الرائد الرسمي.. صدور تنقيح القانون المتعلق بمراكز الاصطياف وترفيه الأطفال    الرئيس الايراني.. دماء أطفال غزة ستغير النظام العالمي الراهن    "حماس" ترد على تصريحات نتنياهو حول "الاستسلام وإلقاء السلاح"    ماذا في لقاء وزير السياحة بوفد من المستثمرين من الكويت؟    القيروان: حجز حوالي 08 طن من السميد المدعم    تصفيات كأس العالم 2026.. الكشف عن طاقم تحكيم مباراة تونس وغينيا الإستوائية    6 علامات تشير إلى الشخص الغبي    هام/ مجلس وزاري مضيّق حول مشروع قانون يتعلق بعطل الأمومة والأبوة    البرمجة الفنية للدورة 58 من مهرجان قرطاج الدولي محور جلسة عمل    ذبح المواشي خارج المسالخ البلدية ممنوع منعًا باتًا بهذه الولاية    عاجل/ قتلى وجرحى من جنود الاحتلال في عمليتين نوعيتين نفّذتهما القسّام    اختفى منذ 1996: العثور على كهل داخل حفرة في منزل جاره!!    شوقي الطبيب يُعلّق اعتصامه بدار المحامي    وزير الفلاحة يفتتح واجهة ترويجية لزيت الزيتون    للسنة الثانية على التوالي..إدراج جامعة قابس ضمن تصنيف "تايمز" للجامعات الشابة في العالم    عاجل : مطار القاهرة يمنع هذه الفنانة من السفر الى دبي    دراسة : المبالغة بتناول الملح يزيد خطر الإصابة بسرطان المعدة    هل الوزن الزائد لدى الأطفال مرتبط بالهاتف و التلفزيون ؟    تونس تصنع أكثر من 3 آلاف دواء جنيس و46 دواء من البدائل الحيوية    قابس : اختتام الدورة الثانية لمهرجان ريم الحمروني    بن عروس: جلسة عمل بالولاية لمعالجة التداعيات الناتجة عن توقف أشغال إحداث المركب الثقافي برادس    العجز التجاري يتقلص بنسبة 23,5 بالمائة    تعرّف على أكبر حاجّة تونسية لهذا الموسم    عاجل/ السيطرة على حريق بمصنع طماطم في هذه الجهة    نبيل عمار يشارك في الاجتماع التحضيري للقمة العربية بالبحرين    الإعداد لتركيز نقاط بيع نموذجية للمواد الاستهلاكية المدعمة بكافة معتمديات ولاية تونس    منطقة سدّ نبهانة تلقت 17 ملميترا من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    أعوان أمن ملثمين و سيارة غير أمنية بدار المحامي : الداخلية توضح    تفاصيل القبض على تكفيري مفتش عنه في سليانة..    سوسة: تفكيك شبكة مختصّة في ترويج المخدّرات والاحتفاظ ب 03 أشخاص    الخميس القادم.. اضراب عام للمحامين ووقفة احتجاجية امام قصر العدالة    كل التفاصيل عن تذاكر الترجي و الاهلي المصري في مباراة السبت القادم    وادا تدعو إلى ''الإفراج الفوري'' عن مدير الوكالة التونسية لمكافحة المنشطات    كأس تونس: تحديد عدد تذاكر مواجهة نادي محيط قرقنة ومستقبل المرسى    فتح تحقيق ضد خلية تنشط في تهريب المخدرات على الحدود الغربية مالقصة ؟    مطار قرطاج: الإطاحة بوفاق إجرامي ينشط في تهريب المهاجرين الأفارقة    الرابطة الأولى: الكشف عن الموعد الجديد لدربي العاصمة    منحة استثنائية ب ''ثلاثة ملاين'' للنواب مجلس الشعب ...ما القصة ؟    أول امرأة تقاضي ''أسترازينيكا''...لقاحها جعلني معاقة    باجة: خلال مشادة كلامية يطعنه بسكين ويرديه قتيلا    في إطار تظاهرة ثقافية كبيرة ..«عاد الفينيقيون» فعادت الحياة للموقع الأثري بأوتيك    مدنين: انقطاع في توزيع الماء الصالح للشرب بهذه المناطق    تونس: 570 مليون دينار قيمة الطعام الذي يتم اهداره سنويّا    بادرة فريدة من نوعها في الإعدادية النموذجية علي طراد ... 15 تلميذا يكتبون رواية جماعية تصدرها دار خريّف    مبابي يحرز جائزة أفضل لاعب في البطولة الفرنسية    برشلونة يهزم ريال سوسيداد ويصعد للمركز الثاني في البطولة الإسبانية    أخبار المال والأعمال    مع الشروق ..صفعة جديدة لنتنياهو    الاحتفاظ بنفرين من أجل مساعدة في «الحرقة»    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    عشرات القتلى والجرحى جراء سقوط لوحة إعلانية ضخمة    نابل..تردي الوضعية البيئية بالبرج الأثري بقليبية ودعوات إلى تدخل السلط لتنظيفه وحمايته من الاعتداءات المتكرّرة    نور شيبة يهاجم برنامج عبد الرزاق الشابي: ''برنامج فاشل لن أحضر كضيف''    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المفكر المغربي أبو زيد المقرئ الإدريسي :الأخلاق ..قيود خلاقة لحرية الفرد
نشر في الفجر نيوز يوم 23 - 04 - 2008


المفكر المغربي أبو زيد الأدريسي
يؤكد الأستاذ والمفكر الإسلامي المغربي "المقرئ الإدريسي" أن مفهوم الحرية يختلف بين التصور الوضعي والشرعي، مشيرا إلى ثلاثة شروط حاسمة حتى لا تتحول إلى نوع من الاستبداد، وهي: الإخلاص، والبصيرة، والمثابرة.
