صلاح عبد العزيز الفجرنيوز ثناء دراستي بمدرسة شهداء يناير عام 1975 ميلادي ، و بالتحديد يوم 30 - ديسمبر .سمعنا بأن طلبة جامعة قاريونس خرجوا في مظاهرات منددين بأساليب القمع و التعسف الذي كان يمارسها فريق من الطلبة الثوريين .. و في أحد الأيام من ذلك العام فوجئنا بدخول ثلاثة من طلبة الجامعة إلى فصلنا و الذي كان في الجناح الأيمن في الدور الأرضي من مدرسة شهداء يناير .. قال لنا أحدهم صارخاً : أخرجوا و انصروا إخوتكم في الجامعة !! حرام عليكم أنتم هنا قاعديين تقروا وهما برا في المظاهرات .. و هنا أخذتنا الحمية و خرجنا تاركين الأستاذ لوحده .. سرنا في شارع جمال عبد الناصر في إتجاه الميناء البحري .. و أخذت الجموع تردد بصوت عالي : لا إله إلا الله .. و امعمر عدو الله ...و تعالت أصواتنا و ازدادت الحشود .. و فجأة تقابلنا سيارات عسكرية بقيادة الرائد ( سليمان محمود ) آمر الحرس الجمهوري .و بدأ ينزل منها الجنود للقبض على كل متظاهر.. بدأت جموع الطلبة في التفرق يمنة و يسرى .. وجدت نفسي أتجه ناحية البحر و منها إلى مدرسة شهداء يناير من جديد .. ألقت قوات الجيش القبض على الكثير من الطلبة المتظاهرين ..
و في السادس من يناير - سنة 1976 ميلادي .. كنت أسير في شارع عمرو بن العاص .. و شد سمعي طلقات رصاص متتابعة في ميدان الشجرة .. كانت قوات الشرطة تطلق الرصاص في الهواء في بداية الأمر .. ثم جاءتها الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين .. و كنت واقفاً أمام مقهى دمشق .. و بدأ الرصاص يصل نحونا من ميدان الشجرة .. و إذا بالطالب " سليم البدري " يصاب برصاصة في ساقه و يهوي على الأرض ..ازدادت طلقات الرصاص حدة و كثافة و سقط الكثير من الطلبة متأثرين بجراحهم .. هنا اضطر بعض الطلبة للاستعانة ببعض الصيادين و الذين كانوا يستخدمون مادة متفجرة ( الجولاطينة ) لغرض الصيد .. استعان بها بعض الطلبة و توجهوا إلى مقر الإتحاد الاشتراكي ( الكنيسية ) و تفجيره .
بعد سنة من هذه الأحداث الدامية المحزنة .. و في يوم السابع من إبريل - 77 - ميلادي .تناهت إلى أسماعنا أنباء مفادها أن ميدان الإتحاد الإشتراكي يشهد أحداثاً مروعة .. و قد نصبت المشانق فعلاً و نفذ حكم الإعدام في حق من كانوا وراء أحداث الطلبة عام 1976 ميلادي. .. توجهت في المساء إلى المكان .. و يا ليتني ما رأيت شاهدت.. إثنين من الضحايا توشحوا بالسواد و قد تبدت أقدامهم الصفراء تتدلى !! كانت اليوم ( قِبلي ) و السماء مليئة بالعجاج .. ولم أر بنغازي في حياتي مكفهرة سماؤها مثل ذلك اليوم .. و كأن سحابة من الكآبة قد شملتها .. فهي اليوم كظيمة. علمنا فيما بعد أن الشهيدين هما : محمد بن سعود و عمر دبوب رحمة الله عليهما.
كان والدي يعمل ( كهربائياً ) في الآلة الرافعة " البيقة " بميناء بنغازي البحري .. و قد روى لنا أن الأوامر جاءت بأن يتجمع العمال داخل المرسى .. و جيء بالمطرب الليبي ( عمر المخزومي الورفلي ) الذي غنى للثورة و موظف آخر مصري .. و قد نصبت لهما المشانق .. و قد تم تنفيذ حكم الإعدام في الضحيتين أمام الحضور.
كان لهذه الأحداث المروعة الأثر البالغ في نفوس الناس و خاصة الطلبة منهم.. كنت أمني نفسي أن أكون طياراً عسكرياً حربياً علني أدافع عن وظني .. أو أن يكون لي شرف الجهاد في فلسطين أمنا السليبة .. و لكن صرفني هذا المنظر الذي انطبع في ذاكرتي - منظر الطلبة و هم معلقون على المشانق - صرفني و صرف الكثير من الطلبة عن البقاء و الدراسة في الوطن .. و كان السفر و الدراسة في الخارج و الهروب من الواقع الأليم هو غاية الجميع.
كنت في الصف الثالث الثانوي .. و جاء التوجيه الإجباري بعد نتائج الثانوية العامة لأجد اسمي ضمن قائمة السلاح الجوي " الطيران الحربي " و لكن و إن كانت تلك رغبتي .. إلا أنني رفضت بقوة أن أنصاع لهذا الأمر بعد الذي رأيناه من صلف النظام و بطشه بالطلبة.
أخبرني الأخ ( عبد الواحد محمد الزايدي ) أن شركة الخطوط الجوية العربية الليبية نشرت إعلاناً لقبول طيارين مدنيين .. فقلت : الحمد لله .. هذه رغبتي قد تحققت .. طيران مدني أكون فيه حراً طليقاً .. أفضل من الطيران الحربي أكون فيه حبيس الأوامر العسكرية. و ما حرب تشاد عليكم ببعيد !!
وفقني الله في امتحان القبول و المقابلة الشخصية .. بقت معضلة قائمة "التوجيه العسكري ".. و خشيت أن أمنع من السفر .. اتصلت بزميلي الأخ ( سامي سعد بن عمران ) ابن المرحوم بإذن الله تعالى العقيد ( سعد بن عمران ) مسئول الأمن في بنغازي .. قال لي : الوالد يطلبك في مقر الأمن بجانب محكمة بنغازي .. بعد الاستقبال و الحفاوة .. و مجاملة سالم الشيخي معاونه آنذاك .. أعطاني رقم هاتفه المباشر و رقم هاتف آخر في طرابلس و قال لي : إن منعك أحد في مطار طرابلس ..إتصل بي على الفور و لن يكون إلا خيراً.
و الحمد لله تعالى .. سافرت إلى بريطانيا يوم 3-1- 1978 ميلادي .. و قد ذكر لي أحد الطيارين في كلية الطيران العسكرية بمصراتة إن اسمي كان ضمن القائمة المتغيبة عن الانضمام للسلاح الجوي . و ظل الأمر كذلك حتى نهاية تخرجهم من الكلية العسكرية . و كفى الله المؤمنين شر القتال.