احتدم الجدل في الساحة الفلسطينية مؤخراً حول ملف العملاء في أعقاب تنفيذ حكم الإعدام بغزة في شخصين أدينا بالتخابر مع إسرائيل، كما يحتدم الجدل، وإن بوتيرة أقل، في لبنان في ظل النجاح المثير للانطباع لكل من الأجهزة الأمنية والمقاومة اللبنانية في تفكيك الكثير من شبكات التجسس الإسرائيلية. وتدل التحقيقات التي تجرى في لبنان والأراضي الفلسطينية بشكل لا يقبل التأول على اتساع ظاهرة العمالة لصالح إسرائيل وتكشف عن استثمار الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية جهوداً هائلة في سعيها لتجنيد أكبر عدد من العملاء ومحاولة غرسهم في المؤسسات الرسمية الهامة وحركات المقاومة. وبشأن هذا الملف هناك عدة أسئلة يجب أن تطرح: ما هو سر السهولة المثيرة للاستفزاز التي تتمكن بها الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية من تجنيد العملاء في العالم العربي في صفوفها؟... وما جملة الأدوار التي يقوم بها هؤلاء العملاء؟...وما سبل مواجهة هذه الخطر؟. العملاء في العقيدة الأمنية الإسرائيلية يقول إسرائيل حسون، نائب رئيس المخابرات الداخلية الإسرائيلية ( الشاباك ) سابقاً أن محصلة عمل الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية في أي ساحة عربية ستكون صفر لولا المساعدة الحاسمة التي يقدمها العملاء في هذه الساحة. ويتضح من مراجعة الأدبيات الأمنية الإسرائيلية أن المعلومات الاستخبارية التي يقدمها العملاء تعتبر جزءً أساسياً من العقيدة الأمنية الإسرائيلية، للأسباب التالية: أولاً: الحصول على المعلومة الاستخبارية الدقيقة يوفر الجهد ويقلص حجم الإمكانيات التي يجندها الجيش الإسرائيلي في سعيه لضرب أهداف محددة في العالم العربي. ثانياً: تساعد المعلومات الاستخبارية إسرائيل دوماً في توجيه الضربات القاصمة في بداية حروبها التي شنتها ضد العرب، مما يؤدي إلى تقليص أمد الحرب ويساعد إسرائيل على استئناف أنماط الحياة الطبيعية فيها، وفي نفس الوقت يؤدي ذلك – وفق المنطق الإسرائيلي - إلى المس بمعنويات دوائر صنع القرار والجماهير العربية ويقلص من رغبة الأنظمة العربية وحركات المقاومة في مواصلة القتال. ثالثاً: أسهمت المعلومات الاستخبارية في تمكين إسرائيل من الاحتفاظ بجيش نظامي صغير نسبياً، بحيث يتم استدعاء قوات الاحتياط في حالات الضرورة. رابعاً: يعتبر أرباب الفكر الاستخباري الإسرائيلي أن المعلومات الاستخبارية التي مصدرها العنصر البشري ممثل في العملاء أكثر دقة وأوسع استخداماً من المعلومات التي يمكن الحصول عليها بتوظيف التقنيات المتقدمة في عمليات التنصت والتصوير، ويسخر الإسرائيلييون من مغالاة الأمريكيين في الاعتماد على المعلومات الاستخبارية التي يمكن الحصول عليها بواسطة التقنيات المتقدمة، ويعزون فشل الجهد العسكري الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان إلى ذلك.
مهام متعدد دلت التحقيقات التي أجريت في غزة ولبنان على أن الاستخبارات الإسرائيلية لا توظف العملاء فقط في الحصول على المعلومات فقط، بل أن هؤلاء يقومون بمهام متعددة، منها: 1- اختراق مؤسسات الدول العربية وتوظيفها لصالح إسرائيل، كما دل على ذلك اعتراف ضباط كبار في الأمن اللبناني مؤخراً، منهم من يحمل رتبة عميد، بالتخابر مع إسرائيل، ومحاولة اختراق الدوائر الضيقة لقادة المقاومة، ومحاولة تجنيد أفراد عوائلهم للتعرف على مخططات المقاومة وضربها في مهدها. 2- المشاركة المباشرة في المجهود الحربي الإسرائيلي، حيث أن بعض العملاء اعترف بالمسؤولية المباشرة عن تصفية قادة حركات المقاومة والمقاومين، علاوة على اعتراف بعضهم بالمشاركة في عمليات الاجتياح التي قام بها الجيش الإسرائيلي واقتحام منازل المقاومين في قطاع غزة، في حين اعترف الكثير منهم في الإسهام في تهيئة الظروف لعمليات الاقتحام من خلال إبطال مفعول العبوات الناسفة التي يزرعها المقاومون في طريق الجيش الإسرائيلي المتوغل. 3- ضرب الروح المعنوية لحركات المقاومة وارباك عملها، فالكشف عن العملاء في جسم حركات المقاومة يعرض صفوفها للبلبة ويزيد من الشك ويقلص الثقة بين عناصرها، ويدفعها لإجراءات أمنية تحط من فاعليتها. في نفس الوقت فإنه يسهم في ضرب الروح المعنوية للجمهور لأنه يكشف عن حجم الاختراقات وخطورتها، مما يقلص ثقة الجمهور بالمقاومة. 4- مد إسرائيل معلومات عن اتجاهات المجتمعات العربية من القضايا المطروحة على الصعيد الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، حيث أن التعرف على هذه الإتجاهات يعتبر متطلباً أساسياً قبل بلورة السياسات الإسرائيلية تجاه العرب. 5- يلعب العملاء دوراً أساسياً في الحرب النفسية التي توجهها إسرائيل ضد الجماهير من خلال بث الإشاعات الموجهة. 6- دلت التحقيقات التي أجرتها حركات المقاومة والأجهزة الأمنية الفلسطينية أن العملاء لعبوا دوراً هاماً في تسريب الكثير من الأراضي والعقارات الفلسطينية لليهود في الضفة الغربية والقدس بناءً على تعليمات من المخابرات الإسرائيلية، حيث يقوم هؤلاء بشراء الأراضي والعقارات بوصفهم فلسطينيين، وبعد ذلك يبيعونها لليهود.
