغ إذا قلنا إن جذوره تمتد إلى الأصول الكنعانية والآرامية والعربية الأولى،وكان لا يظهر إلى السطح الاجتماعي تحت ضغط السوسيولوجيا إلا أصحاب الكاريزما القيادية المبررة التي تحظى باحترام شديد وبلا منازع،وقد انتقلت تلك المكونات إلى المعسكر،ووجدت لها نظائرها في السوسيولوجيا المضيفة في المناطق التي انتقل إليها إخوانهم اللاجئون،وكان ذلك من أهم العوامل التي أسست للتجانس الاجتماعي في مناطق التجمع البشري باستثناء بعض الحالات الفردية.
وظلت تلك الظاهرة الضابطة الحاكمة فارضة نفسها على الحكَّام الجدد من السلطات الأردنية في الضفة الغربية،وفي قطاع غزة تحت الإدارة المصرية من عام 1948م إلى عام 1967م،وفي المخيمات بالضفة الشرقية للأردن قبل 1967م،أو في مناطق تجمع الفلسطينيين في سوريا والعراق وغيرهما من مناطق اللجوء على اختلاف في قوة التأثير والتأثر،وكانت الشخصيات التقليدية عضد ومرجعية السلطات في المنطقتين الفلسطينيتين الخالصتين بالضفة الغربية وقطاع غزة،أما في البلاد الأخرى فالأمر يختلف،ولكل تجمع بشري قوانينه وشروطه في تحديد نمط العلاقة مع الوسط الجديد،والفلسطينيون في لبنان أنموذجه الماثل الذي يقدم أوضح دليل على المأزق السوسيولوجي في تفاعلاته مع المقر الجديد.
لم تظهر الحاجة إلى إعادة النظر في الأيديولوجيا إلا بعد ظهور الجماعات ذات الأيديولوجيات الغريبة في بعض مناطق التجمع الفلسطيني بتأثير ظهور الحركات السياسية المسلحة الجديدة التي تتبنى استراتيجية المقاومة المسلحة ضد العدو الصهيوني المحتل للوطن،فتراجعت السوسيولوجيا للأيديولوجيات الوافدة الجديدة قسريًا وبلا منازع،وتبدلت العوامل التي تحدد شروط الفعل الفردي والمجتمعي في الوسط السيوسولوجي الجديد نتيجة لغلبة مصفوفة الأهداف الجمعية للنهج الجديد المقاوم المسلح الجديد الذي تبناه وتحمل مسؤوليته جيل كامل بدأ بالشقيري ولم ينته بموت (محمد عبد الرؤوف القدوة المعروف بياسر عرفات)،بل ازداد عمقًا وزخمًا عندما توحدت الأيديولوجيا والسوسيولوجيا في مجتمع أسسته وقادته وصنعته وحمته حركة المقاومة الإسلامية حماس في أنموذج فذٍ وفريد من نماذج البناء الاجتماعي الذي يمارس الوظائف الاجتماعية في النُسق البنائية بسلاسة ومرونة وكفاءة نادرة .
إن العوامل التي بلورت وصنعت وأخرجت الأنموذج الفذ لحماس ليست فقط سقوط النقيض الأوسلوي،أو الصدام بين مشروعين سياسيين على الساحة الفلسطينية كما يحاول الكثيرون تفسيره ولكن العامل الحاسم في إخراج هذه الأنموذج البنائي الوظيفي كان التقاء السوسيولوجيا اللاجئة المهاجرة مع السوسيولوجيا المتوطنة في الأجيال الجديدة التي قادها الدعاة والمعلمون والمصلحون والقادة الرواد بدءًا بالشيخ القائد أحمد ياسين ورفاقه في غزة،ومجموعات القادة في الضفة الغربية،وليس انتهاءً بالقادة الميدانيين في حقول العمل السياسي والاجتماعي حاليًا.
التقى الرافدان السوسيولوجيان في المساجد بتأثير التوجه الإسلامي العارم الذي نتج عن كون حماس امتدادًا لحركة الإخوان المسلمين،ونتيجة لفشل سلطة أوسلو وفسادها،وانكشاف عوار منهجها،وتجذرت الأيديولوجيا المتعانقة مع السوسيولجيا في قاعات المحاضرات في الجامعات التي يرفدها نظام تعليمي كثيف الحماس للمبادىء التي رسخها أحمد ياسين،وقادة التيار السلفي الجديد في فلسطين وفي الخارج،وحافظ عليه كل من ساروا على نهجه في غزة والضفة،وخاصة في مدينتي الخليل ونابلس ومخيمات الضفة،والتقوا في ميادين العمل الاجتماعي والتنظيمي والثقافي بعد أن صهرتهم تعاليم الإسلام السلفي التي تنطلق من مبادىء واضحة وصريحة وأولية مغروسة في التكوين الثقافي والاجتماعي للشعب الفلسطيني.
