(1) يتبرج النحات فرحا... يقبل تمثاله الأول ثملا ...ويصيح ...هاهو الآن "جلحامش" ينتقي الأحلام فينشر الحراك في هذه المدن البائسة ...أراه الآن طيفا يقفز أسوار "أور" التي أطردته ويقطع دروب "بابل" التي شردته و يغوص عميقا في حلمهم البغدادي الجميل ...يصعد الجبال الحجازية ويتمرغ في السهول الدمشقية يوما وبحرا وفجرا ...يشوش نومهم الفظيع ...أراه الآن أملا لا يبيد ...يحرس أسوار "عكا" ...ويعصر عنب "الخليل" كي يستوي الحلم واقفا ليعود ...."جلجامش" يكبر فيهم الآن ويتمرد ...سوف يخرج للشوارع ...سيمشي في الأسواق يحرض الناس ويشدهم إلى يوم عظيم ... (2) كان مرسم النحات كالمدينة الخاوية ...باردا كجنازة بلا ندابات ....وكان الفراغ يردد أصداء صراخه المستحيل ... كان النحات يمسك بطين الحرفة ...يتفصد جبينه عرقا ....كانت رائحة المرسم مقرفة ...اختلطت رائحة العرق والتبغ والطين من حمإ مسنون ...لم ينطق "جلجامش "...امسك النحات فم "جلجامش" المنحوت وصاح كالمفجوع " ...انطق ...رتل قرآنك أيها المستعار" ....حينها تحركت شفتا "جلجامش" كأبطال الحكايات في صور الأطفال المرسومة .."خرجت يا نحات ...فأتيت أهل "صور" ...ثم صعدت كثيب "أرشليم" وعانقت "اللاذقية" وفتحت صدري للحجاز ثم اتسعت عيوني إلى "قرطاجة" الجميلة فكنت أبصر من زرقاء اليمامة والتحمت حلمي وقوست قوامي فجعلته هلالا خصيبا على يمينه زرقة المحيط وعلى يساره خضرة الخليج وصحت بأعلى صوتي يا تمر "العراق" تساقط حول "مريم" كي تلد ...وتوسلت يا زيت الفنيقيين ألهب قناديل السفينة ...وهتفت للدمشقية كي تبدأ الرقص وأذنت في "أبي الهول" حتى يطير ...ولكن السماء اشتدت علي وتهاوت الجبال على راسي ...وردت علي أصواتي كسيرة ذليلة وغير "النيل" مجراه أما "الفرات" فقد طلق "دجلة" للأبد وظل "مجردة" كسيرا لا يعرف المسار ....ماء هذي المدائن ملح أجاج وأرضها واد غير ذي زرع ....يا نحات (3) حين أنهى "جلجامش" كلامه كان النحات قد افرغ كأسه الأخيرة وغابت عيونه خلف الأسى ...فجعل يخصف على فم "جلجامش" طينا اسود يغلقه للأبد .