بسم الله الرحمان الرحيم عبد الكريم بن الأخضر العباشي مثالا كان ذلك في أحد أيام صيف سنة 1987، كان العرق يتصبب منا جراء حرارة طقس مع انعدام تهوئة طبيعية مناسبة... كان الوقت عصرا...فجأة يفتح الباب و ينادي العون على أربعة منا... " محامي" كنا تلك الأيام في انتظار انعقاد محكمة أمن الدولة، و كنا نستقبل أيامها السادة المحامين المكلفين بالدفاع عنا... كانت أياما عصيبة و لا شك... و كان بورقيبة يهذي شوقا لرؤوس تقطف... " محامي" لبسنا النظيف من ثيابنا، لم تكن بدعة منع القميص أو الجبة أو غيرهما من اللباس التقليدي قد رأت الظلمة بعد...كانت ظلمة الاستبداد و القهر و الحكم المطلق قد انتشرت في الآفاق، و بين أمواج تلك الظلمات تنسلّ خيوط شمس الغد المنتظر...هويمش من الحرية كان من المأمول أن يتسع و يمتد لا أن يشحب و يوأد... دخلنا المكتب المعد للغرض، كان الأستاذ المحامي في الانتظار... جلسنا... تبادلنا التحية... كنا في شوق على أن نسمع من الأخبار ما يتعذر على عائلاتنا تبليغه إيانا... كان الأستاذ يحوم حول الموضوع، يذكرنا بالقضاء و القدر و التوكل و بالصبر و المصابرة و الجهاد... كان يراوح مكانه رغم فصاحته التي عرف بها خطيبا في المساجد منذ سنوات خلت... قد يكون لاحظ بعض ما يطمئنه منا فأقدم: " إن كانت هناك إعدامات فأنتم الأربعة... النيابة العامة قد ذكرتكم في أكثر من مناسبة قي قرار ختم البحث..." أو هكذا قال... رجعنا إلى غرفة 17 في الجناح المضيق بالسجن المدني بالعاصمة... ....................................................................................................................................................... كانت آخر جلسات المحكمة قبل أن تخلو مع ضميرها "الطاهر" لتصدر ما سبق أن جفت صحفه...كانت جلسة "الإعذار".. و تداولنا على القفص اعتزازا و افتخارا و هجوما و تذكيرا: اعتزازا بالانتماء لحركة ربانية حملت على عاتقها إصلاح ما أفسده "حزب الدستور" في السياسة و الاقتصاد و الاجتماع و الدين معا، و افتخارا بتاريخ لم نهادن فيه طاغية و لم تكن في يوم من خدمه، و هجوما على المتواطئين و المتخاذلين و المتمعشين، و تذكيرا بما أعده الله للصالحين و المجاهدين من عباده و الطغاة و الجبابرة من عبيده.. وقف صاحبنا و قال: الشهادة أسمى المراتب التي يحدث بها المسلم نفسه لكن لم ينلها و لن ينالها أي كان.. و إن كانت لكم أحكام بالإعدام ستصدرونها فاللهمّ اجعلني منهم... اهتز الكثير لهذا الرجاء أو الطلب... تعودوا في هذا الموضع ان تستدر العواطف: عواطف الشفقة و الرحمة، بعد التنكر للماضي... أول من اهتز لهذا الدعاء ابن عم له.. و كل من لم يعرف هؤلاء الشباب الماثلين في القفص الذين درجوا في مدرسة أعدت لها دولة الحداثة كل ظروف الموت و الفناء فإذا بها تنبعث من جدبد رغم الداء و الأعداء.. ....................................................................................................................................................... و في السجن المدني ببرج الرومي، عشنا معا، اقتربنا من بعضنا أكثر فأكثر، لم تكن لقاءاتنا السابقة في أطر الحركة كافية لنخبر بعضنا بعضا.. هناك عشنا في غرفة واحدة طيلة الفترة التي قضاها في السجن.. صلابة في الحق تعلوها مسحة من الرفق و التلطف، تفهم لأوضاع إخوانه و دفع للأمام بالتي هي أحسن... لا يحبذ القطع مع من يخالفه الرأي بل حتى مع من يناقضه، كان و لا يزال يأمل أن يتسع البلد للجميع على اختلافهم و تنوع مرجعياتهم.. ....................................................................................................................................................... و لا بد للسجن أن يفعل فعله و إن كان في أكثر البلدان احتراما لحقوق السجين و كرامته، فما بالك إذا كان هذا السجن في بلد لا تتعدى هذه الحقوق كونها شعارات جوفاء تلوكها الألسن في المناسبات.. لم يغادر صاحبنا السجن إلا و قد بدأ داء السكري يتسلل إلى جسده... و لم تفلح المساعي الطبية في إيقاف زحف هذا الداء... و تمضي الأيام و مع ازدياد الأفاق السياسية اسودادا و انغلاقا يزداد المرض تفشيا و سيطرة على جسد منهك، أنهكته روح عالية ترنو