ويمكن تفسير ذلك بمثال بسيط من الأمثلة الكثيرة لا تقليلاً من قيمة وحجم الأنموذج الفذ لحماس والجهاد بل للتوضيح الجزئي لجانب من جوانب هذا الأنموذج:التقى أهل بلدة الجورة المجاورة لأطلال مدينة عسقلان التاريخية وهي مسقط رأس الشيخ أحمد ياسين يرحمه الله،(وبالمناسبة فمعظم قادة حماس الظاهرين على الساحة من هذه البلدة وهم خليط من الفلاحين والصيادين الذين يتمتعون بخصائص إيمانية وحياتية تفرضها شروط التعامل مع البحر واليابس بحثًا عن الرزق)التقوا مع خصائص فريدة متوفرة لدى مكونات الطبقة المتوسطة المحافظة من أهل غزة في حي الزيتون في الجنوب الغربي لمدينة غزة الذي يتكون في معظمه من أجود أنواع الأراضي ليس فقط في القطاع بل في فلسطين قاطبة،وأهل حي الشجاعية شرقي غزة بخصائصهم وصفاتهم المتميزة المتصفة بالكرم والرجولة والشجاعة والنخوة والطبيعة المحافظة،وأهل الأحياء التي تقيم بها الطبقة الوسطى في غزة في حي التفاح والدرج حيث الغالبية العظمى من أصحاب المهن والصناعات والمهارات المدنية في التجارة وغيرها من الأنشطة.ومثل ذلك يقال عن السوسيوأيديولوجي لكل قطاع جزئي في الأنموذج المقاوم في الضفة والقطاع وفي الشتات مع الأخذ في الاعتبار ظروف إقامة كل قطاع.ومثل ذلك يقال عمَّا حدث في الضفة الغربية،وفي التجمعات الفلسطينية في الشتات والمنافي وأنموذجه كان التجمع الفلسطيني الهائل في الكويت،والذي كان الهدف الرئيس لفتنة الاحتلال العراقي للكويت،ثم التحالف الصليبي الذي تشكل بهدف إخراج العراق ثم احتلاله وتخريبه وتدميره ونهب موارده،وهذه الظاهرة الاجتماعية العريقة هي هدف منظري وفلاسفة الانهزام في سلطة أوسلو من الجواسيس والانتهازيين الذين حاولوا بمشروعهم المخرب تكوين نقيض اجتماعي بأيديولوجية متهافتة.
إن مزيج السوسيولوجيا والأيديولوجيا الذي نشأ وترعرع ونبغ ممثلوه وقادته في قاعات الكليات في الجامعة الإسلامية بغزة وفي جامعات الخليل ونابلس والقدس وبيرزيت وغيرها هو الذي صهر سكان مخيم رفح وسكان مخيم جباليا وسكان مخيمات الضفة في جنين وحول القدس ورام الله والخليل على سبيل المثال،وصنع منهم كتلة متماسكة من أشد المقاتلين العقائديين،وخلق البيئة المناسبة لظهور أصدق القادة الذين أعادوا ذكريات الشعب الفلسطيني،وربطه بالسوسيولوجيا الأصلية في القرى والمدن والبوادي الأولى التي نزحوا منها،وكأن ستين سنة من النكبة والتشرد كانت أشبه بحلم عابر،وهذا الوضع الضاغط من طرف يفترض فيه أنه قد انتهى أمره بتوقيع ما عرف بمعاهدات السلام العربية واتفاقية أوسلو المشؤومة مع العدو اليهودي الصهيوني المحتل،هو الذي يشكل تهديدًا حقيقيًا للمشروع الصهيوني الاستعماري الغازي،وللمشروع الأوسلوي من العملاء والسماسرة والجواسيس مع محمود رضا عباس وفريقه،ولمشروع التوسع الأمريكي وحلفائه من النظام العربي الرسمي،وهو ما أملى على الصهاينة الحقد الإجرامي الذي مارسوه في معركة العزة في الفترة الممتدة بين 27ديسمبر 2008م حتى 23 يناير 2009م وما بعدها،وهو ما جاء بنتنياهو وليبرمان ومجموعة الأحزاب التي توصف باليمينية،وما هي إلا يسارية شيطانية مخربة مفرطة في الإفساد والعنصرية .
