تعكف فرنسا على وضع اللمسات الأخيرة على مشروع "الإتحاد من أجل المتوسط"، تمهيدا لعرضه على الإجتماع الدوري للمجلس الأوروبي المُقرر ليومي 13 و14 مارس الجاري في بروكسل، بالإشتراك مع ألمانيا. واضطر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لخفض سقف مشروعه الرّامي لإنشاء اتحاد يضم البلدان المشاطئة للمتوسط، مراعاة للتحفظات القوية التي أبداها شركاؤه الأوروبيون، وخاصة برلين.
بين الأفكار التي أطلقها المرشح ساركوزي في اجتماع بات شهيرا عقده في مدينة تولون المُطلة على المتوسط يوم 8 فبراير 2007 والتصريحات التي أدلى بها لصحيفة "لو فيغارو" يوم 6 مارس الجاري، كان واضحا أنه قام بتمرين رياضي قاس لاختزال المشروع وتدوير معظم زواياه، كي يتطابق مع الحجم الذي ترتضيه ألمانيا وبريطانيا وباقي الشركاء الغاضبين.
ففي المشروع الأصلي أراد ساركوزي إنشاء اتحاد إقليمي يكون مقتصرا على البلدان المطِلة على المتوسط ويستثني البلدان الأوروبية الشمالية، وأعلن نيته إقامة أجهزة مركزية للإتحاد مُقتَبسة من مؤسسات الإتحاد الأوروبي، وبخاصة مجلس رئاسة يكون مركز صناعة القرار، وبنك متوسطي للإستثمار على غرار البنك الأوروبي، ونظام أمني جماعي، "يسمح بضمان السلام من دون اللجوء لسباق التسلح أو الردع"، على حد قوله.
والثابت، أن ساركوزي اختزل هذا المشروع الكبير إلى صيغة متواضعة في أعقاب القمَّة التي جمعته مع المستشارة الألمانية أنجيلا مركيل في هانوفر يوم 3 مارس الجاري، على هامش مشاركتهما في معرض للتكنولوجيات الحديثة.
"قمة المصارحة"
وقال دبلوماسي ألماني لسويس إنفو، إن ميركل تحدّثت في "قمة المصارحة" مع الرئيس الفرنسي، بوصفها مفوضة من البلدان الأوروبية المتحفِّظة على الصيغة الأولى للإتحاد المتوسطي، والتي تمتد من السويد شمالا إلى سلوفينيا جنوبا، التي تتولى رئاسة الإتحاد الأوروبي حاليا والتي لم تُخف معارضتها الصريحة للمشروع الفرنسي.
وأضاف الدبلوماسي، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، أن ساركوزي تنازل للموقف الألماني ورضي بأن تكون أبواب الإتحاد، المنوي إنشاؤه، مفتوحة لجميع أعضاء الإتحاد الأوروبي السبعة والعشرين بلا استثناء، أي بما فيها تلك التي ليست متاخمة للمتوسط، وسيتيح هذا التعديل لألمانيا أن لا تترك فرنسا تنفرد بزعامة الإتحاد المرتقب.
وعلى هذا الأساس، اتفقت باريس وبرلين على تقديم مسودة مشتركة لمشروع "الإتحاد من أجل المتوسط" إلى اجتماع المجلس الأوروبي المقرر انعقاده يومي الخميس والجمعة المقبلين، لكن هذا التنازل كان قاسيا وصعبا على الجانب الفرنسي، مما جعل ساركوزي يُصر في محادثاته مع ميركل على حَصر الرئاسة الدورية للإتحاد في البلدان المتوسطية، على أساس التناوب بين الضفتين، وهو التعديل الذي قبلت به المستشارة ميركل في نهاية المطاف، على ما قال الدبلوماسي الألماني.
وأنهى هذا الحل الوسط تصدّعا استمر أشهرا بين باريس وبرلين، اللتين تُعتبران قاطرة الإتحاد الأوروبي، حتى أن مركيل لم تتوان عن نقد مشروع ساركوزي أمام كوادر حزبه، "الإتحاد من أجل حركة شعبية" بشكل لا يخلو من السخرية، عندما قالت متحدثة عن أعضاء الإتحاد الأوروبي "هل يُعقل أن يهتم بعضنا بالمتوسط، فيما ينشغل الآخرون بأوكرانيا"؟ ويجوز القول أن الفرنسيين هم أصحاب المصلحة في إنهاء الجفوة مع برلين بهذه الصيغة التوافقية، لأنهم يستعدون لتسلم رئاسة الإتحاد الأوروبي من سلوفينيا في مطلع يوليو، وهذا يتطلب تبديد جميع الغيوم من سماء العلاقات بين الشركاء الأوروبيين.
