قد لا يبالغ المرء عندما يشير إلى أن الأعوام القليلة الماضية، تمثل سنوات تركيا بامتياز.. فمنذ صعود حزب «العدالة والتنمية» إلى الحكم، بدت خطوات «تعريب» تركيا أسرع حتى من جهود «أوربتها» وإلحاقها بالقارة العجوز.. أدركت الحكومة التركية بقيادة رئيس وزرائها، رجب طيب أردوغان، أن مستقبل تركيا ليس فقط مع أوروبا، وأن الجغرافيا السياسية الدولية أوسع بكثير من المساحة الأوروبية وتضاريسها المتشعبة، خصوصا بعد أن أيقنت أنقرة أن الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، ليس شاغلا أساسيا لدى الأتراك، في ضوء ما عكسته استطلاعات الرأي في تركيا، التي كشفت أن أحفاد العثمانيين ليسو متعجلين، لا بل ليسو راغبين في أي علاقة تبعية بأوروبا، التي تجاوزت شروطها، استحقاقات العضوية ذاتها.. مضت الحكومة في نهجها الجديد، بخطوات نشيطة لكنها محسوبة وذكية.. لم تتعجل الارتماء في أحضان عالم عربي شديد الهشاشة والتعقيد في آن معا، خصوصا في ظل وجود إرث ضعيف خلفته الحكومات التركية السابقة، بصدد العلاقات مع العرب، حيث اختزلت في التعاون الاقتصادي والسياسي، لكنه كان تعاونا فوقيا لم يحقق أي اختراق في وعي النخب والشعوب العربية، لذلك بادرت حكومة العدالة والتنمية باتخاذ إجراءات وخطوات متسارعة ومكثفة، كانت تقدم بواسطتها رسائل دقيقة ومدروسة، مضمونها الأساسي أن تركيا اليوم، لا يمكن أن تكون منفصلة عن العالم العربي بثقافته وتراكماته الحضارية وامتداداته الجغرافية، وذلك بعيدا عن أي استهلاك إعلامي أو توظيف سياسي من النوع الذي تعودت عليه الشعوب والنخب العربية.. خطوات ذكية ومحسوبة كان ثمة حاجة تركية للعالم العربي، وكان ثمة شعورا تركيا بأن هذا الفضاء الجغرا سياسي الهام من الخريطة العالمية، لا يمكن أن يبقى مجال استقطابات أجنبية تتكالب عليه الأجندات المختلفة، من دون أن يكون لتركيا موطئ قدم راسخة فيه.. ولا شك أنه خلال السنوات الماضية، قدمت حكومة أردوغان عناوين متعددة لهذه السياسة التركية الجديدة، وكان الموقف الشجاع من حرب «الرصاص المصبوب» التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، ونقد رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان الشديد للرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريز في قمة دافوس الاقتصادية قبل أن يقاطع تلك الجلسة المشهودة، بالإضافة إلى تحركات الرجل التي استقرت مؤخرا في القمة العربية المنعقدة في مدينة سرت الليبية، وهي تحركات ما انفكت تنتصر للقضايا العربية أكثر من العرب ذاتهم، كل ذلك اختصر تلك المسافات والحواجز الموروثة بين تركيا والعالم العربي، منذ وفاة «الرجل المريض» قبل عدة عقود.. ويبدو أن الأتراك أدركوا بعد هذه الجهود والخطوات المضنية، أن السياسة وحدها لا تكفي لإيجاد جسور متينة فيما بين الشعوب بخاصة، ولا بد من «عكاز» ثقافي تستند عليه لترسيخ جهدها السياسي.. وهو ما ترجمه قرار إنشاء قناة «تركية» التي انطلقت في بثها باللغة العربية منذ يوم الأحد، في خطوة يراد منها أن تقدم تركيا ثقافتها التي تسببت سنوات التحديث للأسف في إخراجها من الدائرة العربية، وجعلها قريبة لأوروبا في قشرتها، لكن روحها عثمانية (عربية) صميمة.. تتويج لمسار قناة «تركية» جاءت حينئذ إثر إنشاء قنوات أخرى ناطقة باللغة العربية، مثل قناة «روسيا اليوم» الروسية، وقناة «العالم» الإيرانية، و»بي بي سي» البريطانية، و»فرانس 24» الفرنسية،و«الحرة» الأمريكية لكنها تأتي أيضا في ظرفية جيو سياسية شديدة الدقة، برزت خلالها تركيا كلاعب محوري في المنطقة، في قضايا كان يعتقد أنها «حكرا» على بعض العواصم العربية، بل برزت تركيا في ثوب الطرف الأكثر قدرة على تشكيل مواقف وفاقية في قلب السياسة العربية التي تتقاذفها التحالفات والأجندات والحسابات السياسوية، لا بل إن الغرب رأى في أنقرة الوسيط الأكثر حيادية ونزاهة في قضايا شائكة، على غرار العلاقات السورية الإسرائيلية، ومسار القضية الفلسطينية، وجاءت هذه القناة أخيرا بعد أن أضحت تركيا محل اهتمام عربي واسع من قبل نخبها ومفكريها وجامعييها خلال السنوات القليلة الماضية، بما يجعلها حصيلة حراك ثقافي وسياسي مكثف، وليست قرارا فوقيا لمجرد تسجيل حضور على المستوى «الفضائي» والإعلامي.. كان الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، دعا قبل فترة غير بعيدة، إلى تشكيل «كومنولث عثماني» ذو منحى اقتصادي، يشمل تركيا والجزائر وبعض الدول المغاربية والشرق أوسطية، لتوظيف الثقل التركي والإمكانات الاقتصادية الهائلة التي تختزنها الدولة التركية، والتي جعلتها أحد أبرز الاقتصاديات ونماذج التنمية الاجتماعية في المنطقة.. تساؤلات رئيسية لكن إنشاء هذه القناة، يطرح تساؤلات كثيرة مهمة : هل هي مجرد خطوة باتجاه العالم العربي، لتأكيد أن هذا الجزء من المعمورة، يمثل بحق العمق الطبيعي لتركيا؟ هل تريد أن تجعل منها بوقا إعلاميا ينافس بقية الفضائيات الناطقة بالعربية، وبالتالي مجرد رقم يضاف إلى آلات الروموت كونترول ؟ هل هي بداية وعي تركي بقيمة العامل الثقافي في العلاقات السياسية، أم هي نتيجة لذلك ؟ هل أن القناة ستبدأ «ثقافية» ثم تنتهي سياسية فجّة وخشبية مثل العديد من القنوات الإخبارية والثقافية وغيرها..؟ كيف يمكن للسياسي أن يكون في خلفية المادة الثقافية لهذه القناة ؟ كيف يمكن أن تستثمر تركيا (عبر القناة الجديدة) لحظة الاكتشاف التي تجري حاليا بين العرب والأتراك بشكل غير مسبوق ؟ هل نحن أمام عودة «العثمانيون الجدد»، وهو المصطلح الذي طالما رفضه أردوغان ولم يأبه به حتى لا يستفز الغرب الخائف من أي «ثأر» ل «الرجل المريض»، في وقت كثر فيه «الرجال المرضى» في العالم؟ لكن السؤال الأهم في تقديرنا هو : كيف ستتعامل إسرائيل مع هذا الوليد البكر؟ لا ريب في أن تل أبيب منزعجة ومربكة ومتوجسة من أي مشروع تفوح منه رائحة عربية، فما بالك إذا كانت تركيا تقف وراءه.. وذلك مصدر صداع قد لا تشفى منه إسرائيل إلا بعد وقت طويل.. الصباح صالح عطية