القيروان: الأستاذ الذي تعرّض للاعتداء من طرف تلميذه لم يصب بأضرار والأخير في الايقاف    المعهد الثانوي بدوز: الاتحاد الجهوي للشغل بقبلي يطلق صيحة فزع    قيس سعيد يعين مديرتين جديدتين لمعهد باستور وديوان المياه المعدنية    هيئة تنظيم الزيارة السنوية لمعبد الغريبة: الطقوس الدينية ستكون داخل المعبد فقط    رئيس الجمهورية يشرف على افتتاح معرض الكتاب    النظر في الإجراءات العاجلة والفورية لتأمين جسر بنزرت محور جلسة بوزارة النقل    ارتفاع حصيلة شهداء قطاع غزة إلى أكثر من 34 ألفا    النادي البنزرتي وقوافل قفصة يتأهلان إلى الدور الثمن النهائي لكاس تونس    حالة الطقس خلال نهاية الأسبوع    الوضع الصحي للفنان ''الهادي بن عمر'' محل متابعة من القنصلية العامة لتونس بمرسليا    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    حامة الجريد: سرقة قطع أثرية من موقع يرجع إلى الفترة الرومانية    انتخاب عماد الدربالي رئيسا للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    عاجل/ كشف هوية الرجل الذي هدّد بتفجير القنصلية الايرانية في باريس    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    الترجي الرياضي: يجب التصدي للمندسين والمخربين في مواجهة صن داونز    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 5 آخرين في حادث مرور    مضاعفا سيولته مرتين: البنك العربي لتونس يطور ناتجه البنكي الى 357 مليون دينار    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    عاجل/ انتخاب عماد الدربالي رئيسا لمجلس الجهات والأقاليم    عاجل/ مفتّش عنه يختطف طفلة من أمام روضة بهذه الجهة    انزلاق حافلة سياحية في برج السدرية: التفاصيل    القصرين: تلميذ يطعن زميليْه في حافلة للنقل المدرسي    نقابة الثانوي: وزيرة التربية تعهدت بإنتداب الأساتذة النواب.    وزارة التربية تقرر إرجاع المبالغ المقتطعة من أجور أساتذة على خلفية هذا الاحتجاج ّ    كأس تونس لكرة السلة: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ربع النهائي    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    عاجل/ بعد تأكيد اسرائيل استهدافها أصفهان: هكذا ردت لايران..    عاجل: زلزال يضرب تركيا    كميّات الأمطار المسجلة بعدد من مناطق البلاد    توزر: ضبط مروج مخدرات من ذوي السوابق العدلية    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    بطولة برشلونة للتنس: اليوناني تسيتسيباس يتأهل للدور ربع النهائي    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    تفاصيل القبض على 3 إرهابيين خطيرين بجبال القصرين    وزارة الفلاحة: رغم تسجيل عجز مائي.. وضعية السدود أفضل من العام الفارط    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الجمعة 19 افريل 2024    المنستير: ضبط شخص عمد إلى زراعة '' الماريخوانا '' للاتجار فيها    القيروان: هذا ما جاء في إعترافات التلميذ الذي حاول طعن أستاذه    تجهيز كلية العلوم بهذه المعدات بدعم من البنك الألماني للتنمية    الاحتلال يعتقل الأكاديمية نادرة شلهوب من القدس    طيران الإمارات تعلق إنجاز إجراءات السفر للرحلات عبر دبي..    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    جوهر لعذار يؤكدّ : النادي الصفاقسي يستأنف قرار الرابطة بخصوص الويكلو    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    سيدي بوزيد.. تتويج اعدادية المزونة في الملتقى الجهوي للمسرح    محمود قصيعة لإدارة مباراة الكأس بين النادي الصفاقسي ومستقبل المرسى    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    "سينما تدور": اطلاق أول تجربة للسينما المتجولة في تونس    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد أركون.. والإسلام والحداثة :إما أن تكون حديثاً في كل الجوانب أو لا تكون
نشر في الفجر نيوز يوم 06 - 04 - 2008

هدف أركون يكمن في تجديد الفكر العربي الإسلامي لكي يتصالح مع الحداثة
إذا عرفنا كيف نتفاعل مع الحداثة ونضع تراثنا الديني العريق علي محكها فسينتج عن ذلك الخير العميم
مارتن لوثر حرر الإنسان المسيحي من هيمنة الإكليروس المسيحي عليه
فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر تجرأت علي ما لم يتجرأ عليه ديكارت
أركون يعرف الحداثة بأنها الانتفاضة الفكرية الدائمة والثورة المعرفية علي ما هو قائم وممل وسائد
بينما يدعو عاهل السعودية إلي الحوار بين أديان التوحيد الثلاثة فإن مثقفين سعوديين يتعرضان لمحكمة تفتيش لدعوتهما للحوار بين الأديان؟!