ويعتبر الإدريسي أن الله خالق الحرية وهو الوحيد الذي له الحق في أن يصادرها متى شاء، موضحا أن الإساءة إلى الأديان باسم حرية التعبير هي من قبيل النفاق أو "الحرية الصليبية"؛ لكون صاحبها يكن احتراما عميقا للثقافات والأديان الأخرى، بينما يحرص على الإساءة إلى الإسلام وحضارة المسلمين.
وفي هذا الحوار يناقش المقرئ الإشكالات الكبرى للحرية وعلاقتها بالمسئولية الاجتماعية وحرية الاعتقاد وحرية الردة ومن له الحق في أن يضع القيد على الحرية، وشروط تنزيلها واقعا وممارسة داخل المجتمع الإسلامي وفي الحياة الفردية والتعامل مع الآخر.
مفهوم الحرية
* قضية الحرية من أهم القضايا في الفكر الإسلامي قديما وحديثا، بداية ما هي خصائص هذا المفهوم؟
- مفهوم الحرية تبلور في مسارين:
الأول: وهو ما يسميه محمد خاتمي: "مسار الالتزام"، وهو المرتبط بالرسائل السماوية ومبدأ العبودية لله عز وجل في إطار الاستخلاف والتسخير.
والمفهوم الثاني: وهو الذي طور مفهوم الحرية في اتجاه وضعي بشري دنيوي، متفلت من ضوابط المسار الأول، أو بتعبير أدق تبلور في مواجهة هذا المسار.
لكن الأزمة والمأزق التي يواجهها المسار الثاني المتفلت، بغض النظر عن المضامين اللاأخلاقية أو التدميرية الموجودة داخله، هو أن هذا المفهوم سرعان ما يصدم بواقع الحاجة البشرية إلى الانطلاق وبواقع الحاجة الاجتماعية إلى التقييد، فيشرع في وضع قيوده الخاصة به انطلاقا من العقل والتجربة والمواضعات البشرية، ناسيا أنه بلور ذاته في مواجهة مفهوم القيد الذي جاء به الشرع.
وهكذا يكون مفهوم الحرية في إطار الضوابط الشرعية على الأقل منسجما مع نفسه، بغض النظر عن جودة مضامينه وسلامتها من التناقض، وتعالي مصدرها الذي هو الوحي، فهو لا يتناقض مع نفسه؛ لأنه ينطلق من وضع قيد على الحرية، وهو القيد الذي ليس لأحد الحق في أن يضعه إلا المشرع سبحانه وتعالى.
فالحرية وفق هذا التصور حق مقدس وبعد فطري، وهي حيوية للإنسان مثل الأوكسجين، لكن الذي يضع قيدا للحرية هو خالق الحرية الذي خلق الإنسان.
وفي الاتجاه الأول الوضعي نشأ مفهوم الحرية المضاد للحرية الملتزمة بدعاوى الثورة على القيد، ثم سرعان ما بدأ يضع قيوده الوضعية بتبرير ضرورة منطق الأشياء وضرورة تلافي الاصطدام بالفوضى وتعدي الحرية على الحريات وتعدي الحدود على الحدود.
وعليه فللحرية مفهومان، الأول ينطلق من مفهوم القيد وهو منسجم معه، والثاني ينطلق ضد القيد ثم يضعه، ويبقى السؤال الحقيقي بين المفهومين، وهو: هل هناك حرية متفلتة وأخرى غير متفلتة؟
بل السؤال الحقيقي: من له الحق أن يضع القيد على الحرية؟ هل الإنسان الذي يشرع لأخيه الإنسان فيسقط في أحابيل "التأله" والاستصنام والاستعباد لأخيه الإنسان؟ أم الله عز وجل الذي خلق هذه الحرية، وهو الوحيد الذي له الحق في أن يصادرها أو أن يحد منها متى شاء؟
وإذا دخلنا بعد هذا التحليل الأولي في مضمون الحرية، فسنجد أن ضوابط الحرية المنبثقة من مبادئ الالتزام الديني هي ضوابط منسجمة مع الحاجات الإنسانية والفطرة الإنسانية ومع حدود الحرية وحدود التعدي من الجهة الأخرى، مع حفظ المصالح الحيوية للإنسان وهي: حفظ العقل والدين والنسل والمال والعرض، والحرية إنما يوضع لها حد عندما تصبح انفلاتا وتعديا.