لقد تمددت أشجار الزيتون المباركة وتقابلت في أعماق التربة المباركة مع أشجار الجميز العملاقة المشهورة بعطائها الفريد،فهي تثمر سبع مرات في العام،وينتشر ثمرها من أسفل جذوعها إلى أطراف أغصانها التي تعانق الغيوم،ولا توجد هذه الظاهرة الطبيعية الخضرية إلا في أرض ساحل فلسطين،وتجذرت حتى وصلت إلى الخزان المائي القديم التاريخي،وتمثلاً لما يحدث في أعماق تربة الأرض المقدسة تعانقت مكونات المجتمع الفلسطيني المتكافلة،وعائلته وعناصره فوظفت المخزون الأصيل والعريق لمنظومات القيم والأخلاق والثقافة التي كادت سنوات الغربة واللجوء أن تمحو مجرد ذكرها،وأقامت تلك المكونات الكيان الذي تواصل مع المدد الطبيعي المتعمق في أرض غزة،والذي يستمد وينمي رصيده من الأمطار التي تأتي بها الرياح الغربية القادمة من المحيط الأطلسي بعد أن يهذبها ويباركها مرورها على شواطىء الأرض المقدسةنوبحرها الشاهد على قداستها،الحارس لما تبقى من أسوار مدنها الخالدة في عكا وأسدود وعسقلان،صنعت المكونات الأصيلة في القرى والمدن الساحلية وفي الضفة أنموذجًا فريدًا من الثقافة الدينية التي هذبها وقوَّمها وعمق تأثيرها مجموعة من التحديات هائلة الضغوط،وتصلبت مكوناتها في محاولة لصناعة نقيض للغزاة الصهاينة،ولكن المفاجأة الصاعقة كانت في نقيض وافد من نوعٍ آخر لم يكن في الحسبان.
النقيض الوافد
أوسلو والنموذج السوسيولوجي الاحتيالي لسلطة وصمة أوسلو
لا يوجد فرق حقيقي بين سكان المدن والقرى في فلسطين،وذلك لأن كل المدن الفلسطينية تقع في محيط من القرى المدنية إن صحَّ التعبير،وتوجد علاقة عضوية راقية من نوع فريد بين سكان المنطقتين الحضريتين،وقد حافظ أنموذج حماس السوسيو أيديولوجي على مخرجات تلك الحقيقة الاجتماعية،وساعده على ذلك تحول ما يطلق عليه المخيمات أو المعسكرات إلى أحياء مدنية فرضت أنماطًا متميزة من الخصائص الاجتماعية،وكثفت من خصائص أنموذج الطبقة الوسطى المحافظة بتأثير الثقافة الدينية،وقد جرت مقابلة ومعارضة مخرجات هذه العوامل السوسيو أيديولوجية التي حازت قبول غالبية الشعب الفلسطيني بأنموذج سوسيو سيكوبوليتك يتمثل في مكونات سلطة أوسلو العميلة،ومكونات مشروعها التخريبي الوافد الذي اكتشفه القليلون في وقت مبكر،ولكنه لبَّس على غالبية الشعب عندما بلغ ذروته في الترميز العفوي والاحتيالي الضاغط بهدف صناعة أنموذج سوسيولوجي تحويلي تلفيقي قسري يفرغ السوسيو أيديولجي الحمساوي الشعبي الأصيل المتغلب من مضمونه،ويفقده بريق وجاذبية مشروعه المقاوم،ويستنزف طاقاته في صراعات جانبية،وساعد سلطة أوسلو العميلة على المضي في هذا الأنموذج السويسولوجي الإحلالي انفرادها بالسلطة السياسية؛نتيجة لمقاطعة حماس، وبعض الفصائل مشاريع هذه السلطة ومجاراتها في مراحل علاقاتها مع الاحتلال،ويبدو أن الأمر مبكر للحكم على تصرفات هذه القوى التي تركت سلطة أوسلو تنفرد بالشعب وبالقرار في أخطر مراحل القضية الفلسطينية،بدلاً من كشفها وتصفيتها في وقت مبكر،قبل أن تتجذر وتدعمها جبهات إسناد تهدف إلى تخريب المشروع الوطني الفلسطيني وتكرسها كسلطة شرعية انحرافية فاسدة متجانسة مع الوسط الإفسادي الصهيوني والعربي الرسمي من حوله،وكانت السوسيولوجيا العبثية التجميعية حاضرة في الأنموذج السلطوي،وهي ما أفضى إلى حالة الفوضى الأمنية،وما قاد إلى أحداث 14 يونيه 2007م في غزة،ومن بعدها بالضفة،وهو الذي يكرس الانقسام وينحاز إلى الأعداء جريًا وراء وهم السلام الذي لا يوجد له أي ذكر في أجندة الصهاينة كما يجرى في (الكونتون)الانحرافي في رام الله،وممارساته الإجرامية على مساحة الضفة الغربية .