علي المستوي السياسي تعني الحداثة الانتقال من سلطة الحق الإلهي المطلق للملوك إلي سلطة روحانية علمانية
المخترعات والاكتشافات الجديدة التي ولدت بعد الحداثة في الغرب لم تؤد حتي الآن إلي التصفيات النهائية لفرضيات الفكر الإغريقي السامي
يمكن القول بشكل من الاشكال ان كل ابحاث اركون تندرج داخل هذا العنوان الطويل العريض: الاسلام والحداثة. وأتذكر ان احد دروسه في السوربون كان مخصصا لهذا الغرض ولعام كامل.
وقد افتتحه بدراسة كتاب، مقاربات الحداثة، للمفكر الفرنسي جان ماري دوميناك. ومعلوم انه ينتمي الي تيار الشخصانية المسيحية. وهو تيار يحول المصالحة بين المسيحية والعقل والحداثة. وفيه يدرس كيفية صعود الحداثة في الغرب بدءا من القرن السادس عشر وما هي التحديات التي طرحتها علي الدين المسيحي وكيف أجبرته علي تجديد نفسه لكيلا ينقطع كليا عن حركة العلم والعصر. و ضمن هذا المعني يمكن القول ايضا بان كل هدف اركون يكمن في تجديد الفكر العربي الإسلامي راديكاليا لكي يستطيع ان يتصالح مع الحداثة هو الآخر بدوره. ولكن هذا لا يعني التسليم بكل ما جاءت به الحداثة. فقد لحقتها شوائب كثيرة وتطرفات وانحرافات. ولذا تنبغي غربلتها وتمحيصها لفرز الصالح عن الطالح منها. بمعني آخر نأخذ الايجابيات ونطرح السلبيات والنواقص. وبالتالي فالرجل يقوم بنقد التراث ونقد الحداثة في آن معا.
ولكنه يعترف بالطبع بان الحداثة الاوروبية تشكل حدثا خطيرا وهاما جدا في تاريخ البشرية. ولا يمكن بالتالي لأي تراث بشري آخر ان يتجاهلها كائنا ما كان سواء أكان التراث العربي الإسلامي او التراث الصيني او الهندي الخ..هذا لا يعني بالطبع انه ينبغي ان يتخلي عن كل قيمه لكي يتبناها حرفيا وبحذافيرها، فهذا ليس هو منظور اركون. وانما يعني انه مضطر للتفاعل معها بشكل أو بآخر من اجل تجديد نفسه والخروج من قوقعته وانغلاقه التاريخي الطويل. والتراث العربي الإسلامي سوف يستفيد كثيرا من هذه المجابهة الخصبة والممتعة وربما المرهقة ايضا مع الحداثة الاوروبية التي اصبحت بحجم العالم بفضل نجاحاتها التكنولوجية الصارخة. وكذلك بفضل الثورات الانكليزية والامريكية والفرنسية التي فصلت اللاهوت عن السياسة وأتاحت ظهور النظام العلماني الحديث ومفهوم حقوق الانسان والمواطن المتحرر كليا من المرجعية الطائفية او المذهبية. هذا بالاضافة الي الثورات الفلسفية والاصلاحية الدينية. وبالتالي فالحداثة كل واحد لا ينفصم. واذا ما عرفنا كيف نتفاعل معها ونضع تراثنا الديني العريق علي محكها فسوف ينتج عن ذلك الخير العميم. وربما استفادت الحداثة ايضا من هذه العملية وأصبحت اكثر روحانية وانسانية وأقل مادية والحادا. وبالتالي فالعملية مفيدة لكلا الطرفين والحداثة يمكن ان توضع ايضا علي محك الاسلام وبقية الاديان الكبري بشكل عام بعد ان تطرفت في الاتجاه المعاكس.
