الهجرة لغة الخروج من أرض إلى أخرى؛ يقال هجرت الشيء أي تركته وتخليت عنه { وقال الرسول يا رب إن هؤلاء القوم اتخذوا هذا القرآن مهجورا}. وقد وردت الهجرة في القرآن الكريم في أكثر من عشرين موضعا بمعاني متعددة نكتفي هنا بذكر بعضها: · هجرة الشرك والكفر إلى الإسلام: { واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا} · هجرة الذنوب: { والرجز فاهجر} · الهجرة من دار الكفر إلى ديار الإسلام: { ومن يخرج من بيته مهاجرا ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} · الهجرة بمعنى الجهاد والتضحية والبذل: { فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم } · الهجرة مقام من مقامات الإيمان: { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}
أما اصطلاحا، فيمكن إجمال معنى الهجرة في معنيين: الأول هو الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان، والثاني ترك الذنوب والمعاصي. وتبقى الهجرة الحقيقية المتجددة في حياة كل مسلم هي الهجرة إلى الله ورسوله، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، والفرار إليهما. طبعا تختلف الهجرة باختلاف نيات الأشخاص ، فهناك من هجرته هجرة إلى الله ورسوله كما في الحديث الشريف (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) ومن كانت هجرته كمهاجر أم قيس فلم يتجاوز بعد المعنى اللغوي للهجرة كما في الحديث (من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) تحقيرا وتنقيصا لهذا النوع من الهجرة.
لما استبد البطش والظلم بأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم وقتئذ قلة مستضعفة في مكة هاجروا بلدهم الحبيب مكة إلى الحبشة حيث النجاشي فكانت أول هجرة في الإسلام. لما اشتد التعذيب استأذن الصحابة الكرام رسول الله للخروج من مكة فأذن لهم بالهجرة إلى يثرب (المدينةالمنورة) فهاجروا بدينهم الغالي واستقبلهم الأنصار ثم آووهم. بعد ذلك هاجر عليه الصلاة والسلام مع الصديق أبو بكر رضي الله تعالى عنه حيث استقبلا من طرف المهاجرين والأنصار بالشوق والتكبير والفرح: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ... كانت هذه الهجرة المباركة إيذانا بانطلاق التاريخ الهجري المشرق على البشرية وكانت بحق مرحلة مهمة في تاريخ الدعوة الإسلامية التي انتقلت من مرحلة الضعف والاضطهاد إلى مرحلة التمكين والانتشار بفضل الله والمهاجرين ومعهم الأنصار الذين تحملوا كل ألوان العذاب وهاجروا ديارهم وأموالهم وأهلهم في سبيل نصرة دين الله.
الهجرة بالمعنى الأول (من مكة إلى المدينة) انقطعت، لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية. ولكن الهجرة في معناها الثاني (هجر الذنوب والهجرة إلى الله) باقية ومتجددة حيث يهجر المسلم ذنوبه ومعاصيه ولامبالاته إلى الإسلام الحق والتوبة الصادقة. يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم وأبو داود:" لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها." فهل نحن مهاجرون حقا؟ وأية هجرة هي هجرتنا: أهي هجرة الدنيا إلى الله؟ أم هجرة إلى الدنيا كمهاجر أم قيس؟ أم هجرة المهاجرين السريين؟
إذا علمنا أن الهدف الذي من أجله خلقنا الله هو معرفته وعبادته، فإن ذلك يتحقق بالحد الأدنى من التضحية والهجرة إلى الله هجرة صادقة. لا نفهم من هذا أن المطلوب هو الانقطاع الكلي عن الدنيا للآخرة وترك الكسب الحلال، فالزهادة في الدنيا كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي ليست بتحريم الحلال وإضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله.
لنا في هذا الحدث العظيم دروس جليلة وعظات بليغة:
1- الهجرة قبل الفتح من مكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة كانت واجبة على المسلمين وجوب نصرة الأنصار لهم، كل ذلك نصرة لدين الله وتمكينا لسنة رسول الله. الآن الهجرة والنصرة لا تتطلبان الانتقال من مكان إلى آخر، بل تقتضيان هجر البيئة الفاسدة والهجرة إلى صف المؤمنين ونصرتهم. فبالكينونة مع المؤمنين يحصل المراد { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} 2- الهجرة ليست مجرد حدث تاريخي انتهى منذ أمد بعيد، بل هي مفهوم متجدد نتأسى من خلاله بالحبيب المصطفى مع صحابته الكرام الذين سبقوا { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} 3- رجاء الآخرة: الدنيا مجرد وسيلة ومزرعة للآخرة. لو كانت الدنيا تساوي شيئا عند الله لما سقى الكافر شربة ماء. { وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا} { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}
لله ذر القائل: ومن يذق الدنيا فإني طعمتها *** وسيق إلينا عذبها وعذابها فلم أرها إلا غرورا وباطلا *** كما لاح في ظهر الفلاة سرابها وما هي إلا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها
كل عام ونحن أقرب إلى الله أبعد من الشيطان. كل عام وغزة العزيزة أكثر عزا. لله الأمر من قبل ومن بعد.