ولنأخذ على سبيل التوضيح مستوى من مستويات هذه الحرية وهي حرية العقيدة، فالإسلام لا يضع قيدا على حرية العقيدة {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، بل إنه كثيرا ما نستشهد في سياق حديثنا عن هذا المستوى من الحرية بقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، ثم ننسى السياق الذي هو أعمق من {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} وهو: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، فالوصول إلى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} هو قمة الرشد الإنساني الذي لا يمارس وصاية على أحد، ولا يؤسس "محاكم تفتيش، ولا ينقب في ضمائر الناس أو يشق عن قلوبهم، كما جاء في الحديث النبوي: «أشققت عن قلبه؟!».
وبذلك، فالإسلام لا يضع حدودا لحرية العقيدة، ولكنه يسمح للمجتمع المسلم -الذي أغلبية أعضائه مسلمون بالاختيار والوعي- أن يضعوا ضوابط تحمي حرمة عقيدتهم ليمارسوا حياتهم وفق هذه العقيدة، ويبقى لمن هم في الهامش، أو الاستثناء أو الأقلية، الحق في أن يعتقدوا ما يشاءون دون أن يعتدوا على حرية وكرامة وهوية الأغلبية التي ارتضت العيش ضمن العقيدة الإسلامية، وهي عقيدة ليست مفصولة عن الدنيا والتشريع والنظام العام للحياة.
فإذا كان الأمر كما ذكرت في مجال العقيدة، أي أن الإسلام لا يضع ضوابط على الحرية إلا إذا تحولت حرية الاعتقاد إلى اعتداء على الآخرين، فكيف بما دون ذلك مثل حرية الفكر، التي يقول فيها القرآن: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48]، وحرية الاختيار وإبداء الرأي في المواقف السياسية، سواء في المعارضة والشورى والمشاركة، وكذا في حرية اختيار الشريك بالنسبة للبنت مثل الولد، بخلاف ما كانت عليه الجاهلية، إلى حرية التنقل {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100]، إلى غير ذلك من مستويات الحرية.
* لكن كيف يمكن وفق هذا الفهم مقاربة دعوات الحرية إلى الردة وعلاقتها بحرية الاعتقاد؟
- النقاش حول مفهوم الردة في هذا الزمان هو حديث عقيم؛ فنحن اليوم أمة معتدى على حرمتها ووجودها، ومعتدى عليها في حقها أن تنتمي بحرية إلى دينها، ونحن نتكلم في مقتضيات السلطة العليا.
فاليوم النقاش الذي يجب أن يكون هو حكم من يرتد على دين أمريكا، فأمريكا اليوم تقتل من يرتد عن دينها ولا يمنح الولاء لها، فالذي يجب أن يثار: من يملك حق الردة على أمريكا لتأتي لتعدمه؟ فكيف والحال هذه أن نتحدث عن مسلمين تعساء، يجب عليهم أن يدافعوا عن الحرية ليبقوا أحرارا في اعتقادهم؟!
وأظن أن الحديث عن حرية الردة هو مثل الحديث عن دار الحرب ودار السلم، أو أن نعرض على أوروبا الآن الجزية أو الحرب، وغيرها من القضايا التي كان طبيعيا الحديث عنها في وقت مجتمع السيادة، أما الآن ونحن في مجتمع الاستضعاف، فأعتبر أن مثل هذه النقاشات مضرة الآن، وإن كان هناك بعض الفقهاء الذين عمقوا النظر في الأمر وانتهوا إلى مفهوم منفتح لمفهوم الردة مثل آراء يوسف القرضاوي وسليم العوا وأحمد الريسوني، أي الحكم عليه بالقتل بسبب عدوانه على المسلمين، وحروب الردة إنما كانت نتيجة الاعتداء على سيادة الدولة والامتناع عن أوامرها.
