جيرت فيلدرز سياسي هولندي خرج عن الاتجاه السائد لحزب قومي ليؤسس منبرا يمينيا متشددا ضد المهاجرين، وقد وجه فيلدرز معظم كراهيته في السنوات الأخيرة إلى المسلمين، فقد دعا إلى مصادرة القرآن، كما أمضى الشهور الأخيرة في إعداد فيلم وثائقي يهاجم القرآن، وأعلن أن الفيلم سيظهر نسخة للقرآن يتم تدنيسها أو تدميرها. فيلدرز يريد مصادرة القرآن، وكثير من المسلمين يريدون مصادرة فيلم فيلدرز، ويود فيلدرز أن يخرج المسلمون من بلاده وأن يحرموا من حقوق المواطنين الآخرين في ممارسة طقوس دينهم، كما أن كثيرا من الهولنديين المسلمين يتمنون أن يبتعد فيلدرز (وقد تلقى تهديدات باستخدام العنف من البعض)، لكنه لن يحقق (ولا يجب أن يحقق) فيلدرز أو هؤلاء المسلمون ما يريدون.. فما الأمر؟ ينظر كثير من المتابعين لهذا الموقف فقط من خلال القانون، وقد ركزت المقالات الصحفية على التهديدات التي وجهت لحياة فيلدرز والنداءات لمصادرة فيلمه، وبالطبع التهديدات غير مقبولة وإجرامية، ويجب أن يمنح فيلدرز الحماية القانونية التامة، وأن يقدم من يهددونه إلى المحاكمة. هولندا ليست عدوا للإسلام وبالنسبة لحق حرية التعبير، فإنه يجب معاملة فيلم فيلدرز مثل غيره من وسائل التعبير الأخرى في إطار القانون الهولندي، فهولندا مثل معظم البلدان الأخرى تضع قيودا معينة على الحديث الذي يقذف ويشهر بمجموعة من الناس أو يحقرهم بناء على انتماءاتهم العرقية أو الدينية. وقد صرح رئيس الوزراء الهولندي أنه إذا حكم على الفيلم عند عرضه بأنه انتهك القانون، سيكون واجبا على حكومته تنفيذ القانون، هذه المعاملة للهولنديين المسلمين كمواطنين متساويين مع غيرهم (في الحقوق والواجبات) تحت مظلة القانون توضح لمسلمي العالم أن هولندا ليست عدوا للإسلام. وأعتقد أننا يجب أن نتكلم في هذه القضية بشكل أوضح حتى يمكننا أن نجد طرقا أفضل للتعايش معا في عالم سيكون به أشخاص نعتقد أن رؤيتهم ومعتقداتهم شاذة وبغيضة. ونحن لا نبرر أي نوع من التطرف سواء كان هجمات بغيضة وعنصرية على الجاليات المسلمة أو عنف من الجماعات المسلمة ضد من يقوم بهذه الأنواع من التعبير، والذي يجب أن نحاول فهمه لماذا يشعر بعض الأفراد العاديين بأنهم محاصرون في الوسط، وأحيانا تجذبهم النداءات العاطفية للمتطرفين؟ تحولات كبيرة في العقود الأخيرة تعرضت معظم المجتمعات في العالم لتحولات كبيرة، واضطرت العديد من الدول الأوروبية للتخلي عن رموز هامة في سيادتها القومية لكي تصبح أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وحتى الدول التي لم تدخل الاتحاد الأوروبي حدثت تغيرات بمجتمعاتها بسبب العولمة، حتى الذين استفادوا اقتصاديا من تلك التغيرات يقلقهم أحيانا فقدان الأشكال التقليدية لوحدة وثقافة المجتمع، فقد تغيرت أنماط الماضي كأسواق المزارعين المحلية، وقاعات الكنائس المكتظة بالأسر صباح الأحد، والمخابز المجاورة للبيوت، والحرفيين وإيقاع الحياة، ربما كل جيل لديه قدرة محدودة على تحمل التغيير، أو ربما لا أحد منا -برغم أننا مع التطور- يستطيع أن ينظر إلى مجتمع الماضي إلا بأعين رومانسية. المسلمون كبش فداء والوجود المتزايد للمسلمين في أوروبا، هو جزء من هذا التغير، ليس سبب كل تلك التغيرات، فلم يتسبب المسلمون في قلة عدد الحضور في الكنائس الأوروبية، وهم غير مسئولين عن تحول بعض الكنائس إلى متاحف أو حانات، ولم يتسبب المسلمون في الانخفاض المستمر لمعدل المواليد في العديد