النتيجة من ذلك كله هو الحقيقة الثابتة والمتمثلة في الظاهرة السوسيولوجية التي تضرب بجذورها في أعماق الشعب الفلسطيني،وهي التي تقبلت الأيديولوجيا وهضمتها وتمثلتها،وانبثقت منهما الحقيقة النضالية التي ترفض التزييف والتدليس الأوسلوي،وتخرج الخبث من معدن الشعب كما يخرج الكير خبث الحديد،إنها السوسيولوجيا العريقة التي تحيّد العملاء ،وتنبذ الجواسيس مهما كثر عددهم.
إلى أين ؟
جميع المؤشرات تدل على أن أصحاب مشروع أوسلو وحلفاءهم من رموز السيكوبوليتيك والسيكوسوسيال والسيكوأيديولجي والسيكوإبستمولوجي ومجموعات التزييف والتحريف الواقعي والتاريخي ممن ينتسبون إلى فكر ولغة الأمة في المنطقة من الكتَّاب والعاملين في حقول الإعلام والملتفين حول أصحاب القرار من كذابي الزفة،ورموز الوهن القومي ،وعناصر ومراكز الدعم الدولي لهم يستشعرون القوة،ويندفعون لاستغلال الوضع المأساوي للشعب الفلسطيني في غزة والضفة،ويمارسون ضغوطًا معيشية على تجمعات هذا الشعب في الشتات في ظل أزمة مالية تحولت إلى أزمة اقتصادية عالمية،والصهاينة في هذه الظروف يعبثون بمقدرات العالم الاقتصادية والسياسية،ويقدمون العروض المغرية لحراس ثغرات الاختراق في العالم العربي،ويعيدون تفسير مراكز القوى في المنطقة تحت المظلة الأمريكية،ولا يبدو على الإدارة الأمريكية الجديدة أنها تغيرت إلا في الوجوه وبعض العبارات الرقيقة المخففة التي تتحول إلى سدود واستحالات عندما تصل الأمور إلى ما ينبغي للصهاينة فعله من أجل استحقاقات السلام.
يضيف الصهاينة يومًا بعد يوم اختراقات للخطوط الحمراء الأمنية ،ويحاولون العبث في مراكز التفوق الاقتصادي،والمناطق الواعدة على أطراف مركز التاثير في الأمن القومي،ولن تكون (غزوة دبي الصهيونية في 19 يناير عام 2009م)الأخيرة إذا ظلت بؤر الوهن القومي تكرس التخاذل والانهزام ،وتتربص بالنخب،وتتفرد بالقرار المصيري.
وفي هذه الأجواء التي تبدو ملبدة وقاتمة يبدو ظاهريًا أن جبهة المقاومة وداعميها في موقف ضعيف ومفكك ومكشوف،وفي هذه الحالة يغدو من المُجدي التصلب المطلق في المواقف المبدئية،وعدم التنازل عن أي جزئية تمس الحقوق الثابتة،والانخفاض بسقف الحاجات المعيشية للناس إلى الحد الأدنى،مع الاحتفاظ بأعلى درجة من الروح المعنوية،وحشد المزيد من الأنصار ،وتنويع الأسلحة العسكرية ومضاعفة الرصيد اللوجستي النوعي منها،وعودة نهج حماس وحلفائها في الفصائل الجهادية إلى تقوية العلاقات مع شعبها في الخارج الذي تجاهلته محادثات المصالحة في القاهرة بهدف إضعافها ،وتشويه صورتها المجيدة التي خرجت بها من معركة العزة بين العامين الميلاديين (نشر قصة ابن القيادي في الحركة الشيخ حسن يوسف أخيرًا)،وتصغير حجمها أمام حشد من العلمانيين والانتهازيين وكتلة الجواسيس الذين يدَّعون شرعيةً كاذبة والمزيفين لإرادة الشعب،ولن يطول تماسك جبهة السيكوبوليتك هذه،فسرعان ما يتخلى الصهاينة عن الجواسيس والعملاء بمجرد تيقنهم أنهم لن يحققوا لهم اختراقًا ذا بال في جبهات المقاومة الوطنية والقومية ،وهو نهج يدركه كل من تابع ويتابع مراحل الصراع مع هؤلاء اليهود الخزر الغزاة المجرمين.
والله أعلى وأعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(... والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.) (يوسف:21)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.