الأخلاق والحرية
* هناك بعض الأقوال التي تقول إن الأخلاق قيد للحرية الفردية، فكيف نوفق بين الالتزام بالأخلاق والتمتع بالحرية الفردية؟
- لدي جوابان على السؤال، الأول: يتعلق بكلمة "قيد"، فهي ليست بالضرورة سلبية إلا إذا كنا نستبطن مفهوما فوضويا للحرية، فمن ينطلق من الفلسفة الفوضوية للحرية مثل الفلسفة الباكونية أو الأنارشية مثلا، يرى أن كلمة "قيد" أساسا كلمة سلبية، أما إذا تبنينا مفهوما منضبطا وملتزما للحرية ومسئولا، فإن السؤال ليس: هل القيد جيد أو سلبي؟ ولكن: أي نوع من القيد هو الجيد؟ وأي نوع من القيد هو الرديء؟
والجواب الثاني: يتعلق بتصورنا للقيد، وأوضحه بمثال تقريبي: فلتتصور ماء متدفقا في الأرض، إذا قيدته من جنباته أعطاك نهرا متدفقا، ولكن إذا لم تضع له سدا مضى من الجبل إلى السهل إلى البحر، فهو نهر دفاق مبارك، ولنفترض أن النهر تكلم وكان فوضوي الفكر، وطالب بإزالة الحدين الأيمن والأيسر، وقتها سيصبح مستنقعات تشيع منها الملاريا وأنواع البعوض والدمار، ولضاع الماء وضاع الخير الذي ينتج عن الماء، ولتحول إلى شر على الأراضي الفلاحية والمنشآت.
وبالتالي هل نتصور القيد بتصور النهر بجنباته أم كسد مانع؟ وحتى السد قد يصبح ضروريا في بعض الأوقات لتجميع الماء ليكون بحيرة للسقي والشرب وتوليد الكهرباء.
فإذا كانت الأخلاق تضع قيودا خلاقة على الحرية من أجل ألا تكون الحرية مدمرة للذات، فإننا لن نقف عند لفظة القيد ولا نأبه لها، وهو ما نفسره أيضا بوقوفنا أمام الإشارة الحمراء في طريق المرور، فأنت عندما تقف عند الإشارة الحمراء، ليس لأن هناك عقلية تقييدية قاهرة ومتسلطة تريد إجبارك على فرملة سيارتك لحظة انطلاقتك المنتشية بسرعة الاندفاع بسيارة مكشوفة وشعر متطاير وجو رومانسي، ولكن الإشارة الحمراء توقفك إنقاذا لك من الذين يأتون في الاتجاه المتقاطع، والذين لهم الحق في أولوية المرور، وهي تحميك أيضا من انطلاقتك الرعناء التي تنتج الصدام المفضي إلى الموت والمقبرة.
فالمشكلة أنه ليس أن نمارس القيد ولكن بأي معنى وفلسفة وبأية رؤية وخلف أي تصور نقف في مسألة التقييد أو عدم التقييد.
ولم توضع القوانين -سواء كانت بشرية أو إلهية- من أجل تقييد مجال الحركة، ولكن لئلا تتحول الحرية إلى أنانية متمركزة على الذات، ملغية للآخر، وهي الحرية التي لا تؤمن بأن الآخر يمثل حدا طبيعيا لحركتك ونفوذك وحقك.
والأخلاق بهذا المعنى هي التقييد النبيل للحرية؛ إذ يمكن أن يضع الإنسان نفسه في الجهة المقابلة كلما تحدث عن الحرية والانطلاق، لكي يرى كيف أنه سيطالب بالتوقف لكي تنطلق حريته هو وتتحقق ذاته ومصالحه أيضا.
فالإسلام يضع ضوابط أخلاقية لتصرفات الإنسان، ومن أقواها الضوابط الجنسية، التي وضعها في وجه الفلتان الغريزي الذي هو شهوة كل الناس بتصريح القرآن الكريم بهذه الحقيقة الفطرية: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]، وجاء التعبير بالنساء وليس بامرأة واحدة، ولكن هل يستطيع شخص من دعاة الإباحية والتفلت باسم الحرية الجنسية والحق في التصرف في الجسد أن يكذب على نفسه إلى ما لا نهاية في أن الاستجابة إلى شهوته ليست مؤذية وليست مضرة بحجة الاختيار والحرية والاعتداء على المجتمع وعلى سلامة الأعراض والأنساب وتماسك الأسرة وتهديد العالم بالسيدا وباقي الأمراض الجنسية؟!
وبعد هذه التجربة من تاريخ الإنسانية لا يستطيع الإنسان إلا أن يعلم أن للحرية منطقا داخليا ويجب الاستجابة له، وهو المنطق الذي يجعل الحرية مسئولة ومنضبطة، ولكن الحديث يعود بنا إلى أهمية الإيمان بالوحي والتسليم بوجود الله عز وجل وجدوى الحاجة إلى التشريع من خارج الذات الإنسانية والعقل الإنساني وعدم "تأليه" الإنسان والعقل تبعا للتجارب الإنسانية الحديثة التي أوصلت البشرية إلى ما وصلت إليه من دمار.
وفي هذا تحضرني شهادة "روجي جارودي" الذي يقول دائما إن الفرق بين المجتمع الكارثة والمجتمع الإنسان هو الإيمان أن الإنسان لا يقوم وحده، بل هو محتاج إلى الله لكي يشرع له الضوابط والحدود، ولكي يرسم له البوصلة التي توجهه نحو طاقة الخلق والإبداع، وتقيه الدمار والاندحار.