ومن تلك الغيوم أيضا، الخلاف مع لندن التي تدافع بقوة عن انضمام تركيا للإتحاد الأوروبي. وكان يتعيَّن على ساركوزي أن يُرسل موفدين خاصين إلى شركاء فرنسا في الإتحاد الأوروبي لطمأنتهم وتهدئة مخاوفهم، مثلما أرسل السفير ألان لوروا في وقت سابق إلى البلدان المتوسطية، لاستطلاع استعداداتها للتفاعل مع مشروعه.
وسألت سويس إنفو السفير لوروا عن ملامح التعديلات التي أدخلت على مشروع "الإتحاد المتوسطي" في أعقاب التحفظات التي أبداها الشركاء الأوروبيون عليه، إلا أنه لم يرد على الأسئلة التي طرحتها عليه.
معارضة جماعية
وفي رأي دبلوماسي ألماني، أن ما شجَّع برلين على إبداء معارضة قوية للمشروع، أنها كانت تتحدث باسم كثير من البلدان الشمالية والشرقية. فغالبية بلدان أوروبا غير المطِلة على المتوسط انتقدت المشروع بدرجات متفاوتة، واتهمت فرنسا بالتخطيط لتحويل وجهة الإعتمادات المخصصة لبلدان الضفة الجنوبية للمتوسط الإثني عشر، في إطار مسار برشلونة من أجل ضخ الدماء في شرايين اتحاد"ها" المتوسطي.
وفي هذا السياق، قال ستيفان غليفان، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الروماني، إن على شركائنا الفرنسيين إعطاء إيضاحات دقيقة عن مضمون الإتحاد المتوسطي، فنحن ندعم انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي ولا ينبغي أن يكون هذا المشروع بديلا من الإنضمام، وأكد غليفان في تصريح قصير أدلى به لسويس انفو خلال زيارة أدّاها أخيرا إلى تونس، أن الرومانيين "مؤيِّدون تماما لمشروع الإتحاد المتوسطي، على رغم أننا لسنا على ضفاف المتوسط". ويلتقي هذا الموقف للبرلماني غليفان مع الموقف المماثل الذي دافع عنه وزير الخارجية الروماني أدريان ميهال شورويانو خلال لقاءاته مع مسؤولين تونسيين الشهر الماضي.
ويضع كلام غليفان الإصبع على بيت القصيد في مشروع الإتحاد المتوسطي. فبالرجوع إلى التصريح الأول الذي أدلى به ساركوزي في مدينة تولون لدى انطلاق الحملة الإنتخابية في فرنسا وأعلن فيه عن فكرة الإتحاد، نلحظ أنه ألقى عبارة بدت غامضة، لكنها حبلى بالدلالات، أكَّد فيها أن "هذا الإتحاد يمكن أن يشكل حلا بديلا للبلدان التي ليس لها مكان في الإتحاد الأوروبي، مثل تركيا"، غير أن الأتراك الذين أبدوا امتعاضهم من الموقف الفرنسي، معتبرين إياه نوعا من الفيتو على انضمامهم للإتحاد الأوروبي، لم يبقوا مكتوفي الأيدي وأجروا اتصالات مع حكومات أوروبية، بينها لندنوبرلين وبوخارست وصوفيا، بالإضافة للرئاسة السلوفينية، لحشد الإعتراضات على مشروع ساركوزي، طِبقا لما أفاد المصدر الألماني.
أما إسرائيل، فاستخدمت نفوذها لكبح اندفاع الزعامة الفرنسية، خوفا من أن يؤدي الإتحاد المتوسطي إلى "تذويب" علاقاتها الثنائية المميزة مع البلدان الأوروبية في إطار فضفاض، ما دامت أحد المعنيين بمشروع ساركوزي، غير أن باريس أعطتها تطمينات واضحة بأن المشروع لن ينتقص من المكانة "الخاصة" التي تتمتع بها لدى بلدان الإتحاد الأوروبي.
حتى روما ومدريد تحرّكتا في الكواليس للعمل على جعل الإتحاد المتوسطي (الذي أعلنتا دعمهما له)، مشروعا أوروبيا جماعيا، وليس فرنسيا، وأبدت المفوضية الأوروبية انتقادات لاختيار يوم 13 يوليو المقبل منطلقا للقمة الأورو متوسطية في باريس، والتي ستقتصر في يومها الأول على البلدان المشاطئة للمتوسط، فيما يُفسح المجال في اليوم الثاني (الذي يصادف العيد الوطني لفرنسا)، لمشاركة البلدان الأخرى الأعضاء في الإتحاد الأوروبي في أعمالها.
