يتعرض الإسلام, بما هو عقيدة وإيمان بقدر ما هو ثقافة وتراث وحياة, لتحديات محدقة. ولا أقصد بالإسلام هنا النصوص المقدسة من قرآن كريم وحديث شريف ولا ما يحمله الإسلام من قيم وتعاليم سامية، بل أقصد الإسلام كما هو رائج عملياً في المؤسسة السائدة. فالإسلام يجابه أسئلة وجودية لم يعد من الممكن تجاهلها. ما هو موقع الإسلام من عالم اليوم؟ ما هي مسؤولياته تجاه الحضارة المعاصرة، وكيف له أن ينخرط فيها اندماجاً واختراقاً ؟ لا شك أن الإجابات التي سيقدمها الإسلام بكل ما قد تحويه من تباينات جوهرية مع الماضي وبكل الاختلافات التي ستكتنفها، ستكون موضع اهتمام كبير لكل من لا يزال يراوده هاجس القيم والحياة الكريمة للإنسان. والأحرى أن هذه الإجابات تهم بشكل مباشر وكبير كل من ينتمي الى الثقافة التي أنتجتها الحضارة العربية الإسلامية. تلك الحضارة وذلك الدور العظيم الذي احتله الإسلام لبضعة قرون يجب أن لا يغلق عقلنا عن إدراك أن الإسلام يعاني من مصاعب كبيرة في عالم اليوم. ولا تنفع في ذلك الأحاديث عن دور الحضارات صعوداً وهبوطاً. ولا الحديث عن الافتراق الكبير بين ما يحويه النص من حرية وعدالة وقيم إنسانية، وبين التجربة كما أفرزتها مختلف المجتمعات التي عاش الإسلام فيها. فالتحدي خطير وكبير بما لا يتيح تأجيل الإجابة. والتجربة بشكلها الملموس هي التي ستحكم على مصير الأفكار مهما سمت. بل لعل التجربة ذاتها لا تكون ذات أهمية بقدر ما هو مهم مآلها وخاتمتها. خطورة هذه الهجمات ناجمة أساساً عن عدوانية وشراسة الأدوات الفكرية والمادية التي تمتلكها الحضارة الغربية والتي قدمت للبشرية إنجازات عظمى وابتلتها في الوقت نفسه بمعضلات ومظالم جمة. وهذا شأن كل حضارة صاعدة. وإذ تبدو تلك المعضلات التي تجابه الحضارة الغربية مجرد أزمات نمو، تولد تناقضات إيجابية تصعد معها وتعزز هويتها، فإنها حين تقتحم العالم غير الغربي، والعالم الإسلامي بشكل خاص، تغدو أخطر واعتى لتهدد بدورة مدمرة من التمزق والانكفاء التاريخي. فثقافة الماضي في العالم الإسلامي لا تزال حية بالرغم من أن قاعدتها الحضارية قد تداعت. ويجد العالم الإسلامي نفسه أمام أزمات مضاعفة ناجمة من جهة عن التنمية العاصفة ومن جهة أخرى عن أن بعض الجوانب السائدة في ثقافته الأصلية والكثيفة والتي ترسم شخصية وأفكار الفرد والجماعة تنتمي إلى حضارة انتهى عصرها. وتلك ليست مشكلة العالم الإسلامي وحده، لكنها في هذا العالم بالذات تتخذ طابع الاستعصاء والتناحر والأزمة. إن كل رأي يقول بإمكان تحقيق أي تقدم حضاري مع إدارة الظهر للسيماء الثقافية الوطنية والقومية والإسلامية في هذا الجزء من العالم هو محض هراء خاطئ عدمي ومستحيل. لكن التجربة تظهر أيضاً أن المجتمع المتمدن ينظر إلى علاقته بالحياة وبالدين بشكل متحضر أكثر رقياً وإنسانية، فلا يمكن مقارنة موقع الإسلام في المجتمع الأفغاني بموقعه في المجتمع الماليزي على سبيل المثال. إن لب التحدي الدائم الذي ينتصب أمام الإسلام فكراً وممارسة يكمن في التناقض بين الأساس المطلق للحقائق والقيم المتسامية التي يؤمن بها من جهة، وبين كون المؤمنين كبشر موجودون في الحياة العملية حيث تصبح كل الأفكار والحقائق والثقافات نسبية تماماً وعرضة للنمو والتناقض، بل حتى عرضة للخطأ الفادح أيضاً. وتنشأ الطامة