تطوير وسائل الإسقاط أن كل من يطلع على اعترافات العملاء الذين تم إلقاء القبض عليهم في قطاع غزة خلال الأعوام الخمسة الماضي يصل إلى استنتاج مفاده أن المخابرات الإسرائيلية قد طورت إلى حد كبير من وسائل إسقاط العملاء، بما ينسجم مع الواقع الجديد في قطاع غزة، الذي لم يعد فيه من الممكن حدوث احتكاك مباشر بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي إثر تطبيق خطة " فك الارتباط ". وتدل التحقيقات على أن المخابرات الإسرائيلية قد وسعت من توظيف الإنترنت والشبكات الاجتماعية مثل " الفيس بوك " و" التويتر "، وغيرها في تجنيد العملاء، حيث يتم توظيف المعلومات التي يقدمها المتصفحون الفلسطينيون عن أنفسهم وعن أصدقائهم في محاولة تجنيدهم عبر الاتصال بهم وتضليلهم. ومن نافلة القول أن المخابرات الإسرائيلية تحاول أيضاً استغلال ظروف الحصار وتدهور الأوضاع الاقتصادية والصحية للفلسطينيين عبر مساومتهم للسقوط في براثن العمالة. ويعتبر معبر " أيرز " المكان الذي تتم فيه أقذر محاولات الإسقاط، حيث أن المرضى الذين يتجهون إلى إسرائيل لإجراء عمليات جراحية يخيرون بين الموافقة على التخابر مع إسرائيل أو العودة من حيث أتوا. ولم يتورع هؤلاء الوحوش من مساومة برفسور فلسطيني يبلغ من العمر 70 عاماً على العمالة عندما اتجه إلى أيرز لإجراء عملية جراحية، حيث كان يعاني مرحلة متقدمة من سرطان البروستاتا، فرفض، فأعيد، حيث مات بعد أيام.
توظيف الانقسام وتقوم فلسفة تجنيد العملاء لدى الإسرائيليين على توظيف الظروف السياسية بشكل كبير، ويتضح ذلك من محاولة " الشاباك " توظيف مشاعر الانتقام الناجمة عن حالة الانقسام الفلسطيني الداخلي في تجنيد العملاء. وقد عكف ضباط " الشاباك " على الاتصال بعدد من الفلسطينيين الذين يفترض أنهم تضرروا من سيطرة حماس على قطاع غزة ويعرضون عليهم التعاون مع إسرائيل من أجل " القضاء على حكم حماس "، مع أن جميع الحالات المعروفة لكاتب هذه السطور رفضت محاولات ضباط " الشاباك ". ومن الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أن تطوير عمليات الإسقاط يخضع لعملية بحث منهجي داخل الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، حيث أن كلاً من " الشاباك " و" الموساد " وشعبة الاستخبارات العسكرية المعروفة ب " أمان " تملك مراكز أبحاث، من وظائفها تطوير وسائل الإسقاط.