ولكن اذا ما عدنا الي بداياتها الاولي وجدنا ان الاصلاح الديني في القرن السادس عشر تزامن مع الحركة النهضوية والانسانية التي أعادت اكتشاف العصور اليونانية الرومانية القديمة وأدارت ظهرها لعقلية القرون الوسطي التي كانت تحتقر هذه العصور وآدابها وفلسفاتها باعتبار انها وثنية. وفي ذات الوقت أعلن مارتن لوثر زعيم الاصلاح الديني في اوروبا الخروج علي الفاتيكان وعلي استبدادية الكنيسة الكاثوليكية وقال بان لكل شخص الحق في قراءة الكتاب المقدس بدون المرور من خلال سلطة رجال الدين. وحرر بذلك الانسان المسيحي من هيمنة الاكليروس المسيحي عليه. وسمح له بالتفحص الحر للنصوص المقدسة وإقامة علاقة مباشرة مع ربه. وبعد القرن السادس عشر جاء القرن السابع عشر أي عصر ديكارت والفلسفة الديكارتية والهيمنة المطلقة للعقلانية الكلاسيكية علي الاقل فيما يخص العلوم الطبيعية والدنيوية عموما. ثم جاءت بعدئذ فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر والتي تجرأت علي ما لم يتجرأ عليه ديكارت: أي نقد الدين والعقائد القديمة بشكل جذري راديكالي. ولكن اركون يعترف بان الحركة كانت قد ابتدأت منذ أواخر القرن السابع عشر مع سبينوزا. فهو أول من مارس النقد التاريخي الفلسفي علي النصوص المقدسة وفتح بذلك الطريق أمام امكانية الخروج من السجن العقائدي المغلق لليهود والمسيحيين. ثم بعد ذلك جاء القرن التاسع عشر حيث انتصرت الفلسفة الوضعية واعتقدت بان العلم سوف يقضي علي الدين نهائيا بعد ان يحل جميع مشاكل الانسان. ولم تصدق نبوءتها الا جزئيا لان الدين لم ينته في أوروبا وان كان قد تحول في مفهومه وتغير بعد ان حقق العلم انجازات ضخمة للبشرية وأقنعها بانه قادر علي تحسين وضعها وحل معظم مشاكلها.وعلي هذا النحو فقد رجال الدين في اوروبا هيمنتهم علي العقول وانصرف الناس عنهم واصبح كلام الفيلسوف او عالم الاجتماع والنفس لاول مرة أهم من كلام الكاهن او المطران او رجل الدين بشكل عام. ثم جاء القرن العشرون بعدئذ ورسخ كل هذه الانجازات العلمية والفلسفية والسياسية للحداثة حتي وصل عام 1905 في فرنسا الي فصل الكنيسة عن الدولة وترسيخ النظام العلماني نهائيا بعد طول نضال وصراع.
هذا هو ملخص مسار الحداثة في الغرب بعد ان رويناه بسرعة صاروخية!
ويري اركون ان الحداثة ادبية وشعرية وفنية ايضا وليست فقط علمية او فلسفية او صناعية وتكنولوجية. انها كل كامل متكامل لا يتجزأ. فاما ان تكون حديثا في كل الجوانب او لا تكون. يقول اركون في احدي انطلاقاته الحماسية الرائعة وعندما يكون راضيا عن الحداثة او قل عندما يكون ينظر اليها من جهة وجهها المشرق فقط: الحداثة هي اولا فلاسفة الاسلام الكلاسيكي ومؤرخوه العقلانيون الانسانيون ذوو الايمان المتسامح الرحب: كالجاحظ والتوحيدي ومسكويه والفارابي وابن سينا وابن رشد إلخ.. هذا بالاضافة الي الأدباء والشعراء الكبار كأبي نواس وابي تمام والمتنبي والمعري وسواهم عديدين.. ثم يجئ بعدهم مباشرة مفكرو عصر النهضة الانسانيون في القرن السادس عشر. يتلوهم بعدئذ ديكارت وسبينوزا وشكسبير وجون لوك ودافيد هيوم وجان جاك روسو ومونتسكيو وغوته. يجيئ بعدهم مباشرة ماركس ونيتشه وفرويد..هذا دون ان ننسي بلزاك وبودلير ورامبو وبيكاسو الخ.
