سادت الأوساط الشعبية المتابعة للشأن الثقافي و السياسي بجرجيس موجة من الإستياء العميق و الغضب إثر عرض شريط "زرزيس" للمخرج محمد الزرن الذي صور شخصية اليهودي (شمعون) كشخصية محورية يلتقي حولها الجميع في المدينة . وشمعون كما صوره الزرن شخصية طيبة يداوي ويساعد الجميع الإنسان والحيوان ويفتح صدره لشكاوي مواطني جرجيس وثرثرة بعضهم ويقوم بدور الخاطبة "الحنانة" لذلك تفقد المدينة العتيقة بجرجيس رونقها يوم السبت بغيابه عنها . حول شمعون التاجر اليهودي وفي دكانه القديم يلتقي سكان جرجيس :معلم "طلائعي" ورسام حالم ووسيطة زواج" الحنانة" وأناس آخرون بسطاء يبحثون لأحلامهم أو أوهامهم عن مكان في عالم الواقع .دكان شمعون هو المكان المفضل لهؤلاء ليلتقوا كما انه المكان الوحيد الذي يوفر البلسم والدواء لرواده الباحثين عن الدواء لجراحات حياتهم المادية والمعنوية .. بطيبته ومعرفته وصبره يعالج شمعون تعاسة المهمشين المأزومين ويشفي الحيوان المريض و يعقد الوساطات الاجتماعية بين الباحثين عن الزواج ويحتضن الفن وأصحابه ويوزع الأدوية المجانية على المحتاجين ولا ندري هل ترك الزرن للمشاهد إمكانية للوقوف الحيادي بين طيبة و حكمة هذا التاجر وسلبية وتواكل ومرض باقي الشخصيات. وعندما يختار الزرن لشريطه عنوان" زرزيس" فهو يوهم كل المشاهدين بان ما صوره هو جرجيس وان شخصياته الواقعية المختارة هي نماذج واقعية من مواطني هذه المدينة في انه يعرف أكثر من كل مشاهديه أن ما قدمه عن المدينة هو إسقاط إيديولوجي وسياسي لا علاقة له بالواقع الاجتماعي للمدينة غايته الأساسية هي الاستجابة لمبدإ التسويق السينمائي وإرضاء للمتحكمين في سوق الإنتاج والتمويل وتوزيع الجوائز في المهرجانات كما انه تعبير عن رؤيته الخاصة ورؤية من شاطره العمل تجاه المدينة التي هي ليست مدينته أو مزرعته الخاصة . من حق محمد الزرن أن يعبر عما يريد وينقل ما يريد عن نظرته للمدينة وحياة أبنائها ومواقفهم من المجتمع والحياة ولكن ليس من حقه على الإطلاق أن يضع ذلك تحت اسم "زرزيس" أو جرجيس لأنه بذلك يتصرف في ملك وارث كل أبناء المدينة وأجيالها المتعاقبة ويعطي للجميع الحق في رفض ما ذهب اليه والغضب من سلوك شخصياته التي هي في واقع الأمر مجرد أفراد يعدون على أصابع اليدين اختاروا أن يكونوا كما هم ولكنهم لا يعبرون مطلقا عن شخصية سكان المدينة ونظرتهم للحياة ولبعضهم البعض. وبالرجوع إلى الشريط وهو وثائقي يدوم ساعتين شاركت في إنتاجه عديد الجهات منها على سبيل الذكر لا الحصر المنظمة العالمية للفرنكوفونية ووزارة الثقافة وغيرها. وحضر حفل عرضه الأول في أحد النزل الفاخرة بالجهة والي الجهة وممثل عن الاتحاد العام التونسي للشغل وهو السيد محمد شندول وعدد من الصحفيين التونسيين و الأجانب. ولا ندري سبب هذا الأهتمام الرسمي و غير الرسمي بهذا الشريط دون غيره سيما وأنه وجد من الدعاية ما لم يجده غيره .وباتفاق أغلب من تابعوا الشريط فإن التركيز لم يكن على جرجيس كمدينة حافلة بالموروث الثقافي و الإجتماعي وغيره بقدر ما هو إبراز لفكرة ان اليهود يمثلون جزءا من حياة المدينة بل هم الجزء المضيئ الذي يتوفر على قدر عال من الحكمة والطيبة والرحمة والتقدير للمحيط الاجتماعي والديني للمدينة وفي المقابل تقبع باقي الشخصيات في أزماتها وتركن إلى التاجر شمعون لتستعين به على مواجهة مشاكلها ولا يخفي المخرج في ما ذهب إليه من اختيارات تهكما ونقدا لاذعا لجمهور المسلمين الذين ساوى بينهم وبين جمهور الملاعب بل وجعلهم يصلون الجماعة على وقع ضجيج الملعب و صورهم لا يقفون احتراما لصوت المؤذن كما فعل التاجر اليهودي في إشارة إلى أن اليهود يحترمون ديننا أكثر منا وهو موقف يستحق فعلا غضب سكان المدينة من شريط يحمل اسم مدينتهم. خلاصة القول إن المخرج محمد الزرن اختار لنفسه وشريطه موضوعا لسنا نناقشه في مضامينه الآن ولكن نريد التأكيد على أن الزج باسم المدينة كعنوان للشريط "زرزيس" يمثل اعتداء على جميع السكان وعلى تاريخ المدينة وثقافة أهلها ومعتقداتهم ونحن نتساءل عن دور أجهزة الرقابة على المصنفات الفنية و نعجب لهذا الاحتفال الرسمي بالشريط وندعو لمراجعة عامة للسياسة الثقافية بحيث نضع حدا لاستباحة مجتمعنا وحضارته وقيمه باسم الفن والثقافة التي نريدها حماية وتأصيلا للكيان الوطني ويريدها التجار والسماسرة والوكلاء وسيلة للربح تحقق أغراضهم الخاصة وتستجيب لسياسات الممولين الأجانب . أخيرا نقول لمحمد الزرن أن جرجيس ومن ورائها تونس و الحضارة العربية الإسلامية كانت وستظل مدينة للتعايش وليست في حاجة لهذا الفلم حتى تقنع به من لا يبحث عن التعايش من الجمهور الغربي المستهدف وإذا قدر لهذا الفلم أن ينجح عالميا فتأكد أن سر نجاحه لن يكون دعوته للتعايش بين العرب واليهود لان هذا الأمر يعرفه الأعداء قبل الأصدقاء ولكن سر النجاح الحقيقي هو انه يقدم للعالم الآخر صورة من إخراج عربي تقدم مجتمعنا باعتباره يعيش أزمة فيقتل الفن والفلسفة والثقافة والطموح الشبابي في حين تنجده العبقرية اليهودية بطيبتها وحكمتها ولعلهم يقترحون بناء على إبداعك بعث نصب تذكاري لشمعون حداد. صحيفة "الوطن" العدد 131 الصادر في 2 أفريل 2010 المصدر بريد الفجرنيوز