أن تكتب عن حاكم شغل الدنيا وخطف الاسماع حيا وميتا وتحول الى كلمة السر لعزة النفس والكرامة للملايين من الشعوب العربية والقوى التحررية التي انطلقت في كل ربوع الامة تقاتل الاحتلال وتقاوم الاستعمار،ونجحت الثورة في ليبيا وتحولت الجزائر الى مقبرة للاستعمار واغتسلت العقلية العربية بأفكار التحرر والنهوض وإزالة الاسلاك الشائكة ورفع الزجاج المكسور من على طريق التلاحم في كيان واحد عنوانه، أمة عربية واحدة ومصير واحد، عندما تسمع دعوات البسطاء في الحضر والريف والبدو تتنزل بالرحمة على الانسان الذي خرج من رحم الامة من أم بسيطة مثل كل الامهات وأب موظف مثل ملايين الاباء، ولكنه كان ليس مثل كل الابناء كان نبتة صالحة وعاش ومات من أجلها، تسمع عنه ولم تكن قد عاصرته في حياته ولم تكن شاهدا على سياساته وكل ما تعرفه عنه تستمده من الذين عاصروه ويكتبون ما يسمح لهم أن يكتب عنه، بعد أن أصبح الحديث عنه من المحرمات، يمنع دخول الجرائد الى الدول التي جعلت من موته حياة لها واستمرارية لسلطتها، عندما تكتشف فجأه أن كل ما قد حققته في حياتك من الحصول على فرصة التعليم المجاني، ان تجد لنفسك مكانا في المستشفى بعد أن كانت الغالبية العظمى من الشعب تعالج قبل الثوره بالاعشاب والوصفات الطبية، أو أن يحبك الاخرون الذين يعيشون في الدول العربية الاخرى الذين لم ترهم ولم يروك يعود الى محبتهم لهذا الرجل، عندما تعرف أن ما تشعر به من اهانة وضياع للكرامة حزنا على فلسطين التي بدون أن تختار،هي قضية قد ترسبت في وجدانك منذ ميلادك أو اختلطت في الحليب الذي أرضعتك أمك، عندما تعرف أن آدميتك قد سحبت منك وضاقت عليك أوطانك وأصبحت نهبا مستباحا للغربة والمنافي والحرمان من الوقوف لتتقبل العزاء في والديك اللذين رحلا ولم تشهد موتهما أو تصلي عليهما صلاه الجنازة، كان هذا بسبب رحيل هذا الرجل، ساعتها ستشعر بأن خسارتك كبرى لانك لم تشاهده أو تشارك في تحقيق حلمه ودعم نضاله بأن يسترد الانسان العربي انسانيته وادميته، لجمال عبد الناصر في حياتي تجربة خاصة، ففي وسط جدار بيتنا البدوي البسيط كنت ارى منذ طفولتي البائسة المتعبة صورتين معلقتين الى جانب بندقية قديمة ورثها أبي عن جدي، الصورة الكبيره لجدي والد أبي يقف بقميصه الابيض ويحمل على يديه صقرا كان قد اصطاده حديثا في ذلك الوقت، والصورة الثانية كانت لجمال عبد الناصر يقف بقامته الشامخة ببذلة سوداء، كبرت وأنا أعتقد بان هذا الرجل الذي تحتل صورته مكانا بارزا الى جوار صورة جدي هو واحد من أفراد العائلة وأحيانا كثيره كنت أظنه واحدا من أعمامي. وعندما قامت حرب أكتوبر كنت صغيرا، أتذكر أن أبي كان يضع الى جوار أذنيه راديو صغيرا يربط بطاريته بسلك رفيع يسمع ويتهلل وينقل ما يدور للاخرين، وارتبط في ذاكرتي مشهد اخر لازلت لم أنسه عندما قفز أحد الطيارين الاسرائيليين من طائرته قبل أن تنفجر نتيجة لصاروخ أطلق عليها وتحلقت الناس حول هذا الطيار لا تعرف ماذا تفعل معه وبه وهو مقرفص على الارض مرعوب ولم ينقذه من مصيره الذي كان موضع نقاش بين الناس الغاضبة والفلاحين الذين سارعوا من حقولهم يحملون الفؤوس غير مجيء سيارة عسكرية أخذته وانطلقت. تفتحت مداركي السياسية وبدأت أستوعب الامور بعد اتفاقية السلام التي وقعها السادات في كامب ديفيد في ذلك الوقت نشطت حركة غريبة داخل المجتمع المصري من جميع التيارات وحدث أمر نادر لا يتكرر على مر تجارب التاريخ، أوجدته فضاعة الحدث، اتفق الشيوعيون مع الاسلاميين وكانت المنشورات التي تلعن السادات وتتهمه بالخيانه والعمالة توزع سريا ولكن على نطاق واسع، وانتقلت الحالة الى الجامعات وأصبحت مصر في ذلك الوقت وكأنها تعيش على قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار في أي وقت، وهو ما حدث يوم اغتيال السادات في حادث المنصة الشهير، مع عهد الرئيس مبارك كان جمال عبد الناصر يتحول الى مجرد ذكرى للحنين الذي يعود اليه الانسان كلما اشتدت عليه الخطوب والمحن، أصبح الاسرائيلي الذي كان مجرد ذكر اسمه يدفع الدماء لتغلي في الرؤوس أراه جالسا الى جواري على المقهى في وسط القاهره ولا تتحرك الاشياء القديمة في داخلي، حالة من حالات الموت وتوقف الذاكرة، كل شيء تغير ليس في مصر وحدها بل في الامة العربية التي من يتابع سقوطها يشعر وكأنها تنتقم من نفسها وكأنها تريد أن تتخلص من عبء كرامتها اكتشفت الامة العربية أن حريتها عبء عليها وتسابقت لتعود مجرد كائن يتغذى على فتات الاخرين. خالد الهواري - السويد القدس العربي