ثم يصل الامر باركون الي حد تعريف الحداثة علي النحو التالي: انها الانتفاضة الفكرية الدائمة، الثورة المعرفية علي ما هو قائم وممل وسائد. انها وثبة الروح الكاسرة لقيودها وأصفادها من اجل المعرفة الحرة. انها مشروع متواصل لا يكتمل أبدا لانه اذا ما اكتمل مات وانتهي التاريخ. بهذا المعني فان الجاحظ بأسلوبه الساخر الرائع كان يمثل الحداثة في عصره مثلما مثلها فولتير بأسلوبه اللاذع في القرن الثامن عشر او ارنست رينان في القرن التاسع عشر او أي مفكر طليعي في القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين إلخ. وهذا يعني ان الحداثة لا تنتهي الا لكي تبدأ من جديد. انها ليست صيغة نهائية ناجزة مكتملة تعطي مرة واحدة والي الأبد. هذا تصور وهمي او خاطئ عن الحداثة. وانما هو موقف معين من الوجود. وهذا الموقف يتجسد في كل عصر ببعض الشخصيات الكبري. انها المشروع الهادف باستمرار الي تحقيق المزيد من فتوحات العقل والفكر. انها العقل النقدي التجريبي المستكشف لكل شيء بدون أحكام مسبقة او قيود مفروضة عليك من فوق او من الخارج. وانها لمفخرة لاوروبا انها بلورت هذا العقل النقدي التحريري وجعلته سيد الموقف وتخلصت من الدوغمائية الاصولية المسيحية التي كانت تشل العقل شلا.
ولكن المشكلة هي اننا في العالم العربي والاسلامي عموما نسينا هذا الموقف الحر والحديث للروح والفكر. بل وقضينا عليه قضاء مبرما بعد ان سيطر علينا الموقف الاصولي الضيق والتكراري الاجتراري طيلة عصر الانحطاط. وبعد الفاصل القصير للنهضة والعصر الليبرالي العربي راح يسيطر علينا من جديد بين الخمسينيات والسبعينيات باسم الايديولوجيا القومية الماركسية، ثم بعد السبعينيات وحتي الآن باسم الايديولوجيا المتزمتة للمتطرفين الاسلاميين. والأصولية هي ألد أعداء الحداثة والحرية الفكرية. فقد استطاعت ان تحذف من ساحة الفكر العربي الاسلامي كل التساؤلات الفلسفية الجادة وكل التحليلات والمحاجات التاريخية الرصينة. كما قضت علي كل تحليل تاريخي او سوسيولوجي او نفساني او علمي للاسلام وتراثه الكبير. ورفضت قطعيا المنظور الانثربولوجي المقارن بين الاديان. فجميع الاديان الأخري كالمسيحية واليهودية باطلة في نظرها ولاتستحق اي اهتمام. أنظر المحنة التي يتعرض لها الآن مثقفان يكتبان في جريدة الرياض علي أيدي ما يمكن ان ندعوه بمحاكم التفتيش السعودية لانهما دعيا الي الحوار بين الاديان ورفضا تكفير اتباع الاديان الأخري بشكل مسبق. والغريب في الأمر ان ذلك يحدث في الوقت الذي يدعو فيه الملك عبدالله نفسه الي الحوار بين أديان التوحيد الثلاثة! وهو بذلك يقتفي أثر قطر وأميرها سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الذي كان سباقاً ورائداً في هذا المجال.
وبالتالي فلا يمكننا ان نتحدث ضمن هذه الظروف عن وجود حداثة في العالم العربي الإسلامي الابشكل نسبي. فأنوار الاسلام الكلاسيكي في دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة الفاطمية انتهت منذ زمن بعيد وأصبحت تبدو أنوارا قروسطية ملغاة من قبل الأنوار الحديثة لاوروبا في القرن الثامن عشر وما بعده. وأنوار عصر النهضة في القرن التاسع عشر سرعان ما انطفأت ايضا وأجهضت.