* هذا يعني أن الحرية مرتبطة في التصور الإسلامي بالمسئولية الاجتماعية، كيف نوفق بين حرية الأفراد والمسئولية الاجتماعية داخل الجماعة؟
- الإسلام هو الدين الوحيد الذي وضع توليفة ناجحة بين الأشياء التي تبدو متناقضة في التوجهات المتطرفة ذات اليمين وذات الشمال؛ لأنه دين الوسط والوسطية، بالإضافة إلى معنى التوسط بين طرفين ذميمين، وهو القدرة على جمع إيجابيات الطرفين الذميمين وطرح سلبياتهما، وفي هذا الإطار فمفهوم الإلهية في الإسلام لا ينفي مفهوم الإنسانية، فحق الله في التشريع وواجب الخضوع له وطاعته لا يلغي انطلاق العقل الإنساني والوجدان الإنساني في مجالات الإبداع، وبذلك فالنقل كمرجعية عليا لا ينفي العقل كممارسة حية وحيوية، والحرية لا تتناقض مع المسئولية الاجتماعية، وبالتالي يستطيع الإنسان ممارسة حريته في إطار الالتزام الاجتماعي.
ولنوضح القول بمثال الجنس الذي يتكئ عليه دعاة الإباحية للتعبير عن الحرية، فالإنسان يمارس حريته الجنسية على مستوى اختيار الشريكة وعلى مستوى الوضع التعاقدي وعلى مستوى اختيار الوقت الذي يريد الاستمتاع فيه، لكنه من جهة أخرى يلتزم أن يكون هذا الاستمتاع في إطار الضوابط الشرعية وبعقد شرعي، والتزام بالمسئولية المترتبة على هذا الاستمتاع من ولد ونفقة وانضباط اجتماعي وخضوع لمؤسسة الدولة الإسلامية التي تمثل فيها العدالة الرقيب على سلوكيات الأفراد والمؤطر لفض خلافاتهم.
ويقاس على هذا المثال حقوق التملك والاستثمار وحب المال وحرية التعبير وحرية الاختلاف والتنقل، وكل ذلك يؤطر بالالتزام الاجتماعي النابع من العقيدة الإسلامية، والمبني على مفهوم التكافل والتراحم والمنفعة المتبادلة والتعايش: {الناس عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله}.
الحرية في التطبيق
عبدلاوي لخلافة يحاور الأدريسي

* بهذا التوضيح يبقى هامش الحرية متسعا أو مطلقا نظريا على الأقل، ولكن مجال التطبيق تعترضه مجموعة من الإشكالات في التنزيل، كيف يمكن تطبيق المفهوم بشسوعته في واقع الممارسة البشرية؟
- هنا ندخل في تشابكات معقدة حقيقة؛ لأن التطبيق يتناول ما هو يومي وتنزيلي وجزئي، وكما يقول المثل الأجنبي "الشيطان يكمن في التفاصيل"، فعادة ما يتفق الناس في معاملة تجارية أو ثقافية أو سياسية أو دبلوماسية على مبدأ ما، ويضمر كل واحد منهم أن يغش وينتكس وينكص على عقبيه في التفاصيل، فهنا نحتاج إلى حسن النية وحسن الفهم وحسن المصابرة وليس الصبر.
وأشرح هذه الثلاثية وأقول: فحسن النية يفرض ألا نضمر شرا بالحرية أو سوءا بها، وأن نسعى كسلطة مستبدة، سواء كان الواحد منا أبا أو مديرا أو رئيسا أو حاكما دكتاتوريا، أو أي صاحب سلطة عليا، أن نتربص بالحرية ونرفع شعارا مخادعا بها، ثم نأتي إلى ضرورة تقييدها منطقيا ونبدأ من خلالها في اغتيال الحرية، فالأعمال بالنيات، ولذا يجب أن نؤمن بأن الذي يقيد الحرية هو رب الحرية الذي خلقها، وهو الذي خلق الإنسان الذي بدونها لا يعيش، وبالتالي يجب أن نكون أوفياء للمنطق الإلهي في تقييد الحرية؛ حيث الحرية مبجلة وموقرة وهذا هو الأصل، أما تقييدها فهو الاستثناء بما لا يقلبها فتصبح تدميرا للذات واعتداء على الآخر.
والثاني هو حسن الفهم وهو أن فهمك لطبيعة التشريعات السماوية وعدم إضافة القيود التي جاءت بها التقاليد والتأويلات الضيقة للنصوص والتمسك بالفقه المغلق وبثقافة عصر الانحطاط ومواريث الشعوب الأخرى، يجعلك قويا بأن تكون "سلفيا" بالمفهوم الثوري للسلفية، أي أن ترتبط بالنص وبجوهره التحريري للإنسان، وتنطلق في رحابة النص وأفقه الرحب، وأن تتمرد كما يتمرد البركان على كل ما حوله، دون أن تقحم على النص باسمه ما ليس منه، وهي التقاليد التي جاء القرآن الكريم ليضعها عنا: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].
