أعني بالطبائع الأمزجة والبنية النفسية للفرد وأعني بالصنائع الممارسات والأفعال وردود الفعل. نسأل إلى أي حد تتطابق ممارسات الأفراد مع معتقداتهم؟ وإلى أي حد تتطابق تصوراتهم العقدية مع جوهر تلك العقيدة؟ ثم هل لطبائع الأفراد انعكاسٌ على فهمهم لمعتقداتهم؟ وهل يمكن أن يختلف أفرادٌ ينتمون إلى عقيدة واحدة في التصور والممارسة ؟ وإلى ما يمكن رد ذاك الإختلاف؟ هذه الأسئلة تبدو أكيدة لتجنب النظرة «الحشرية» تجاه الحركات أو الأحزاب العقدية على اختلاف مرجعياتها. لأي واحد منا أن يسأل نفسه إن كان منسجما انسجاما علائقيا مع كل شركائه في الإيديولوجيا ؟ وبالمقابل هل يمكنه إقامة علاقات منسجمة في بعدها الإنساني المحض مع أفراد ذوي مرجعيات عقدية مختلفة؟ ما الذي يُتيحُ إمكانية الإئتلاف مع المختلفين والإختلاف مع المؤتلفين؟ هل إن صنائع الناس ( أفعالهم) نابعة دائما عن معتقداتهم أم قد تنبع عن طبائعهم؟ هل تنتج ذات الإيديولوجيا ذوات متناقضة الطبائع بحيث يكون البعض هادئا معتدلا رحب الصدر مصطبرا على المخالفين ويكون شريكه فيها حادا متشددا ضيق الصدر عنيفا؟. ليس مقنعا القول بكون اختلاف القراءات والتأويلات تنتج طبائع متناقضة ذاك أن اتساع الإختلاف في النص الواحد يكون عادة باتجاه العمق وليس باتجاه أفقي إذ لا يمكن حصول تناقض بين سطح النص وعمقه؟ هل يمكن أن تكون قراءة الذات الحادة المتوترة قراءة هادئة عاقلة متوازنة؟. إن ماركسيا ميسورا مثلا لا يستعجل قيام ثورة البروليتاريا قدْر التذاذه بنسقية المنطق الماركسي في الجدلية المادية والمادية التاريخية وصراع الطبقات والحتمية التاريخية.. وبالمقابل فإن ماركسيا معدما لا يصطبر على تأمل كتاب رأس المال قدر استعجاله تسلم البروليتاريا السلطة وتأميم وسائل الإنتاج وتوزيع the three satisfaction الثروة وفق مبدإ الحاجة أو الكفايات الثلاث فهل نستغرب إذا وجدنا الأول أكثر هدوء وأميل إلى تحليل الظواهر الإجتماعية بعمق واصطبار وسعي للإقناع لا يربكه نقد ولا يغضبه رفض في حين نجد الثاني مستعجلا قيام «الثورة» محرضا عليها دون وعي بمدى توفر أو عدم توفر شروطها ودون قراءة علمية لطبيعة المجتمع ولطبيعة المرحلة يرفض كل رأي مختلف يتدجج بكل المفردات « الغليظة» في التخوين والتجهيل لكأنه يرى الثورة ثأرا ممن سلب رغيفه وبين الثورة والثأر كتاب حضارة ورحلة إنسان . ( لا نحتاج تذكيرا من ماركسي محترف بكون الميسورين لا يمكن أن يكونوا ماركسيين !). أكاد أجزم بأن كل عقيدة لا يقرأها عقل بقدر ما تقرأها «حالة» وإن أي إيديولوجيا إنسانية الأهداف والوسائل تتحول بين أيدي المحبطين والمنبوذين والمحرومين إلى أداة ثأر حادة في وجوه الجميع... إن الذين يحملون عقدة المنبوذية والمظلومية والحرمان لا يحملون قوائم فيمن نبذهم أو ظلمهم إنما هم يحملون « حالة» ويتهمون كل من حولهم. ولنا أن نسوق من تاريخنا مثالا لتأكيد علاقة الصنائع بالطبائع حيث إنه « لما كان يومُ بدر وجيء بالأسرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقولون في هؤلاء الأسرى ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله قومُك وأهلك إسْتبْقهم واستأنهم لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قدمهم فضربْ أعناقهم....» ( عن الطبري). ما الذي جعل الرجلين على موقفين متناقضين من نفس القضية وفي نفس اللحظة وهما يصدران عن نفس العقيدة؟ هذا لين جدا وهذا متشدد جدا وهو ما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم تعقيبا عليهما : « إن الله عز وجل ليُلينُ قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليُشددُ قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة... « هل كان لطبيعة كل منهما تأثير في موقفه؟ أبو بكر كان تاجرا قبل الإسلام وعمر كان من وُجهاء قبيلة بني عدي وكانت تسند إليه السفارة يفاوض باسمها وكان رجلا قوي البنية حدي المواقف. عمر صاحب هذا الموقف المتشدد في بداية إسلامه سيكون بكاءً وذا حس إنساني مرهف يخشى أن يحاسبه الله على عثرة بغلة في العراق « لو أن بغلة عثرت في العراق لسألني الله يوم القيامة لماذا لم تسو لها الطريق يا عمر؟».. وهو نفسه الذي سينصح أبا بكر الصديق بعزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيش بسبب ما قدرهُ فيه من شدة وتصلب « إن في سيف خالد رهقا» ( أي شدة). كان الرسول صلى الله عليه وسلم واعيا بأن تناقض موقفيهما ناتج عن اختلاف الطبائع وهو ما لا يسلم منه حتى الأنبياء لذلك قال لأبي بكر: « إن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيمٌ. وإن مثلك يا عمر مثل نوح قال: رب لا تذرْ على الأرض من الكافرين ديارا «... هذان نبيان أحدهما يسأل لمن عصوه وآذوه المغفرة والآخر يدعو عليهم بالهلاك! لماذا نستغرب أن يكون في الناس متشددون ولينون ؟لماذا نيأس من قدرة « الإنسان» على إنقاذ جوهره؟ لماذا لا نحاول فهم الطبائع وآثارها في الصنائع؟ علينا النظر في الذوات السياسية والإيديولوجية والدينية للوقوف على ما تستبطنه من عقد ومن تشوهات وكدمات وصدمات وما أحاط بها من بيئة وتنشئة وأحداث، وحتى لا نقع في « حماقة « من يهد بناية انتقاما من المقيمين فيها علينا الفصلُ بين « المقام» و«المُقيم» بين العقائد والمعتقدين بها بما هم آليات تفكير وأجهزة نفسية وبيئات اجتماعية ومناهج تنشئة وبما هم ترسبات مختلفة. إن الإيديولوجيا أشبه ما تكون في حياديتها بالتكنولوجيا ولذلك يُحتاجُ إلى «أنسنة» حامليها حتى لا يحولوها إلى أداة اقتتال... وكم هي الشعارات الجميلة والمقاصد النبيلة يقتلها أصحابها حين لا تكون الوسائل من جنسها... وهل يُدعى الناسُ إلى السعادة بأساليب الشقاء وهل يُقادون إلى الحياة عبر مسارب الموت؟ بحري العرفاوي كاتب وشاعر تونسي الصباح التونسية الثلاثاء 27 جويلية 2010