ماذا تعني الحداثة بالضبط؟ انها تعني انتصار العقل الفلسفي او العلمي علي العقل اللاهوتي او الديني بعد صراع طويل ومرير. او قل انها تعني تلك الجدلية الخصبة للتفاعل والصراع فيما بينهما. فليس مستحبا ضمن منظور اركون ان ينتهي العقل الديني. ولكن لا ينبغي ان يظل منغلقا علي نفسه ومنقطعا عن حركة العلم والفلسفة كما هو حاصل عندنا حاليا. هنا يكمن وجه الخطر والخطورة. ولهذا السبب يتم تكفير المثقفين في السعودية وايران ومناطق اخري بل والدعوة الي قتلهم من قبل بعض المشايخ وليس كلهم لحسن الحظ. في الواقع ان انتصار الحداثة بشكل كامل لم يحصل الا في الغرب حتي الآن. وذلك علي عكس العالم الإسلامي حيث لا يزال العقل اللاهوتي مسيطرا والعقل الفلسفي خائفا وخاضعا. والدليل علي ذلك ان أي مفكر عربي لا يتجرأ علي مواجهة أي رجل دين علي شاشة "الجزيرة" مثلا الا ويخسر المعركة سلفا، بل وحتي قبل ان تبدأ. وذلك لان موازين القوي غير متكافئة علي الاطلاق. فالهيمنة التاريخية للمتدينين لا تزال طاغية وساحقة في عالم عربي اسلامي لم يشهد أنواره بعد او قل لم تنتصر فيه الأنوار الفلسفية بعد. أما في أوروبا فقد أدي تحالف البورجوازية مع الشعب ضد النظام الكهنوتي السابق والطبقة الاقطاعية الارستقراطية الي إسقاط الاصولية المسيحية واحلال الفلسفة العقلانية محلها. قلت إسقاط الاصولية المسيحية وليس المسيحية ككل. فالتيار الليبرالي العقلاني الوسطي ظل مستمرا في الغرب ولا يزال. وعندئذ اصبح ممكنا لأي مثقف فرنسي ان يواجه حتي البابا علي شاشة التلفزيون دون أي خوف او وجل. وذلك لان المحاجات المستخدمة في المناظرة اصبحت عقلانية تماما وخالية من الاستشهادات الدينية او النصوص المقدسة التي تفرض نفسها عليك من فوق بالقوة ودون أي نقاش. هنا يكمن الفرق بين الساحة الثقافية الاوروبية والساحة الثقافية العربية الاسلامية. الاولي تؤمّن لك حرية التفكير كاملة والثانية مليئة بالمحظورات والممنوعات والفتاوي التكفيرية التي تشل العقل شللا. ولهذا السبب لا يمكن ان يحصل أي نقاش حر ومسؤول عن الدين بشكل عام والاسلام بشكل خاص علي شاشات التلفزيون والفضائيات العربية.
وحتي الفلاسفة الكبار في القرون الوسطي كانوا يشتغلون تحت سقف اللاهوت ويعتبرون ان الفلسفة خادمة له وليس العكس ربما ما عدا الفارابي. ويري اركون في أحد بحوثه ان ابن رشد في الجهة الاسلامية وابن ميمون في الجهة اليهودية وتوما الاكويني في الجهة المسيحية كانوا كلهم يعترفون بالاولوية الروحية والاخلاقية للنصوص الدينية التأسيسية، أي القرآن والحديث النبوي في الجهة الاولي، والتوراة في الجهة الثانية، والانجيل في الجهة الثالثة. ولكنهم في ذات الوقت كانوا يستخدمون الادوات المفهومية لفلسفة ارسطو ويعتبرونها أساسية من اجل التوفيق بين العقل والايمان.