الكبرى حين يحاول المؤمن أن يضفي قداسة الدين على تصوراته هو عن الدين. فهذه التصورات هي زمانية ومكانية محدودة ونسبية وقابلة للخطأ. المصيبة أن يعتقد شخص أو مجموعة محدودة أن ما توصلوا إليه إنما هو عين الدين! فيكون هذا الاعتقاد أساساً لحملات التكفير والصراع والدمار ليكون المصاب الأول فيها هو الإنسان ذاته الذي تجري تلك الحملات باسم خلاصه. ليس للإنسان إلا العقل يستنبط منه حقائق كتاب الوجود والطبيعة. وليس للمؤمن إلا العقل أيضاً ليسبر فيه أغوار الوحي والدين. وتكمن المشكلة في أن أغلب المؤسسات الدارجة، بدل أن تعود إلى مصادر القيم فكراً وإيماناً بعيون جديدة، تقوم بفرض تصورها الناقص للواقع بأي ثمن، الأمر الذي أفضى ويفضي على المدى القريب و البعيد إلى كوارث، ناهيك أنه لن يصمد على المدى البعيد! تتباين نظرة الإنسان المعاصر إلى العالم والطبيعة والحياة تبايناً عميقاً مع نظرة إنسان الأمس. وكلنا يعرف معاناة العلماء والمفكرين في الغرب من محاولات الكنيسة إضفاء القدسية على فهمها لحقائق الحياة والطبيعة. فالجميع يؤمن على نحو ما بضرورة اللجوء الى العقل والعلم لاستكشاف أسرار الكون والتوصل إلى نظريات تحظى بالثقة النسبية الكافية، وتلبي بشكل كاف حاجات معينة أو تجيب على أسئلة محددة. لا بد إذاً من العقل من أجل التوصل إلى أية حقيقة بشرية وأية حقيقة هي بالتالي نسبية قابلة للنمو دوماً! ونحن لو لاحظنا تباين وتعارض التصورات عن الإسلام منذ فجره بين أهل العرفان والفلاسفة وأهل الحديث والظاهرية لوجدنا ما يؤكد أن ما توصلوا إليه ليس الحقيقة بعينها. إن أكبر خدمة يقدمها المؤمنون والمتنورون للإسلام هو التمييز بشجاعة بين إيمانهم بالدين كشأن مقدس متسام، وبين تصوراتهم عنه كتصورات نسبية ومحدودة ويدركها التغيير والتبدل. الأمر الذي يفترض أن ينفتح العقل بشكل إيجابي على تحولات ضرورية في الفكر الديني الرائج. لعل ذلك يخفف من الغلواء ويفتح الفكر لكل إبداع ولتجارب الآخرين من أصحاب القيم. عندئذ يصبح فهمنا لعالم اليوم أكثر حيوية وفعالية. وعندها فحسب نقدر أن نبدأ بالبحث عن إجابات عن الأسئلة والتحديات الكبرى التي تجابه الإسلام المعاصر. إن خلود القيم ينبع من كونها غير مقصورة على فهم زماني محدود مؤقت، فالتصور الحي عن علاقة الإنسان بالحياة وبالدين لا يمكن اجتراحه إلا من خلال الاندماج في معترك الحياة والعصر وهذا غير ممكن من غير معرفة دقيقة غير سلفية بأهم حوادث العصر وموقعها من الإنسان المعاصر. لكن الحضارة الغربية، ذلك الحدث الهائل العظيم في تاريخ البشر المدون، لا تزال غير مقبولة في عالم الإسلام. فمن النادر أن نجد شعباً غير عربي لم تلهب ظهره سياط الظلم السياسي والاقتصادي الذي مارسه الغرب سواء في ظل الاستعمار أو ما بعده. لكن الغرب السياسي والاقتصادي ليس إلا وجهاً من وجوه الغرب. فالغرب بالنتيجة حضارة ذات ثقافة قامت على مبادئ فكرية وقيمية خاصة، ومن دون التعرف اليها والإحاطة بها تبقى معرفتنا بالحضارة المعاصرة ناقصة وظاهرية ومضللة. لا بد لنا من النظر إلى الغرب نظرة محايدة لا تشوبها العواطف لنتعرف عليه ونقف على أبعاده، قيماً وحضارة ومنهجاً وتجربة وإنجازات ومظالم. عندها فقط نستطيع أن نحدق بعمق في قيم حضارتنا وبما يمكن أن تضيفه الى قيم الحضارة الغربية.