من المجتمعات الأوروبية. ولكن بناء المسلمين للجوامع وحضورهم للشعائر الدينية بأعداد أكبر من المسيحيين الأوروبيين، وزيادة عدد أفراد أسرهم عن الأسر المسيحية في أوروبا تجعل من المسلمين كبش فداء (وسيلة لإلقاء المسئولية على الآخرين)، وقد شهد التاريخ الأوروبي هذا النوع من الكراهية العرقية من قبل، فقد ظلت نظرة المسيحيين الأوروبيين لأغنياء اليهود تتسم بالغيرة والغيظ لقرون طويلة. فالمسلمون لا يجب أن يصبحوا كبش فداء لمشكلات لم يتسببوا فيها، وفى ذات الوقت علينا أن نكون منصفين فنعترف بأن الهجرة المسلمة الكبيرة لأوروبا شكلت تحديات حقيقية لهذه المجتمعات، وعلى عكس ما يحدث في الولاياتالمتحدة، لم يحصل كثير من هؤلاء المهاجرين إلا على قدر ضئيل من التعليم، ويتم توطنيهم بأعداد كبيرة في المساكن الحكومية التي تعزلهم عن بقية السكان، وتعوق العديد من تلك السياسات الصادرة عن حسن نية عملية التكيف الطبيعية مع البيئة الجديدة. ومن ناحية أخرى غالبا ما يؤدي التمييز الصارخ والمستمر الذي يعانيه هؤلاء المهاجرون في حياتهم اليومية، ممتزجا أحيانا ببعض الأيديولوجيات الإسلامية المتطرفة لدى بعض الجاليات، إلى إضعاف قوة نموذج التكيف الإيجابي. وبرغم ذلك فمعظم المشكلات ثقافية؛ لأنه عندما تشترك المجتمعات في القيم الأساسية (وأعتقد أن ذلك ينطبق على معظم الأوروبيين المسيحيين والمسلمين)، قد تؤدي الأساليب الثقافية المختلفة التي تعبر بها المجموعات عن تلك القيم إلى سوء التفاهم والتوتر، فقيمنا لا تعكسها كلماتنا فقط، ولكن أفعالنا وملابسنا وفننا المعماري. سلوكيات الاحترام وبالنظر، على سبيل المثال، إلى مسألة الاحترام وهي قيمة هامة في أي مجتمع.. فما الذي يحقق مقابلة محترمة مع أي شخص؟ في العديد من مجتمعات شرق آسيا يجب أن تقدم كروت البيزنس باليدين وكأنها هدية، بينما يعد الدفع بالكارت لشخص نعرفه منذ فترة قريبة أمرًا فظًّا، وفي المجتمع الأمريكي، يظهر المرء الاهتمام والاحترام والانتباه في أثناء الحديث إلى الآخرين بالنظر إلى أعينهم بشكل مباشر، بينما في العديد من الثقافات الإسلامية تحمل تلك النظرة عدم الاحترام، خاصة إذا كان المرء يتحدث مع شخص أكبر سنا أو من الجنس الآخر؛ وقد اشتكت لي إحدى الطالبات من طالب آخر بالفصل قائلة: "إنه لا يحترم المرأة فهو لا ينظر إلي مطلقا"، أما الشاب وهو طالب من إحدى دول الشرق الأوسط فقد فزع مما فهمته زميلته قائلا: "لقد كنت أحاول أن احترمها بألا أحملق فيها". والفكرة أنه لا يمكنك النظر إلى أعين الشخص الذي تحدثه مباشرة وتجنب الحملقة فيه في ذات الوقت، وفي أي مقابلة يمكن اتباع أسلوب واحد من أساليب الاحترام السابقة، ويتعلم معظم الناس التكيف حتى أنه يمكنهم أن يصبحوا ثنائيي الثقافة، ولكن هذه العملية تستغرق وقتا طويلا، وإذا تم تسييس الاختلافات (صبغها برؤية سياسية) أو جعلها مثالية ينشأ الصراع. اختلافات أخرى وعندما تستقر جاليات جديدة في مناطق كانت تسكنها سابقًا جماعة ما، قد ينتشر سوء التفاهم، فقد نشأت في مدينة كندية متوسطة الحجم استوطنها المهاجرون الألمان أولا ثم الإنجليز والأيرلنديون، وسمعت تعليقات بذيئة عندما بدأت الأسر البرتغالية في الانتقال إلى المدينة وزرعوا أفنية منازلهم الأمامية بحدائق الخضراوات، فقد كنا نعيش في عالم أفلاطوني (مثالي)، حيث يجب أن تصطف عيدان الفاصوليا ورءوس الجزر في الأفنية الخلفية وليس الأمامية للمنازل. التكيف وهذه