وحده الفارابي يقال انه خرج كليا علي سلطة اللاهوت وأعطي الاولوية للعقل. ولكن ذلك ليس مؤكدا ويحتاج الي براهين اضافية. فأين هم مشايخنا المعاصرون من هذ الانفتاح الفكري الذي حصل قبل ثمانمائة سنة؟ ولماذا لا يقتدون بقاضي القضاة ابن رشد ويعتبرونه مرجعية لهم؟ لماذا لا ينفتحون علي التيارات الفلسفية والعلمية المعاصرة كما يفعل عالم اللاهوت الالماني والمجدد الديني الكبير هانز كونغ؟ كم كان الفكر الإسلامي سيستفيد ويغتني لو انهم فعلوا ذلك؟ أما كانوا سيثبتون للعالم أجمع ان الاسلام هو دين العقل ويصدوا عنا هجوم المتطرفين والحاقدين في الغرب؟
هناك تعريفات عديدة للحداثة كما نلاحظ وكلها تكمل بعضها بعضا. واركون يتعرض للموضوع في العديد من بحوثه وكتبه. وبالتالي فلا تناقض بينها ويجدر بنا ان نكثر من هذه التعريفات لكي تتضح لنا الظاهرة من مختلف جوانبها. فمثلا يقول في كتابه الاسلام بين الامس والغد ما معناه: ان الحداثة تعني ايضا وعلي المستوي الفيزيائي الفلكي: الانتقال من العالم المغلق الي الكون اللامحدود واللانهائي كما يقول اليكسندر كوايري أحد كبار علماء الابستمولوجيا في فرنسا. فالناس طيلة العصور الوسطي كانوا يعتقدون ان الكون مغلق بسمائه وأرضه فاذا بالعلماء المحدثين يكتشفون انه مفتوح بل وفي حالة توسع دائمة. والنظرية الحديثة عن تأسيس الكون وعمر السماء والارض والشمس والقمر وسوي ذلك تتناقض كليا مع التصورات الدينية التي هيمنت علينا حتي أمد قريب.
هذا علي المستوي العلمي المحض. أما علي المستوي السياسي فان الحداثة تعني الانتقال من سلطة الحق الالهي المطلق للملوك الي سلطة روحانية علمانية: أي الانتقال من نظام الحاكمية او ولاية الفقيه كما يقول الاصوليون عندنا الي النظام الديموقراطي وحق الاقتراع العام باعتبار ان الشعب هو مصدر كل السلطات وهو الذي يخلع المشروعية علي النظام الحاكم او يسحبها منه. وبالتالي فلم تعد المشروعية شاقولية نازلة من فوق الي تحت علي رأس البشر وانما اصبحت أفقية، بشرية، مستمدة من الشعب ككل. الحداثة تعني ايضا نهاية نظام الامتيازات الذي كانت تتمتع به الطبقات الارستقراطية العليا بحكم الولادة والنسب واحلال نظام المساواة محلها: أي المساواة بين أبناء الشعب كافة لا فرق بين كبير وصغير او ابن هانم وابن جارية كما يقال. فالجميع ينبغي ان يخضعوا للقانون والقانون فوق الجميع. وهو ينطبق علي رئيس الجمهورية مثلما ينطبق علي آذن المدرسة.. ولهذا السبب اندلعت الثورة الفرنسية وحرقت الاخضر واليابس قبل ان تصل الي غايتها وترسخ النظام الدستوري والديموقراطي الجديد.
أما علي المستوي الاقتصادي فان الحداثة تعني الانتقال من اقتصاد الكفاف الذي يؤمّن فقط البقاء علي قيد الحياة الي الاقتصاد الانتاجي الذي يؤمّن الوفرة والحياة الاستهلاكية الرغيدة. وكل ذلك مرتبط بالطبع بظهور التكنولوجيا وسيطرة الاجهزة التقنية علي مختلف نواحي الحياة البشرية وتخفيف الجهد العضلي والعبء المرهق عن كاهل الانسان بفضل الالآت الحديثة. كل هذه التجديدات والبدع والاختراعات ظهرت لاول مرة في الغرب. وهي تشكل المراحل الاساسية للتوصل الي الحداثة. وهي التي تميز الغرب الحديث عن بقية شعوب الارض. كما انها تميز الحداثة عن الفترتين الكبيرتين اللتين سبقتاها كرنولوجيا أي زمنيا: ونقصد بها المرحلة الاغريقية الرومانية، فمرحلة القرون الوسطي المسيحية كما الاسلامية.