وكررت بنيتا فريرو فالدنر (نمساوية)، مفوضة العلاقات الخارجية وسياسة الجوار في الإتحاد، تلك الإنتقادات بلغة ناعمة، حين أكدت في ختام زيارتها للجزائر في الرابع من شهر مارس الجاري أن نجاح الإتحاد المتوسطي "متوقف على موافقة جميع الدول المعنية عليه"، وهو ما يعني ضمنيا معارضة لتفرد فرنسا بالمشروع.
ثلاث نقاط
مصدر فرنسي عزا هذه المناكفات والخلافات بين فرنسا وشركائها الأوروبيين إلى التباين بين رؤيتين لحصاد المسار الأوروبي المتوسطي، الذي انطلق منذ سنة 1992 وتلقى دفعة قوية بعد تأسيسه في مؤتمر برشلونة سنة 1995.
ففيما هاجم ساركوزي هذا المسار، منذ أن كان يخوض حملته الرئاسية، وكرّر انتقاداته أخيرا في حديثه لصحيفة "لوفيغارو" وإن بأسلوب لبق، عبَّرت ألمانيا في أكثر من مناسبة، وآخرها لقاء القمة الألماني – الفرنسي في هانوفر، عن رضاها على نتائجه.
واعتمادا على هذا التباعد، تمحور الخلاف بين باريس وبرلين في شأن مشروع الإتحاد المتوسطي حول ثلاث مسائل جوهرية، أولها، هل يكون هذا الإتحاد في إطار برشلونة أم سيشكل مسارا مستقلا عنه؟ وثانيها، شروط العضوية التي لا ينبغي، حسب الألمان، أن تستند على عنصر الجغرافيا وحده، مما يتيح لألمانيا نفسها وحلفائها في شمال أوروبا وشرقها أن ينضموا إلى الإتحاد. أما نقطة الخلاف الثالثة، فتخص المؤسسات المتوسطية، إذ تعترض برلين على إنشاء أجهزة شبيهة بأجهزة الإتحاد الأوروبي، مخافة أن تثقلها الأعباء البيروقراطية عن القيام بوظائفها، ولذلك، استغنى الفرنسيون مُكرَهين عن التصور الطموح الذي صاغوه للإتحاد في البداية، والذي عرضه ساركوزي شخصيا على العواصم الجنوبية التي زارها، وخاصة الرباط والجزائر وتونس وطرابلس والقاهرة.
وعثر جان بيار جويي، وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية على تخريجة لغوية، لتبرير تراجع باريس عن الصيغة الأصلية للإتحاد، فقال يوم 26 فبراير الماضي في بروكسل، إن الإنتقال من تسمية "الإتحاد المتوسطي" إلى "الإتحاد من أجل المتوسط"، ليس خدعة ولا موقفا محايدا، وإنما يعكس قناعتنا بكوننا لن نستطيع أن نفعل أفضل مما تم فعله في إطار مسار برشلونة أو يوروميد"، وطمأن الشركاء الأوروبيين إلى أن أي استخدام للأموال الإتحادية، لا يمكن أن يتِم خارج إطار الضوابط المرعية في الإتحاد الأوروبي.
في نهاية المطاف، بدا المشهد اليوم مستقرا على صيغة وفاقية تحظى بموافقة معظم العواصم الأوروبية، وتقضي هذه الصيغة بتأييد قيام اتحاد متوسطي يكون مقتبسا من نمط مجلس دول البلطيق، الذي أنشئ في سنة 1992 والذي يضم دولا غير أعضاء في الإتحاد الأوروبي، مثل روسيا والنرويج وإيسلندا. وقد أتاح هذا المجلس تطوير التعاون الإقليمي بين أعضائه في مجالات محدّدة، بإشراف سكرتارية قليلة العدد ومُتخففة من التضخم البيروقراطي، وكانت بلدان أعضاء في الإتحاد الأوروبي، مثل ألمانيا، انضمت إليه في وقت سابق بصفة مراقب.
أما الإتحاد المتوسطي، فسيشتمل طِبقا للتصور الفرنسي المُعدل، على عدد محدود من المؤسسات لا يتجاوز تسعا، هي عبارة عن وكالات للتعاون في قطاعات رئيسية، وسيُدار من قِبل رئاسة دورية، تقتصر على اثنين من البلدان المطلة على المتوسط، أحدهما من الضفة الشمالية والثاني من الجنوبية، إلا أن هذا الإقتراح سيسبب تعقيدات إضافية، حسب المحللين، بالنظر للعلاقات السيئة بين المغرب والجزائر، والعلاقات المتدهورة بين سوريا وفرنسا، مما يجعل احتمال التوافق على دولة جنوبية، كي تحظى بمقعد المشارك في الرئاسة، أمرا بعيد المنال، حتى بالنسبة لمصر، التي ستلقى منافسة من ليبيا والجزائر والمغرب.