التغيرات طبيعية وتحدث يوميا في جميع أنحاء العالم، والمسلمون منذ قرون يكيفون ثقافاتهم وعاداتهم وفقا للبيئات الجديدة، ولهذا يختلف المسلمون من إندونيسيا إلى الأردن إلى السنغال في ملابسهم وعاداتهم وقيمهم الجمالية وأنظمتهم الاقتصادية وسمات أخرى من الحياة الاجتماعية، ويحث الفقه الإسلامي المسلمين على تبني "العادات الحسنة" طالما أنها لا تنتهك المبادئ الأساسية للدين. ويحدد المسلمون الأوروبيون ببطء ما هو الضروري والمقدس في حياتهم وما هو ثقافي ويمكن تعديله أو تكييفه، ويدرك معظم الأوروبيين أن هذه العملية صعبة، ويصبرون على جيرانهم المسلمين ويساندونهم، ولسوء الحظ تبدو أصوات القوميين، الذين يسعون للظهور وهم في حقيقة الأمر عنصريون مثل فيلدرز، غالبا أعلى وأقوى لأنها تقوم بالتهديد، وهذا أيضا ينطبق على المتطرفين في الجالية الإسلامية الذين يعظون ضد العلاقات الطيبة مع غير المسلمين، ورغم أن عددهم قليل فقد يصيبون المجتمع بضرر كبير. احترام الآخر وأهم شيء علينا أن نتذكره وسط كل هذه التغيرات أنه لا يمكننا مطلقا أن نعيش معا في سلام مع كل اختلافاتنا، إلا إذا كانت لدينا الرغبة في احترام اختيارات الآخرين المختلفة، ليس علينا أن نتفق أو نحب بل نحترم بعضنا بعضا، مما يعنى أنه يجب ألا نتعمد إهانة بعضنا بعضا، وتشويه أو تدمير رموز أعز معتقدات الآخرين ينتهك مبدأ الاحترام الأساسي. وتهدف أفعال فيلدرز إلى التجريح والمضايقة والتخويف، ولهذا يعارض كثير من الهولنديين، بمن فيهم الحكومة الحالية، هذه الأفعال ويؤكدون أن مثل هذه الأساليب الكريهة في التعبير لا تتلاءم مع القيم الهولندية مثل التسامح والانسجام الاجتماعي، وقد استجاب الكثير من الهولنديين المسلمين بشكل إيجابي لتأكيد حقوقهم في المواطنة الهولندية القائمة على التنوع في إطار القيم المشتركة، ويعملون مع جيرانهم غير المسلمين لإقامة مجتمع إيجابي يقوم على الاحترام المتبادل. نداء الحرب ما زال البعض يسعى فقط إلى الحرب، لا يهم كم عدد جماعات المجتمع المدني والحوار بين الأديان التي تقف إلى جانب جيرانها المسلمين لتظهر الوحدة والاحترام المتبادل بين الطرفين، ستشير القاعدة والمنظمات المشابهة إلى فيلم فيلدرز كدليل آخر على "الحملات الصليبية الغربية على الإسلام"، ولا يهم كم عدد المسلمين الذين تميز رد فعلهم بالهدوء تجاه فيلم فيلدرز، أو لم يكن لهم أي رد فعل، سيشير فيلدرز إلى رد الفعل العنيف من جانب بعض المتطرفين كدليل آخر على بربرية الإسلام. كل ما أطلبه هو ألا نلقي باللوم على مجموعات بأكملها بسبب أفعال قلة، فالمسلمون لا يجب أن يلوموا الهولنديين جميعًا، ومن قبلهم الغرب، على أفعال فيلدرز الكريهة، كما لا يجب أن يلوم أي شخص المسلمين جميعًا، ومن قبلهم الإسلام، على الأفعال الكريهة لبعض المتطرفين. أما أنا فقد أقسمت أن أول شيء سأقوم به، عند خروج فيلم فيلدرز للنور، هو أن ألتقط القرآن وأقبله كرمز للاحترام الذي يستحقه مني، ثم أجلس وأقرؤه لمدة ساعة، وهذا هو أفضل دفاع عن القرآن. -------------------------------------------------------------------------------- عضو هيئة مستشارى موقع On Faith التابع للواشنطن بوست، وأستاذ الدراسات الإسلامية والعلاقات المسيحية الإسلامية بمعهد إعداد رجال الدين بهارتفورد، ورئيسة الجالية الإسلامية بأمريكا الشمالية، وهي أول امرأة تصل إلى هذا المنصب. *نشر الموضوع على موقع إسلاميكا ماجازين.