قد يكون المشهدُ العربي اليوم هو في حالة من التردي والضعف غير مسبوقة رغم ما مرت به بلداننا من مراحل ضعف وانحطاط وتخلف وتداين خارجي كانت مقدمات للإستعمار... غير أنها لم تفقد يومها مقومات وحدتها الداخلية ولم تكن قد أصيبت بما تعانيه اليوم من بدايات تقطع الوشائج الداخلية ومن تصدعات بين مختلف الأقطار أو داخل كل قطر تلك التصدعات يُخشى أن تتسع مستقبلا لتفتح مداخل لتسرب المزيد من المؤامرات الخارجية. يلحظ الناسُ أن حالة التصدع تلك أصبحت قاسما مشتركا بين أقطار عربية عدة من مثل السودان والعراق ولبنان واليمن والصومال وبين الفلسطينين وهم في غير دولة، وثمة محاولات أخرى ظاهرة وخفية لتنشيط النعرات الطائفية والعرقية والدينية في أوطان أخرى مازالت تحافظ على مقومات توحدها من مثل الجزائر والمغرب ومصر والبحرين، أما البلدان التي تتمتع داخليا بتجانس ثقافي وعقدي واستقرار سياسي قد تثارفيها مشاكل ذات طبيعة أخرى... الإستراتيجية الجديدة في هذه المؤامرات أنها لا تدفع أثمانا لتحقيق أهدافها إنما تحرص على أن يكون ضحاياها هم مجال التآمر وهم من يدفعون الأثمان حين يموج بعضٌ في بعض وحين تتحول المجهودات الوطنية من مجهودات للتنمية ولتحصين السيادة إلى مجهودات للتغالب الداخلي. الهزائم تبدأ من هزيمة الذات، هزيمة الإرادة والوعي والأمل، وإن الحرب التي تدار ضدنا اليوم ليست مجرد حرب عسكرية أو اقتصادية فحسب ولكنها موجهة بالأساس إلى منبتنا الحضاري وعمق ذاتنا واتقاد وعينا وتوهج إرادتنا وأملنا،إنها حرب شاملة ممنهجة ومنظمة ومرتبة ولا بد أن تكون «المواجهة» معها منظمة أيضا وممنهجة وشاملة. وليس معنى هذا الدخول في صدام حضاري مع الآخر وإنما بمعنى الإستنفار الحضاري للقدرة على التفاعل مع الوافد تفاعلا مخصبا وحافظا لملامح هويتنا دون عقد أو خوف من هذا التفاعل، فثراء حضارتنا يؤهلها للانشراح على الحضارات الأخرى وعلى الإبداعات الإنسانية ولا تخرج من كل تواصل إلا أكثر ثراء وقوة واندفاعا، هذه الحضارة التي تدفّق نبعُ بداياتها في صحراء الجزيرة القاحلة لم تنطو على ذاتها وإنما تجرأت بكل ثقة ووعي واقتدار على الإنشراح إلى تنظيمات وفنون وفلسفات أمم أخرى من رومان وفرس وصينيين لتصهر هذه الإبداعات على اختلاف مصادرها في رؤية متناسقة متجددة تخاطب «الإنسان» غاية وأداة في رحلة إبداع المعاني وصنع الحياة. على مثقفي أمتنا التجند ل»مواجهة» حملة «الإبادة» التي تتهددنا وجودا ومصيرا، مبنى ومعنى... وإذا كنا فعلا متخلفين تقنيا واقتصاديا وعسكريا فإنه ليس قدرا محتوما أن تكتب علينا الغلبة والمذلة إلى الأبد فللتاريخ قوانينه وللحضارات آلياتها وللريادة شروطها وللسقوط أسبابه وهنا نسأل سؤالا محوريا: هل فقدت أمتنا كل عوامل البقاء والحياة والتحرر؟ ولا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا ضمن رؤية مستقبلية ووعي بحركة التاريخ وفهم للظواهر العالمية لا على مستوى النظم السياسية فقط وإنما أساسا على مستوى الفكر والعقائد وحركات الشوارع . التاريخ أشبه ما يكون بمختبر تجارب تتفاعل فيه الوقائع والأحداث لتنتهي إلى نتائج ،وكما في الظواهر الطبيعية يمكننا أيضا في الظواهر الإجتماعية والتاريخية ربط النتائج بالأسباب. وإذا لم ننظر في واقعنا نظرة عميقة تنفذ إلى جذور مأساتنا وتقف على أسباب ضعفنا وانحلالنا فسنظل يتامى الحضارة والتاريخ نبكي على الأطلال ونلعن من شردنا ونتمنى على الله الأماني ومن تحتنا أرض تضيق وتضيق... ومن فوقنا سماء يمزقها شواظ من نار. يسألنا الغزاة : لماذا تكرهوننا؟ ونسألهم :لماذا تحتقروننا؟ ويجيبوننا قبل أن نجيبهم. يزعمون بأننا لم نرق بعد إلى منزلة «الإنسان» لكوننا مازلنا لا نحترم هذا الكائن الذي تقدسه كل الشرائع والدساتير،مازلنا لا نلتزم القانون ولا نحترم العقل ولا نجد الفارق بين الإختلاف والإقتتال إلا في سوء الظن.مازلنا نصنع المجرمين ثم نعاقبهم ولا نجد حرجا في لعن المبدعين أحياء وتكريمهم إذا ماتوا وعيا وحسرة. مازلنا نقدس رموزا من الأحياء والأموات نقدم إليهم القرابين ونشيد لهم التماثيل في الساحات العامة وعلى الأعناق وفي العقول والأرواح،مازلنا نردد أسطورة القائد الملهم والزعيم الأوحد والعالم العلامة والملك المعظم... ونمزح حليب الأمهات بسائل الخنوع والتردد والعجز... مازلنا نخضع لأدمغة مركزية تنتج المعارف والفتاوى والفنون والقوانين وحتى الكذب المعلب المعد للتصدير والمنافسة في الأسواق العالمية. يقول الغزاة بأن مأساتنا تكمن في تصلب شراييننا السياسية وفي قرحة الثقافة وتخثر الأوعية الإقتصادية واضطراب الخطاب الديني وعسر هضم المختلف. يقترحون علينا وصفة معقدة للعلاج الداخلي تحت عنوان «الحرية» غير أنهم لا يرون فينا تأهلا ذاتيا للتجاوب مع هذا الدواء فيرجئون العلاج إلى أجله. ثم يقدمون وصفة واضحة وصريحة للعلاج الخارجي وتدعو إلى الإسترخاء التام وتسليم كل الأعضاء للتدليك والتفكيك لإزالة النتوءات والتورم العضلي وتجاعيد الوجوه الغاضبة بهدف إعادة تشكيل خارطة الجسد العربي الإسلامي وفق مقاييس جمالية مستساغة دوليا وقابلة للتعديل المستمر. لماذا يقول الغزاة بأننا لسنا مؤهلين للعلاج داخليا بوصفة «الحرية؟ يزعمون كوننا لا نحسن التعاطي معها فقد نستعملها في غير مواضعها وفي غير أوقاتها وقد نبالغ في تعاطيها فتتحول إلى إدمان، ويزعمون بأننا مازلنا لا نفرق بين الحرية والفوضى بين الإختلاف والإقتتال بين التعبير والتشهير... ولذلك لابد يقولون من أن يكون العلاج سريريا وتحت عناية مركزة. لماذا يلعن المنهزمون المنتصرين دائما؟ لماذا يلعن المغلوب غالبه؟ أليس الضعفاء هم دائما سبب الحروب إذ يُغرون الأقوياء بالإعتداء عليهم؟ هل من جدوى في لعن الظلمة ألف مرة دون عزم على إضاءة شمعة واحدة ؟ *كاتب وشاعر تونسي الصباح التونسية