ولذلك كثير من الناس يتوفر عندهم العنصر الأول وهو "حسن النية" والإيمان بالحرية، لكنهم يعتقدون بكل حسن نية أن القيود التي يضيفونها من عندهم ومن عقليتهم وتقاليدهم هي قيود من صميم الدين، مثل حرية المرأة وحركتها داخل المجتمع المسلم؛ إذ نجد أن المسلمين أضفوا لها قيودا في لباسها وحركتها وفي علاقتها بالرجل، ظنا منهم أنها من الدين، وإنما هي من عصر الانحطاط وما دخل على المسلمين من ثقافة الروم والفرس والهنود وغيرهم، وانتهينا مع الإيمان بالحرية إلى نقيض ممارستها في حق المرأة وفي حق أنفسنا أيضا؛ لأن العلاقة المقيدة بين الرجل والمرأة ليست مقيدة للمرأة فقط بل هي تقييد أيضا للرجل وعدوان على الأسرة والمجتمع، وبالتالي فنحن نحتاج إلى ثورة حقيقية على سلطان الاستبداد في النفوس إيمانا بالحرية.
والشرط الثاني: ثورة حقيقية على مستوى الفهم وفاء بالنص والتصاقا بحدوده بدون زيادة، وسيدنا عمر رضي الله عنه كان وفيا للنص عندما شرب رجل الخمر، وهو مستهجن في مجتمع نظيف مثل مجتمع الصحابة، فعزره الوالي ثم سود وجهه بالفحم، وبلغ الأمر عمر، فدعا رضي الله عنه الرجل والوالي، وأعطى للرجل السكير الحق في أن يسود وجه الوالي بالفحم؛ لأن الوالي زاد من عنده بالإضافة إلى أربعين جلدة، رغم أن التعزير مسألة اجتهادية ويمكن للوالي التخفيف فيها، لكن سيدنا عمر رأى أن هذا التزيد سوف يؤدي إلى اعتداء وظلم.
والعنصر الثالث: هو المصابرة على الحرية، ومعناه أن نرابط في وجه التفاصيل اليومية التي يكمن فيها الشيطان لكي لا تتسرب علينا في لحظة من اللحظات، فنبدأ في التقييد والدخول في منطق سد الذرائع والأحوطية والتحوط الزائد، ويحصل بذلك تراكم بطيء لا ينتبه إليه، مثل زاوية الانحراف التي تكون صغيرة ثم ما تفتأ أن تتسع، وبنظرة على القرون نجد أنفسنا قد ابتعدنا عن منطلقنا في الحرية.
وعلينا أن نجدد التوبة بالمعنى الفكري ونعيد في كل يوم الالتصاق بالنص ونفض الغبار عنه، ونتهم عقولنا وقلوبنا وفهمنا ونظرنا للأمور، ونذكر قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198]، فقد ننظر ولا نبصر، لكي لا يكبر خط الانحراف، وننتهي إلى نقيض الحرية باسم الحرية.
وأذكر هنا بالمناسبة رواية الأديب البريطاني الشهير "جورج أورويل"، وقد كان شيوعيا وثار عليها، وألف روايته: "مزرعة الحيوانات" التي تحولت إلى رسوم متحركة للكبار، حيث تحدث فيها عن مسار الشيوعية من الثورة إلى الديكتاتورية، وفي لحظة من اللحظات عندما انقلبت "الخنازير" على الثورة التي قادها الحمير والدجاج والمستضعفون وامتلكوهم، جاءوا إلى أول شعار سطر بالدم إثر الثورة على السكير صاحب الضيعة، وكتبوا: "كل الحيوانات متساوية"، وبعد انقلاب الخنازير على الثورة من الداخل (في إشارة إلى النظام الروسي والصيني)، جاءوا وأضافوا تحت الشعار السابق عبارة: "ولكن بعض الحيوانات أكثر تساويا من غيرها".
فدائما المشكلة في "لكن" والاستدراك والاستثناء، أي فيما بعد المبدأ العام، فعلينا إذن أن نحرص على هذه الثلاثية: الإخلاص (حسن النية)، والبصيرة (حسن الفهم)، والمصابرة (المرابطة على خط التفاصيل لكي لا ينتقض علينا مبدؤنا)؛ لأن الشيطان يفسد على الإنسان عمله في وسطه وليس في بدايته فقط.
