يتيم المنصورة لو جرّبتَ أن تذهبَ الى الشاطئ ذات يوم من أيام الشتاء القارسة، تتأمّل في هذا الملكوت العظيم تتدافع أمواجه مذكّرةً الانسان بصغاره وضآلته... هل فعلت؟ لو جرّبت أن تسبح في البحر ذات جانفي أو فيفري، تنظر فإذا أنت وحدك في هذا الوَسَعوت الرَّحَبوت الأزرق الى خضرة، الأخضر الى زرقة، الأزرق الى سواد، من العيون ما يجمُل فلا تدرك بالضبط لها لونا...السحر يصبح لونا ، والبحر لونه ساحر،تحس بجاذبٍ يجذبك اليه فلا تستطيع هجره، وكأنما يحس هو بذلك منك فيرفُق بك وتلطُف برودته عليك، ويضمّك ويهدهدك ويناغيك...هل أحسست؟ لو حدث أن قضّيتُ الأويقاتِ الطوالَ سائحا غوصا لا ترى تحت ناظريك ومنظار سباحتك الاّ ذلك الكونَ الخلاّب من الكائنات البحريّة تنساب رقيقا حواليك، خلفك، أمامك، تحتك، فوقك، تلامسك وتدغدغ ناعمة أطرافا من أطرافك، كونٌ آخر له خارطته الأخرى، عناوينه الخاصّة، أنهجه، أزقّته، سكّانه ...تعودُ يوما آخر فترى نفس السمكة، هي، نعم هي نفسها، كأنما لها بطاقة هويّتها وعلامة معرّفها ، تتعرّف أنت عليها وتتعرّف هي عليك وتنشأ بينك أنت الرّجل وبينها هي السمكة عِشرة وأُلفة واستئناس... تتسمّك أنت فتستحيل مثلها وتتأنسن هي فتصبح أختا لك، وتتماهيان...هل حدث؟ لو صادف أن ذقت غصرات الشَّرَق في البحر وانقطعت أنفاسك ورأيت موتك هناك، وقبرك هناك ، ونقمت على هذا البحر المارد يحبّ أن يختطفك أُكلا لأغواره ولُجَجِه ثمّ اطمأنّت أنفاسك ونجوت، فإذا بك تعود من الغد ويعود الغول المارد حبيبا لك...هل نملك أن نكره البحر حتى وهو يتهدّدنا؟ هل صادف؟ لو اتّفق أن كان لك قريب، أخ، والد، معرفة ما، خرج الى البحر غائصا أو راكبا ظهر قارب صغير أو سفينة كبيرة ولم يعد، ولم يعثر حتّى على جثّته...تظلّ لأيام وأسابيع تسبح وتتخوّف في كلّ لحظة أن يخرج لك جسم تحلّل، جُثّة حبيب مفقود، كم أحبّةً افتقدناهم هناك ولكننا لا نستطيع الاّ مزيد التعلّق بهذا ال :" أزرق " العظيم رَحِما ننشأ فيه وحَشًا ننمو داخله وقبرا نؤول أحيانا اليه، قدرا نسكنه ويسكننا ...هل اتفق؟ لو فعلتَ ولو أحسستَ ولو حدثَ ولو صادفَ ولو اتّفقَ لما جرؤتَ على أن تفكّر يوما في خوصصة هذا الذي لا يمكن أن يُخوصَصَ فقط لأنه بحر، فقط لأنّه ملك عامّ للناس أجمعين... أن تسعى الى امتلاكه وحدك معناه أنّك تقطّع أوصاله، هل يستطيع الواحد منّا أن يقطّع أوصال أمّه التي ولدته الاّ أن يكون مريضا، مجنونا، مهووسا، مختلاّ...أن تفكّر في امتلاك البحر معناه أنك كلّ هذا معا: مريض، مجنون، مهووس، مختلّ... أن تفكّر في امتلاك البحر معناه أنك تحبّ أن تمحو ذاكرتنا، أن تسرق مناّ طفولتنا، أن تحبس عناّ أنفاسنا ، أن تنتزع مناّ أبصارنا، أن تقتلنا...أن تقتلنا...أن تقتلنا، وهذا إجرام في كلّ الأعراف والقوانين... سنعرف كيف ندافع عن بحرنا، طفولتنا، أنفاسنا، أبصارنا... و ستعرف الرمال، ستعرف الصّخور، ستعرف الأمواج، ستعرف المياه، سيعرف البحر، بحكمته، كيف يدافع عن امتداده المطلق و عن إطلاقه الممتدّ. فوزي القصيبي يتيم المنصورة