ولكن يلاحظ اركون ان المخترعات والاكتشافات الجديدة التي ولدت الحداثة في الغرب لم تؤد حتي الآن الي التصفية النهائية لفرضيات الفكر الاغريقي السامي. ونقصد بها مسلمات الميتافيزيقا الكلاسيكية لافلاطون وكل العرب المسلمين او المسيحيين اللاتينيين الذين جاؤا بعده واتبعوه بالاضافة الي الميتافيزيقا التوحيدية في نسخها الثلاث اليهودية فالمسيحية فالاسلامية. بمعني آخر لا يزال هناك كثيرون ممن يؤمنون بهذه الافكار الميتافيزيقية حتي في الغرب الحديث نفسه وليس فقط في الشرق المتأخر تاريخيا. بمعني آخر فان الدين لم ينته في عصر العلم والفلسفة الوضعية الزاحفة. والتساؤلات الميتافيزيقية عن معني الوجود والحياة والموت وما بعد الموت لا تزال راهنة ومطروحة. وبالتالي فالالحاد ليس هو الحل كما توهم بعض متطرفي الحداثة.
ماهي هذه المسلمات التي هيمنت علي الفكر حتي مجئ الحداثة الاوروبية في كل النطاق الحضاري الاغريقي السامي؟ نقصد في كل النطاق الجغرافي المتوسطي الذي انتشرت فيه الفلسفة اليونانية ثم الاديان التوحيدية بعدئذ من يهودية ومسيحية واسلام. وهو نطاق يختلف كليا عن نطاق الشرق الاقصي حيث سادت أديان وفلسفات أخري كالبوذية والهندوسية والكنفوشيوسية الخ..
كان فيلون الاسكندراني الذي مات عام 54 للميلاد قد لخص هذه الفرضيات الميتافيزيقية التي أخذها عنه لاحقا كل الفلاسفة واللاهوتيين من يهود ومسيحيين ومسلمين منذ ذلك الوقت وحتي يومنا هذا. تقول هذه الفرضيات بان الانسان خلق علي صورة الله وانه مزود بعقل يجعله خليفة الله في الارض كما يقول القرآن الكريم في سورة البقرة الآية الثامنة والعشرين. كما انه مزود بارادة قادرة علي ان تسير به علي طريق النجاة في الدار الآخرة اذا ما آمن بالله وعمل صالحا..
هذه الافكار التي بلورها فيلون الاسكندراني المتأثر بافلاطون ودين التوحيد هي التي نجدها في القرآن وتعاليم النبي محمد عليه الصلاة والسلام. وبهذا المعني فان الاسلام كان يمثل حداثة في وقته لانه أدخل العرب الجاهليين المشركين الذين كانوا قد ظلوا حتي ذلك الوقت بمنأي عن تيارات الفكر الاغريقي والدين التوحيدي في هذه التيارات بالذات. لقد انتقل بهم من الشرك الي التوحيد. وتكمن عبقرية النبي محمد في كونه استطاع ان يخرج العرب آنذاك من هامشيتهم وان يدخلهم التاريخ ويفاخر بهم الأمم. وكان ذلك بمثابة مقدمة لواحدة من اكبر المغامرات الحضارية والروحية التي شهدها التاريخ البشري. لقد استطاع تعريب الحداثة السائدة آنذاك اذا جاز التعبير: بمعني انه أعطي صياغة في اللغة العربية ولأول مرة عن دين التوحيد. وهي صياغة عبقرية وليست تقليدا أعمي لليهودية او المسيحية كما يزعم بعض المستشرقين الذين يحاولون التقليل من عظمة الاسلام او أصالة القرآن وابتكاريته الفذة. بهذا المعني يصح القول بان معجزته الوحيدة هي نقل القرآن الكريم الي البشر. ثم انتقلت هذه الصياغة العقائدية الي اللغات الاسلامية الأخري كالفارسية والتركية والاوردو..