إشكالات في الطريق
* من وجهة نظركم الفكرية، ما هي أهم القضايا والإشكالات الكبرى التي لها الأولوية في هذه المرابطة؟
- هي كل القضايا ذات الصلة بدوائر الحرية، وهي حرية الاعتقاد والتعبير والكسب والتملك وحرية الحركة والتنقل، وحرية الاختيار في العمل والزواج؛ إذ يجب تسريب هذه الحرية إلى مناهجنا التربوية وطريقة تربية أبنائنا لئلا ينشأ مجتمع من العبيد، وأن يكون أمر حرية التعبير السياسي مقدسا؛ لأنه هو الواقي الأمامي، فعندما نستطيع أن ننتقد ونعترض فإننا نمنع الحاكم من الطغيان الذي تنتكس معه الحريات الأخرى؛ لأن طغيانه وسكوتنا عن الحرية السياسية يتسبب في إتيان الدور على الحرية الأخلاقية والاجتماعية والتشريعية ويتم وأدها والعودة إلى محاكم التفتيش بأشكال أخرى.
فالحريات الأخرى أساسية رغم أن حرية التعبير هي الأولى في الممارسة، باعتبارها الحركة التي تقي هذه الحريات من الانتكاسة، ونحن نذكر أن الانتكاسة التي ظهرت بعد فترة الخلافة الراشدة والانتقال إلى حكم الوراثة والملك العضوض كان السبب الرئيسي فيها هو انتقاد عروة السياسة والحكم واغتصاب الشورى من المسلمين.
وفي هذا الإطار فمفهوم الشورى في الإسلام هو تقنين لحماية حرية التعبير وسعي لوضع الضوابط المؤسسية من أجل أن يصبح هذا الحق ممارسة يومية، فالله تعالى تكلم عن الشورى مرتين: الأولى في سياق الأمر: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، ومرة في سياق الوصف: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى:38]، فعطفت الشورى على الصلاة، وعرف بذلك أن المجتمع المسلم لا يكون إسلاميا بدون صلاة، ولا يكون إسلاميا بدون شورى، وفي هذا الإطار يجب على المسلمين أن يعرفوا أن الحق في الحرية مقدم على الحق في الانتماء، وإذا لم نؤمن بحق الإنسان في الاعتقاد لا يمكن أن نؤمن بحق المسلم في الاعتقاد.
وهذا فهم استباقي ووقائي ضد الاستبداد، لنطرده بعيدا وننهره عن حياض الحرية لكي لا يقترب منها فيرعى حول حماها فيوشك أن يقع فيها.
* في الآونة الأخيرة تم عرض فيلم "فتنة" باسم حرية التعبير، كيف يمكن للآخر أن يقول ما يريد باسم حق التعبير وهو يسيء إلى الأديان الأخرى؟
- عمق الحرية في أن تكون منطلقا للبناء لا للهدم، أي لبناء الذات وليس لتدمير الآخرين، فلا معنى لحرية التعبير فيما يمارس ضدنا من إساءات، لا في الفيلم الهولندي ولا في الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية ولا في الكتابات الاستشراقية ولا في التصريحات السياسية مثل تصريحات "برلسكوني" فور وصوله للسلطة وحديثه عن "جيش الشر" الذي يقصد به المسلمين في إيطاليا.
لا معنى هنا للحرية أو الحق في التعبير من جهتين، لكل واحدة منهما وجهة وازنة: الأولى: أن الحرية تمارس في اتجاه البناء وتفجير الطاقات الإبداعية ومع الآخر وليس ضده.
والوجه الثاني: وهو أن هؤلاء "المنافقين" الذين يتشبثون بحرية التعبير عندما يعتدون على حرمات المسلمين ويستفزونهم، هم أعجز الناس أن يمارسوا هذه الحرية ضد الديانة اليهودية وضد الشعب اليهودي أو ضد الديانة المسيحية أو الشعب المسيحي، بل هم يعبرون عن احترام عميق للبوذية والطاوية والكونفشيوسية وغيرها من التوجهات الاجتماعية والدينية الموجودة في عالمنا اليوم.
وشخصيا لا أفهم كيف يقرن الأوروبي الذي بلور مفهوم التسامح والتعايش وحوار الأديان وحوار الحضارات ووضع الضوابط المنطقية لحرية التعبير، كيف يوفق بين هذا الاحترام العميق للآخرين أو الخوف باسم الاحترام وما يقوم به البعض من إساءة بوقاحة وبجاحة في حق المسلمين؟!
وأذكر هنا قصة وقعت لي ببرلين بألمانيا أخيرا؛ حيث لقيت شابا وسيما دون الثلاثين يعمل صيدليا ناجحا وهو متزوج من فتاة مغربية محجبة، كتب اسم محله في قلب برلين بالعربية "صيدلية الفجر"، وأثناء نقاشي معه سألته كيف أسلم؟ فقال: الذي دفعني للتفكير في الإسلام هو أني عندما كنت طالبا في الثانوي، كنا ندرس مادة الثقافة العامة التي ندرس فيها الأديان والثقافات الأخرى، لاحظت أن الأستاذ والمقرر والجو العام للتدريس يتكلم عن الآخر بمنطق احترام عميق، فإذا وصل الأمر إلى الإسلام انقلب الأمر إلى عدوانية واتهام، كأن هناك خوفا علينا من الإسلام وسعيا لتحصيننا ضده وإغلاق مسامعنا وعيوننا عنه بشتمه والتشنيع عليه، فقلت: لماذا هذا الاستثناء؟ ولماذا يفقد الأستاذ خلقه وتسامحه وهدوءه عندما ينتقل من أي دين أو ثقافة أو حضارة إلى الحديث عن الإسلام أو عن حضارة المسلمين؟ وهنا بدأت رحلتي فبحثت عن الإسلام وأسلمت وأنا طالب في كلية الصيدلة، أي منذ سنوات.