إلى المعالي كما أنهكه ضمير حي يأبى الضيم و الخنوع... و وجد صاحبنا في حالة صحية يتعذر معها القيام بواجباته الحركية فابتعد كرها عن الصفوف الأمامية... وهو و إن وقع إيقافه في الحملة الإستئصالية الكبرى التي شنها النظام على التيار الإسلامي عموما و على حركة النهضة تحديدا فإنه لم يحاكم بل غادر مركز الإيقاف بعد أشهر معدودة.. و بقي الحنين إلى إخوة الطريق و رفاق الدرب... ....................................................................................................................................................... ها أنذا!!! امتلأت السجون بإخوانه و أحبابه.. والتفت حوله و رأى من واجبات إخوانه عليه ما لا يمكن له أن بجد مبررا في مرضه لعدم القيام به.. فنهض رغم المرض و رغم الجسد المنهك للقيام بما يستطيع... فكان الإيقاف من جديد... و كان السجن... كان هذا سنة 1995... صدر حكم في شأنه بالسجن ثمانية سنوات... و في مثل تلك الظروف وجد المرض فرصة للتمدد فالتحق به إخوانه: داء القلب و داء ارتفاع الضغط... و صبر الرجل.. لم يكن ير في مرضه مبررا للقعود و ما كان يقوم به غيره بالأمس أصبح الآن فرض عليه... و في نوفمبر 1999 يغادر السجن بعدما تجاوز نصف المدة، لا اعتبارا للمدة التي قضاها بل للأمراض التي يعاني منها و تزداد استفحالا مع الأيام.. ....................................................................................................................................................... إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام و كانت "الجلطة "الأولى بعد سنة و نيف من مغادرته السجن... و تمضي ألأيام... و يواصل صاحبنا طريقه... يرى إخوانه يمضون من حوله... هذا عبدالمجيد بن طاهر يمضي شهيدا بعد أشهر معدودة من إطلاق سراحه... و تتواتر أخبار الاستشهاد من وراء القضبان و داخل البلد... فهذا الحبيب الردادي و هذا الأخضر السديري و هذا عبدالوهاب بوصاع... و هذا الهاشمي المكي يمضون شهداء مقارعين الاستبداد... و هذا رفيق دربه أحمد البوعزيزي يصارع داء السرطان عافى الله منه القريب و البعيد... و تكون "الجلطة" الثانية في نوفمبر 2007... و ما حط الرجل الرحال... و كيف يحطها و إخوانه الذين شاركهم الأمل و الألم واقتسم معهم الحلو و المر بعضهم في غياهب السجون و بعضهم في غياهب الغربة... أيليق هذا برجل؟؟؟ ....................................................................................................................................................... و كان أمر الطبيب لا لبس فيه... إجراء عملية جراحية على القلب "تجسيرا" للشرايين التاجية.. نرجو أن تكلل هذه العملية بالنجاح... فيستأنف أخونا كدحه نحو ما يتوق إليه.... يجري أخونا عبدالكريم العباشي العملية بمصحة الأمان- ميتوافيل يوم الأربعاء 23 أفريل الجاري.... و هذا رقم هاتفه: 97670998 عند ابنه أسلم. ....................................................................................................................................................... علما بأن السيد عبدالكريم قد استدعي أواخر شهر مارس إلى مركز الأمن الوطني بوقطفة، و رغم عدم قانونية الاستدعاء، فأنه استجاب لهم و ذهب إليهم.. و رغم أن الحديث معه كان في حدود اللياقة فإن هذا الاستدعاء قد يكون أثر تأثيرا مباشرا على صحته و تفاقم مرضه... إذ أحس بعده باضطراب في دقات القلب و تسارع غير منتظم في وتيرتها مع ألم حاد يعاوده من حين لآخر... و كان ما كان من أمر حاسم للطبيب المعالج خصوصا بعد "الجلطتين".... ....................................................................................................................................................... عبدالكريم من مواليد السابع و العشرين من شهر أوت سنة 1947 ببلدة مكثر من ولاية سليانة، وقد استقر منذ سنة 1968 بمدينة منزل بورقيبة حيث كان يعمل بمخبر المستشفى الجامعي ، و من بنات المدينة تزوج.. كان ذلك سنة 1977 و له من الأبناء ثلاث رجال: محمد و أسلم و عثمان... للمواساة: أسلم العباشي: 0021697670998 جرجيس في 22 مارس 2008 عبدالله الزواري