وعلي هذا النحو اعتنق العرب بدورهم هذه الحداثة الفكرية التوحيدية التي كانت تعني آنذاك تصفية الانسان القديم (أي الكافر) واحلال الانسان الجديد محله(أي المؤمن بالعهد او الميثاق الذي يربط بين الانسان وربه). هذه هي الحداثة بالمعني القديم للكلمة وهي لاتزال سائدة حتي الآن ما عدا في اوروبا التي قطعت معها او خرجت منها بعد عصر التنوير. ولكن هل خرجت منها كليا؟ يحق لنا ان نطرح هذا السؤال لانه لاتزال هناك شرائح لا يستهان بها من المؤمنين بالمسيحية حتي في اكثر المجتمعات الغربية تقدما وحداثة. وبالتالي فيتعايش في نفس المجتمع أناس مؤمنون بالمسيحية وأناس ما عادوا يؤمنون بها وانما هم من أتباع التفسير العقلاني او الفلسفي للوجود. في اوروبا تجد المسيحي الي جانب الملحد المادي الي جانب اللاأدري يتعايشون جنبا الي جنب بدون أي مشكلة وكل واحد يحترم اعتقاد الآخر. بل وحتي في داخل نفس الشخص الواحد قد تتعايش عدة عصور دفعة واحدة! ولكن المسيحي المعاصر في فرنسا اصبح ليبراليا متسامحا ولم يعد أصوليا متعصبا كما كان عليه الحال في السابق. وهذا يعني ان الحداثة وصلت الي ساحة الفكر الديني نفسه.
وبالتالي فان الحداثة الجديدة، أي الفلسفية التنويرية، لم تعد مؤمنة بالمعني التقليدي القديم للكلمة. فالتدين او عدم التدين اصبح قضية شخصية بالنسبة لها. وهناك تمييز واضح في كل مجتمعات الغرب المتقدمة بين المتدين والمواطن. فاذا كان كل متدين مواطنا بالضرورة فانه ليس كل مواطن متدينا بالضرورة. بل ان عدد المواطنين غير المتدينين اصبح اكبر بكثير من عدد المواطنين المتدينين الملتزمين بأداء الشعائر والطقوس المسيحية. وهذا تطور تاريخي ابتدأ يحصل ايضا في المجتمعات العربية والاسلامية. والواقع ان التيارات العلمانية من مؤمنة وغير مؤمنة أخذت تتغلب في الغرب علي التيارات المسيحية المؤمنة بالمعني التقليدي للكلمة. وأصبحت ترميها في دائرة القديم البالي المضاد للحداثة الحقيقية. وهذا يعني اننا انتقلنا من ايمان قديم اصبح مرهقا للانسان بكل طقوسه وشعائره الي ايمان جديد، حر، شخصي، جواني، داخلي. وقد حصل هذا التطور بعد انتصار فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر ثم فلسفة فويرباخ وماركس ونيتشه وفرويد في القرن التاسع عشر.
وبالتالي فاذا كان النبي العربي محمد بن عبد الله قد دشن التاريخ وأدخل العرب في الحداثة الروحية والفكرية السائدة في عصره ووحدهم عقائديا وأعطاهم مشروعا مستقبليا وجعلهم يصنعون واحدة من أجمل الحضارات علي وجه الارض ألا يجدر بنا ان نهتدي بنوره ونفعل نفس الشيئ حاليا؟ ولو انه ظهر من جديد أما كان سيدخلنا في الحداثة الحديثة دون ان يتخلي عن أفضل ما أعطاه تراثه الاخلاقي العظيم؟ لكن من هو المفكر العربي او المسلم الجديد القادر علي انقاذنا من التهميش والجمود التاريخي مرة أخري وادخالنا في الحداثة الحديثة؟ من هو القادر علي تحقيق المعادلة المستحيلة بين الاسلام والحداثة او بين العقل والايمان؟ من هو القادر علي ايجاد الحلقة المفرغة الضائعة؟ وهل ظهر هذا المفكر يا تري ام انه لا يزال في ضمير الغيب وننتظر ظهوره بفارغ الصبر؟ هذا ما سنحاول الاجابة عنه في الحلقة القادمة ان شاء الله.


الأحد6/4/2008
الراية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.