إذا كان التراجع الملحوظ والمستمر في حرية الصحافة بمعظم الدول العربية منذ مطلع القرن الميلادي الحالي لم يعد بالأمر الجديد، فإن كمال العبيدي الصحفي التونسي البارز وممثل اللجنة الدولية لحماية الصحفيين بالشرق الأوسط يرصد "أساليب ملتوية" جديدة بدأت تلجأ إليها السلطات العربية في الفترة الأخيرة للتنكيل بالصحفيين دون التورط بشكل مباشر أو ظاهر في ذلك. وفي مقابلة خاصة مع "إسلام أون لاين.نت"، يسلط العبيدي الضوء على هذه الأساليب مشيرا إلى أنها دفعت الحقوقيين المعنيين بحرية الصحافة لتغيير تكتيكاتهم في رصد انتهاكات حرية الصحافة لإثبات تورط السلطات فيها. ويشير العبيدي، الذي يشغل أيضا منصب مستشار الشبكة الدولية لتبادل المعلومات حول حرية التعبير، إلى أن هذه "الأساليب الملتوية" منتشرة بنحو عشر دول عربية في مقدمتها مصر والمغرب. وفي ما يلي نص المقابلة: * كيف ترصد ملامح علاقة الصحافة العربية بالحكومات؟ - تشهد أوضاع حريات الصحافة العربية تراجعًا ملحوظا بسبب الهجمات الحكومية عليها. وقد رصدنا تغيرا واضحا في أساليب الحكومات العربية بصورة خاصة، حيث بدت ملامح أساليب ملتوية لإسكات الصحفيين والصحف بدلا من الاعتداء المباشر عليهم أو جرهم لمحاكمات مباشرة بسبب ممارساتهم الإعلامية. وقد رصدنا هذا التغير في حوالي عشر دول، على رأسها مصر والمغرب، حيث بدأت هذه الدول العشر تلجأ لأطراف أهلية أو أجنبية لتباشر رفع دعاوى قضائية ضد صحفيين مستندين لاتهامات مطاطة أو على الأقل لا علاقة لها بالدور السياسي الإعلامي الذي يمارسه الصحفيون. وهذا ما يستتبعه إصدار أحكام بالسجن على صحفيين أو إثقال كاهل صحفهم بغرامات مالية باهظة. * هل هناك أمثلة واضحة على هذه الممارسات الجديدة بخلاف النموذج المصري؟
"تراجع ملحوظ للحريات الصحفية بالعالم العربي" - النموذج المصري مشهور وشهد تعاطفا وتعاضدا من الصحفيين بسبب ادعاء بعض المحامين على رؤساء تحرير عديدين بنشر تقارير تكدر السلم العام وتضر بالمصلحة العامة. لكن هناك أيضا مثال المغرب، فخلال العام الماضي تحركت الحكومة لإغلاق عدة صحف عبر إثقال كاهلها بغرامات باهظة، ومنها صحيفة "Le Journal Hebdomadaire" التي استقال مالكها أبو بكر الجامعي ولجأ للخارج خشية مصادرة أمواله وممتلكاته، وكان سبب الحكم بالغرامة دعوى قضائية رفعها بلجيكي على صلة وثيقة بالحكومة، ويترأس مركز أبحاث، ادعى فيها أن الصحيفة شككت في تقرير كتبه عن مشكلة الصحراء، وصدر الحكم ضد الجامعي. وهناك كذلك صحيفة "نيشان" التي حكم على صاحبها بالسجن، وتم إغلاقها وتوجيه اتهامات لكل من مديرها إدريس كسيكس، والصحفية سناء العاجي لنشرهم مقالا اعتبرته السلطات مسيئا للإسلام. اتضح بعد هاتين الحادثتين أن القضاء المغربي غير مستقل. وهناك أيضا اعتقال المدون فؤاد الفرحان بالمملكة العربية السعودية وهو أحد أشهر المدونين السعوديين، ومعروف بكتاباته المطالبة بالإصلاح السلمي والعدالة المساواة، والأمثلة كثيرة. * أظنني اطلعت على الموضوع محل التهمة بالمغرب والذي دار حول نكت المغربيين في موضوعات الدين والجنس والسياسة، وهذا مقال مهني. لكن هل من خلفية سياسية لهذا الاتهام، وهل هناك محاولة لتوظيف الدين للتخلص من الصحفيين والتأثير على القضاء؟ - هذا واضح بسبب الخط الليبرالي والرافض للفساد الذي كانت تتسم به كتابات إدريس كسيكس. والأهم من هذا أن رئيس الحكومة المغربية الحالي عباس الفاسي كان قد صرح لصحيفة "المساء" المغربية بأن القضاء غير مستقل، وناشد القضاة بتحكيم ضمائرهم. * كانت المواجهة قديمًا بين الصحافة والحكومات واضحة ومباشرة. فكيف تتابعون أساليب المواجهة الجديدة؟ - كنا قديما نرصد أطراف المواجهة القضائية من جهة، أو نرصد عملية الاختفاء القسري للصحفيين من جهة أخرى. الآن تواجه الدول العربية ضغوطا من بعض الحكومات الغربية حيال سجلاتها الحقوقية، وتريد الدول العربية إيهام المجتمع الدولي بنواياها وجهودها حيال تحسين أوضاع الحريات، لكنها تلجأ لهذه الأساليب التي ذكرناها سلفا. هذا يقتضي منا تغيير تكتيكاتنا، وبذل جهد أكبر في تحقيقاتنا الميدانية، فبما أن العلاقة التي تربط الحكومات بأنماط المحاصرة الجديدة للحريات صارت غير واضحة؛ صار علينا التحرك لإلقاء مزيد من الضوء على علاقة الحكومات بالأطراف التي ترفع الدعاوى القضائية، وهو ما فعلناه حيال الاتهامات الموجهة لرؤساء التحرير المصريين، وكذا رؤساء التحرير المغاربة، وأثبتنا وثاقة العلاقة التي تربط بين المتصدرين لرفع تلك الدعاوى وبين الحكومات التي أوكلت إليهم –سرًّا-هذه المهام. غير أني لا أريد أن يفهم البعض من هذا أن الأساليب القديمة اختفت، بل لا يزال هناك محاكمات مباشرة، ولا يزال هناك اختفاء قسري للصحفيين والمدونين. لكن التكتيكات الحكومية الجديدة أصبحت تخفى طبيعتها. فهناك مثال المحامي التونسي محمد عبو الذي كتب ينتقد زيارة شارون لتونس (في إطار المؤتمر الدولي للمعلوماتية) قبل عامين، وتم اعتقاله بعد 24 ساعة من كتابة مقال بتهم شخصية لا علاقة لها بالمقال. * هل هناك تغير في المناخ المساند لكم بعد أحداث 11 سبتمبر؟ وكيف تتعاملون مع هذا المناخ؟ - لا شك في أن تصدر مفهوم الإرهاب ومكافحته يأتي على رأس قائمة أولويات الأممالمتحدة وقد قلص من مساحات وهوامش مناوراتنا لتوفير الدعم العالمي لمواجهة الانتهاكات التي تباشرها الحكومات ضد الصحفيين، كما أن مناورات الحكومات العربية ومقايضاتها مع بعض الحكومات الغربية تحبط بعض جهودنا. لكن هناك سياسيون بارزون وبرلمانيون في كل أنحاء العالم وكذا منظمات غير حكومية معنيون بشأن الحريات كقيمة في ذاتها بعيدا عن لغة المصالح؛ ومهتمون لأجلها، وهم يضغطون لتحسين هذه الأوضاع متى تم توثيق معلومات قمع الحريات أمامهم، ونحن نبذل جهدا كبيرا في توثيق الوقائع وتدقيقها وعرضها أمام المجتمع العالمي ليساندنا من يحترم قيمة الحرية وبخاصة حرية الصحافة. * كنا قد تحدثنا عن مقايضات حكومية وواقع دولي يعوق جهودكم، فهل لجأتم لبديل مدني عربي يعوض التعويق؟ - الواضح أن الواقع المدني العربي، وبخاصة الإعلامي، يشهد تكاتفا قويا حيال الهجمة على حرية الصحافة. وتضامن الصحفيين المغاربة والبحرينيين الذي سمعنا عنه مؤخرا مع الصحفيين المصريين هو دليل على ذلك. ويضاف إلى ذلك تكاتف المنظمات الحقوقية غير الحكومية العربية والعالمية، فتضافر هذه الجهود معا ينتج بعض الأثر. ونحن لا نقف عند تلك الحدود، بل نكثف جهودنا ونباشر مهام دبلوماسية، ونتواصل مع الحكومات والسفراء والمنظمات الدولية، وهذا ينتج أثرا أيضا. ففي تونس مثلا، كان لتضامن الجماعات الصحافية المدنية والحقوقية الإقليمية والدولية دوره في الإفراج عن الصحفي محمد الجبالي رئيس تحرير صحيفة "الفجر" الإسلامية بالرغم من أن عقوبة سجنه كانت 15 عاما. * أظن أننا نحتاج لوقفة حيال حديثك عن مفهوم الإرهاب ونحن نتحدث عن الصحافة وحريتها. فهل هناك علاقة ما أدت لربطك بين الموضوعين؟ - الحقيقة نعم، فبعض الصحفيين توجه إليهم تهمة الإرهاب. فالصحفي التونسي زهير اليحياوي تم اعتقاله قبل وفاته، ووضع في فترة إقامته الأولى بجناح الإرهاب في السجن قبل أن يتم نقله بعد فترة ليست بالقليلة لجناح آخر. وهناك أيضا الصحفي اليمني عبد الكريم الخواني الذي اعتقل أثناء مواجهات الحكومات اليمنية مع أحد الخارجين عليها، حسين الحوثي، وكان سبب اعتقاله ورود معلومات قوية ودقيقة في تقاريره الإعلامية رجحت معها السلطات وصوله لقيادات بحركة التمرد هذه والحصول على معلومات منها، وهو ما أسفر عن اعتقاله بتهمة الإرهاب، بينما كان يباشر دوره كإعلامي، وهو مختلف في توجهاته الفكرية مع الجماعة المناهضة لحكم الرئيس علي عبد الله صالح. * كنا نتحدث عن حريات الصحافة وتحدثت عن المدونين. وهو ما يدفعنا للسؤال عن تكييفكم لهم باعتبارهم صحفيين؟ - المدونون يباشرون عملا إعلاميا. ونشاطهم يدخل ضمن دائرة اهتمامنا بحرية التعبير. وهذا اعتبار مزدوج يجعلنا نربط بينهم وبين الصحافة برباط وثيق. * لاحظنا من خلال التدفق الإعلامي وجود اهتمام أمني عربي عام بالمدونين. فكيف ترى هذا الانتباه؟ - أنا أؤيدك في سؤالك. فاعتقالات المدونين لم تأخذ طابعا تدريجيا، بل بدت كظاهرة، وأنا أرجح أن هذا الارتباط صنيعة التنسيق الأمني العربي على مستوى وزراء الداخلية، والذي ترعاه تونس وتستضيفه في شهر يناير سنويا. فالتنسيق الأمني لفت انتباه الدول جميعًا حيال الدور الإعلامي الذي يلعبه المدونون، وتزامن الاعتقالات لا تفسير منطقيا له إلا بالتنسيق الأمني. -------------------------------------------------------------------------------- وسام فؤاد :باحث بوحدة البحوث والتطوير بشبكة إسلام أون لاين.نت