لم يكن تقرير صحيفة نيويورك تايمز الذي نشر قبل عدة أسابيع هو الذي فتح الباب أمام أسئلة الموقف الرسمي السوري من الظاهرة الإسلامية، لكن الإجراءات المتوالية التي صنفت ضد الظاهرة هي التي استدعت التقرير المذكور الذي قارن بين الموقف من المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين، وبين الموقف من المظاهر الإسلامية في الداخل، لا سيما بعد منع الطالبات المنقبات من دخول الجامعات ونقل 1200 مدرسة منقبة من التدريس إلى أعمال مكتبية، فضلا عن مراقبة المدارس الإسلامية التابعة للقبيسيات (جماعة إسلامية نسائية أقرب إلى التصوف ولا صلة لها بالسياسة)، وكذلك مراقبة المساجد وخطب الجمعة، وعزل موظفين كبار بسبب ميولهم الإسلامية. في السياق الأول المتعلق بالموقف من المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين، لا يبدو الأمر عصيا على التفسير، فهو جزء من الدفاع عن الأمن القومي السوري والمصالح السورية التي ترتبط بمصلحة النظام أيضا، أكان النظام الحالي أم سواه ما دام يرفض الانصياع للإملاءات الأميركية الإسرائيلية، وقد ثبتت بالفعل صحة المقولة التي أطلقها الرئيس السوري، ومفادها أن كلفة المقاومة أقل بكثير من كلفة الاستسلام. لا حاجة بالطبع لمناقشة تلك المقولات التآمرية حول علاقة النظام السوري بالولايات المتحدة، فضلا عن تلك التي تشير إلى تفسيرات أكثر تهافتا فيما يتصل بحزب الله ومقاومته، وكل ذلك في سياق من الحشد الطائفي أو المذهبي الذي يجتاح المنطقة. أما السياق الداخلي فهو أيضا جزء من منطق الأنظمة التقليدي في التعامل مع الظواهر السياسية والدينية، من دون أن يعني ذلك تبريرا بأي حال، فالأنظمة تراقب الظواهر المشار إليها وتحدد نمط تعاملها معها بناءً على مصلحتها ومصالح نخبها الحاكمة، وليس شيئا آخر، الأمر الذي ينطبق على النظام السوري وسواه، وما فعله النظام "الإسلامي" في السودان دليل على ما نقول، فقد سيطر القوم على الحكم ودفعوا الكثير للولايات المتحدة من أجل الحفاظ على مصلحة النظام وليس مصلحة البلد، فضلا عن وحدته التي غدت في مهب الريح (دعك مما فعلوه بشيخهم حسن الترابي). وها هو النظام السعودي يفعل ذات الشيء في سياق تحجيم الصحوة الدينية، بخاصة طبعتها المتشددة. وعموما من الصعب الربط بين سلوك الأنظمة في الداخل وسلوكها الخارجي، إذ ليس مستغربا أن يكون سلوك الداخل موغلا في الدكتاتورية، وربما الفساد أحيانا، بينما يكون غير ذلك في الخارج، ونظام صدام حسين أكبر دليل على ذلك حتى لو لم يقتنع كثيرون لا يرون خيرا في الرجل أنه كان بوسعه الرضوخ للإملاءات الأميركية وتجنيب نفسه المصير الذي لاقاه. عودة إلى الظاهرة الإسلامية في سوريا، فهنا نحن إزاء ظاهرة توسعت على نحو لافت خلال الألفية الأخيرة. حدث ذلك في ظل غياب ميداني لجماعة الإخوان المسلمين ولأي نشاط مسيس معلن للمجموعات الإسلامية الأخرى، وقد ثبت أن النظام لا يتسامح مع أي نشاط مسيس ينطوي على معارضة للنظام بصرف النظر عن أيديولوجيته، وما جرى ويجري لرموز إعلان دمشق وبعض العاملين في ميدان حقوق الإنسان، فضلا عن بعض نشطاء الأكراد، دليل على ذلك. وفي حين يتشدد النظام في رفضه لأية تسوية مع الإخوان تمنحهم شكلا من الحضور السياسي، فإن ذلك يأتي على خلفية الخوف من تطور نفوذهم على نحو يشكل خطرا سياسيا عليه، ولو في الحد الأدنى، فيما يمكن القول إن خروج كثير من عناصرهم وقادتهم من السجون وعودة آخرين بشكل فردي قد يؤثر في