فبعض الغربيين لديهم عقدة تجاه الإسلام، ويمكن أن أسميها "العقدة الصليبية"، وهي ليست نسبة فقط إلى الحروب الصليبية، التي كانت في القرن السادس الهجري، وإنما نسبة إلى الاصطدام الأول مع مجيء الإسلام وتسفيهه لتأليه المسيح عليه السلام ونكران صلبه، حيث يضرب الإسلام في العمق مقدسين حساسين في عقل الإنسان المسيحي، وهما: ألوهية المسيح، وعبادة الصليب، مرورا باجتياح بلاد الشام وطرد الرومان منها ووصولا إلى اكتساح العثمانيين لأوروبا، وهي عقدة مستحكمة تتفجر بشكل مرضي في مظاهر عديدة، وإحدى هذه التعبيرات الاعتداء الذي يحاولون تغطيته باسم حرية التعبير مثل تغطية الشمس بالغربال، وهو ما لا يسعفهم.
* بعد أن قدمت شروطا وتجليات لممارسة الحرية، كيف يمكن لأي فرد أن يمارسها في واقعه الخاص بدون استحضار أبعادها النظرية؟
- يا أخي، لا أجد لك ضالة فيما تريد أو ضابطا للحرية مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم ما يظهر بأنه بعيد عن الموضوع، لكنه يصب في عمقه: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}، فجوهر الحرية والقاعدة التربوية التي قرأناها في كتاب "التلاوة" خلال المستوى الابتدائي الأول "التحضيري بالمغرب"، يتجلى في الشراكة في الحرية "واحد يقسم والثاني يختار"، أما "أنا أقسم وأنا أختار" فهو الاستبداد بعينه.
ومضمون القصة أن امرأة لها ولدان متنافسان جاءت لهما بتفاحة وطلبت منهما تقاسمها بينهما، فأسرع الولد الكبير المهيمن -تنفيذا لحريته في الاختيار- إلى السكين وأراد القسمة، لكن الأم قالت بذكاء: "أحدكما يقسم والثاني يختار"، فأصبح الذي كلف بالقسمة يقيس بدقة متناهية نصفي التفاحة؛ لأنه يعلم أنه إذا انحرف عن القسمة العادلة فسيختار أخوه النصف الأكبر.
والقصة تؤكد أنه لا يجب أن تمارس من الحرية إلا ما تسمح للآخرين بممارسته، ومن يريد باسم الحرية أن يخالل الفتيات فليذكر حق الآخرين في مخاللة أخواته وعماته وبناته، وعند ذلك سيعرف حدود الحرية، ومن يريد أن يمارس باسم الحرية في التجارة الخديعة والتغرير بالناس باسم الذكاء و"الفهلوة"، فليذكر حق الناس أن يفعلوا به مثل ذلك، وخاصة إن كانوا أكثر خبرة منه في التلاعب الاقتصادي والمالي.
وثاني وصية هي قوله تعالى: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14، 15]، فيجب على الإنسان أن يعرف حدوده، ويعرف أين تنتهي، ومتى يبدأ في الاعتداء على حريات الآخرين، وعلى حرمات النصوص ومقدسات العقائد، ومتى يكون تعبيره تجاه الآخر انتقادا أو استفزازا، وعدم مغالطة النفس {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54].
فإذا وقف الإنسان أمام المرآة ونظر إلى نفسه ببصيرة فإنه وبدون شك سيعرف بصدق وبحق أين يقف؛ لأن تقنين القوانين ضروري، ولكنه ليس كافيا، والتأطير بالتنظير الفكري ليس كافيا أيضا، فلا يدخل بين السجين وسجانه وبين المرء وزوجه في البيئات المغلقة لا قانون ولا تنظير، وإنما تدخل الأخلاق التي تردعه في أعماق أعماقه وتذكره بالرقابة الإلهية على انتهاك حدود الآخرين أو تأويلها بمسوغ غير مسوغها الحقيقي باسم المصلحة العامة والحق المقدس أو الاستثناء الضروري، باسم الحرية والكرامة أو الحاجة.
--------------------------------------------------------------------------------
صحفي مغربي.

إسلام أون لاين.نت
الأربعاء. أبريل. 23, 2008


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.