أوراق إسرائيل الرابحة ترجع قدرة إسرائيل المثيرة للاستفزاز على تجنيد العدد الكبير من العرب لصالح استخباراتها لعدد من الأسباب، بعضها يرتبط بعوائد الفعل العسكري الإسرائيلي، والبعض الآخر ناجم عن البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الإشكالية في العالم العربي. ومن الأسباب التي تساعد إسرائيل على تجنيد العملاء: 1-احتلال إسرائيل المباشر للأراضي العربية: فالاحتلال يمكن إسرائيل من التحكم بمفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية فتسهل عمليات الابتزاز والمساومة، فيغدو تقديم طلب للحصول على تصريح عمل أو زيارة أو علاج مناسبة لمساومة على العمالة، وهذا يحدث على نطاق واسع في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان يحدث في جنوب لبنان حتى العام 2000. 2-أنظمة الحكم القمعية في العالم العربي: يجمع كل من شفتاي شفيط رئيس " الموساد " الأسبق، ورافي إيتان الذي تولى قيادة فرع تجنيد العملاء في " الموساد " سابقاً، وغيرهما الكثير من قادة الأجهزة الإسرائيلية السابقين على أن وجود الأنظمة الديكتاتورية أسهم إلى حد كبير في توفير الظروف المناسبة لتسهيل مهمة تجنيد العملاء، حيث أن الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي تقتل عنصر الانتماء في نفوس الكثير من المواطنين العرب، مما يشكل بيئة مناسبة لعمل الموساد، كما يؤكد إيتان. من هنا فإن " إسهامات " أنظمة الاستبداد في العالم العربي لا تقف عند حد، ولا تستقر في قاع. 3-المستوى التعليمي: على الرغم من تمكن إسرائيل من تجنيد عملاء من كل المستويات التعليمية، إلا أنه من خلال دراسة ملفات العملاء في الساحة الفلسطينية يتضح أن هناك علاقة عكسية بين مستوى التعليم والأهلية للسقوط في براثن العمالة. وحسب الأدبيات الأمنية الإسرائيلية فإنه لا يتم تقدير أهمية العميل وإسهامه من خلال مستواه التعليمي، فقد ذكر أحد المسؤولين عن تجنيد العملاء في " الشاباك " أنه تبين أن بعض العملاء غير المتعلمين يمكن أن يؤدي خدمة استخبارية كبيرة. وتحرياً للدقة قد يكون هذا الأمر خاص بالساحة الفلسطينية، فالجهد الاستخباري الإسرائيلي في المناطق العربية الأخرى يفترض أنه يتطلب وجود عملاء نوعيين، ليتمكنوا من التعاطي مع التقنيات المتقدمة التي يتطلب من كل عميل التعامل معها.
4-ضعف الوازع الديني والأخلاقي: يذكر آفي ديختر الرئيس الأسبق في جهاز المخابرات الداخلية " الشاباك " أنه في مطلع السبعينات من القرن الماضي كان مسؤولاً عن " الشاباك " في شمال قطاع غزة، وقد استدعى شاباً فلسطينياً من " بيت حانون " لمساومته على التخابر مع إسرائيل، وبعد أن أبدى الشاب موافقته، فإذا بصوت أذان الظهر يصدع في المكان، فإذا بالشاب يثور ويتراجع، وبعد ذلك تبين لديختر أنه انضم لإحدى حركات المقاومة. ويقول يعكوف بيري وهو أيضاً رئيس سابق ل " الشاباك " أن الوازع الديني لدى الشباب الفلسطيني يعتبر أحد العقبات الكأداء التي تحول دون تجنيد العملاء من بين صفوف المتدينين، وإن نجحت هذه المحاولات فهي تحتاج إلى وقت طويل وجهد مضني، علاوة على أن النتائج تكون في بعض الأحيان مشكوك فيها.
سبل العلاج قدرة قوى الاحتلال على اختراق المجتمعات المحتلة والمقهورة تعتبر مسلمة تاريخية، ففي المواجهات بين الأمم، سيكون هناك من يكون مستعداً لبيع نفسه ومصالح شعبه لعدوه، وعليه فإن تمكن إسرائيل من تجنيد العملاء العرب ليس أمراً شاذاً، سيما أن الصهاينة يوظفون في جهدهم الاستخباري عوائد تفوقهم في الحروب مع العرب. لكن ما لا يمكن التسليم به هو عدم التحرك الجدي لمواجهة الاستخبارات الإسرائيلية والعمل على تقليص قدرتها على اختراق المجتمعات العربية على هذا النحو المهين. ومن الواضح أن معالجة هذا الخطر يجب أن تبدأ من محاولة سحب الأوراق الرابحة من يد إسرائيل. فمن الواضح أنه من الأهمية بمكان تغيير البيئة السياسية في العالم العربي والتخلص من واقع الاستبداد وتحسين مخرجات العملية التعليمية وربط الشباب العربي بالمنظومات القيمية والأخلاقية المستندة لدين الأمة وإرثها الثقافي والحضاري. بالطبع إلى جانب المعالجة القانونية والقضائية المتمثلة في محاسبة العملاء. لكن رغم كل ما تقوم به إسرائيل من جهود في المجال الاستخباري، إلا أن تاريخ الصراع يدلل على أن هذه الجهود لم تنجح في قهر الإرادة العربية في المواجهة وثني حركات المقاومة عن مواصلة مسيرة التحرير. المصدر:بريد الفجرنيوز