حركة الشارع على المدى المتوسط على نحو يشجع بعضهم على التفكير في صيغة ما للحضور السياسي. يشير البعض في معرض الحديث عن الخطوات التي ينفذها النظام من أجل محاصرة الظاهرة الإسلامية إلى استهداف خاص للتيار السلفي الجهادي الذي برز خلال السنوات الأخيرة، لكن الموقف لا يبدو محصورا في هذا البعد على أهميته، إذ إن الظاهرة الإسلامية بطبعتها السلفية لا تبدو مرغوبة من لدن النظام حتى لو تجنبت البعد السياسي، والسبب هو الخطاب الطائفي الذي تستبطنه، وتركيزها من زاوية ما على التناقض مع الشيعة، الأمر الذي قد يشير على نحو ما إلى الخلفية الطائفية للنظام، وإن لم يعد هذا البعد منظورا في سياساته، بخاصة خلال مرحلة الأسد (الابن). الأكثر إثارة أن الخطوات التي يشير إليها الكثيرون في سياق عمليات التحجيم للظاهرة الإسلامية تبدو عابرة للأفكار، فهي تشمل اللون السلفي (والإخواني قبل ذلك)، كما تشمل الأنشطة المستقلة، إلى جانب تلك التي تنتمي إلى التيار الصوفي (القبيسيات مثالا). والخلاصة أن ما يقال حول تأكيد الطابع العلماني للدولة ومؤسساتها، بل وحتى حركة الشارع، يبدو صحيحا إلى حد كبير، وإن استبطن الرفض العملي لتغيير المجتمع من الأسفل بما يفرض خطوات تغيير أخرى على المدى المتوسط في بنية الدولة وسياستها. ليس من الصعب وضع المسلسل الذي بُث خلال شهر رمضان "ما ملكت أيمانكم" للمخرج نجدت أنزور في ذات سياق المواجهة مع الظاهرة الإسلامية، حيث وقع تقديمها بصور موغلة في السلبية، بما فيها ظاهرة القبيسيات المشار إليها، الأمر الذي لا يغيره نفي المخرج. الأنظمة العربية عموما لا تتبنى سياسة الصدام المباشر مع التدين ما دام في الإطار القابل للاستيعاب، لكنها تتدخل عندما تحسّ بإمكانية تغييره لثقافة المجتمع من الأسفل على نحو يفرض بعض أشكال التغيير السياسي غير المقبولة بالنسبة إليها. هنا تبدأ سياسة التحجيم التي تستهدف في البداية الجزء المسيس منه، ثم تتجاوزه نحو الآخرين وصولا إلى إعادة التوازن إلى الوضع بما يمنحها الشعور بالاستقرار. وقد يحدث أن يجري تشجيع تيار معين لمواجهة تيار آخر، كما يحدث مع تشجيع بعض الأنظمة للسلفية التقليدية التي تقول بطاعة ولي الأمر ولو جلد الظهور وسلب الأموال في مواجهة الآخرين، وتشجيع أنظمة أخرى للمتصوفة، بينما يتهم إخوان الخارج والسلفيون النظام السوري بالتسامح مع بعض أنشطة التشييع لذات الغرض. والحق أن النظام السوري ليس في حاجة إلى صدام مع الظاهرة الإسلامية، اللهم باستثناء الجزء العنيف منها إذا توفر (حتى هذا الجزء يمكن فتح حوار معه كما جرى في عدد من الدول العربية حتى لو قيل إن بعض "التائبين" قد عادوا إلى العنف من جديد ما دامت نسبتهم جد محدودة)، وهو (أي النظام) قادر على استيعاب الظاهرة بكل تجلياتها بما في ذلك الجزء المسيس المعتدل كما هو حال الإخوان، وإن تطلب ذلك بعض الإصلاحات السياسية التي تحقق العدالة وتشيع التعددية. ولا شك أن السياسة الخارجية المقبولة من طرف الجمهور تساهم في ذلك، لكن الإصرار على سياسة المواجهة وتصعيدها قد يشكل مقدمة لصدام من لون ما مع المجتمع لا داعي له في ظل حاجة سوريا لتكاتف سائر أبنائها في مواجهة الاستهداف الخارجي الذي لم يتوقف حتى لو قيل إن دمشق قد خرجت بعافية لا بأس بها بعد الوضع المخيف الذي تلا احتلال العراق ومن ثم اتهامها باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. المصدر:الجزيرة الأحد 24/10/1431 ه - الموافق 3/10/2010 م