"سينما تدور": اطلاق أول تجربة للسينما المتجولة في تونس    الفضيلة    لعبة الإبداع والإبتكار في كتاب «العاهر» لفرج الحوار /1    أخبار المال والأعمال    بطولة شتوتغارت... أنس جابر تطيح بالروسية إيكاترينا    أخبار الترجي الرياضي...يان ساس جاهز وأندري بوكيا لغز كبير    حالة الطقس ليوم الخميس 18 أفريل 2024    الكاف: القبض على ثلاثة مروجي مخدرات    وزير الصحة يعاين ظروف سير العمل بالمستشفى الجهوي بباجة    غدا افتتاح معرض تونس الدولي للكتاب...إمضِ أبْعد ممّا ترى عيناك...!    لدعم الميزانية والمؤسسات الصغرى والتعليم العالي والبحث العلمي: توقيع 3 اتفاقيات مالية بين تونس وإيطاليا    يهمّ المؤسسات الصغرى التي تواجه صعوبات: برنامج إنقاذ قيمته 26.5 مليون دينار لجدولة الديون والقروض    هيئة الدفاع عن عبير موسي: هيئة الانتخابات رفضت قبول مراسلة من الدستوري الحر    مع الشروق ..من هنا يبدأ ضرب الدولة!    عاجل/ 6 أشهر مع النفاذ في حق محمد بوغلاب..    سيدي بوزيد: حجز مواد مدعمة من اجل الاتجار بطرق غير قانونية    تونس: حجز 6 أطنان من السكر المعد للاحتكار في الحرايرية    عبد المجيد جراد رئيسا جديدا للجامعة التونسية للكرة الطائرة    الرابطة تقرّر عقوبة الويكلو على النادي الرياضي الصفاقسي    توزر: تسجيل حالات إسهال معوي فيروسي    عاجل/ هذا موعد تصويت مجلس الأمن على عضوية فلسطين بالامم المتحدة    سليانة: إخماد حريق نشب في جبل برقو    لإنقاذ مزارع الحبوب: تزويد هذه الجهة بمياه الري    جورجيا ميلوني: "لايمكن لتونس أن تصبح دولة وصول للمهاجرين"    توقّيا من مخاطر الأنترنات على الأطفال: وزارة الطفولة تصدر قصّة رقميّة    حملات أمنية بصفاقس: الأسباب    تزامنا مع زيارة ميلوني إلى تونس: منظمات تونسية تنفذ وقفة إحتجاجية أمام السفارة الإيطالية    عاجل/ القبض على شخصين متورطين في طعن عون أمن بهذه الجهة    سيلين ديون تكشف عن موعد عرض فيلمها الجديد    قتل مسنّ حرقا بمنزله: القبض على 6 أشخاص من بينهم قصّر    المركز العسكري لنقل الدّم يتحصّل على شهادة المطابقة للجودة    عاجل/ سفن حربية ومقاتلات.. هكذا تستعد إيران للهجوم الصهيوني المرتقب    سعيد يدعو إلى اعتماد مقاربة جماعية لمسألة الهجرة ومحاربة شبكات المتاجرة بالبشر    سيدي بوزيد: حجز كمية من المواد الاستهلاكية بغاية الاحتكار والمضاربة..    أبطال إفريقيا: الترجي الرياضي يفرض الويكلو على التحضيرات    بطولة شتوتغارت: أنس جابر تضع حدا لسلسة نتائجها السلبية وتتاهل الى الدور ثمن النهائي    زغوان: تطور في قيمة نوايا الاستثمار في قطاع الخدمات في الثلاثي الاول للسنة الحالية    وزيرة التربية: "البنية التحتية من أبرز أسس تطور قطاع التعليم"    الكاف : تلقيح عدد هام من قطعان الماشية والكلاب    تعيين أوسمان ديون نائبا جديدا لرئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا    الغرفة الوطنية للمخابز: "أصحاب المخابز لم يعودوا قادرين على تحمّل المصاريف اليومية وتسيير عملها".    علي المرابط في لقاء مع مدير عام الوكالة الوطنية المصرية للدواء    صفاقس: حادث مرور يخلف 5 اصابات    محرز الغنوشي: الأمطار في طريقها إلينا    الحماية المدنية: 19 حالة وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني في تونس اليوم..    "المكتبات في عصر الذكاء الاصطناعي : أدوار متجددة وخدمات مبتكرة" عنوان الدورة الخامسة لملتقى بن عروس المغاربي للكتاب والمطالعة    معز الشرقي يودع بطولة غوانغجو الكورية للتنس منذ الدور الاول    إجماع على ضرورة تسريع تنفيذ مبادرة تناغم التشريعات في قطاع الأدوية بدول شمال إفريقيا    بعد صمت طويل: هذا أول تصريح لأمين قارة بعد توقّف برنامجه على الحوار التونسي    علامة ''هيرمس'' تعتذر لهيفاء وهبي    مرتبطة بجائحة كورونا.. فضائح مدوية تهز الولايات المتحدة وبريطانيا    مباراة الترجي وصانداونز: تحديد عدد الجماهير وموعد انطلاق بيع التذاكر    شيخ جزائري يثير الجدل: "هذه الولاية بأكملها مصابة بالمس والسحر"!!    معرض تونس الدولي للكتاب 2024: القائمة القصيرة للأعمال الأدبية المرشحة للفوز بجوائز الدورة    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    مفاهيمها ومراحلها وأسبابها وأنواعها ومدّتها وخصائصها: التقلّبات والدورات الاقتصادية    فتوى جديدة تثير الجدل..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عاشوراء دروس وعبر (1-3):أ.د. عبد الرحمن البر
نشر في الفجر نيوز يوم 19 - 12 - 2010


أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر
وعضو مكتب الإرشاد
وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
محاضرة ألقاها : أ.د. عبد الرحمن البر في ذكري عاشوراء 2010
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، ومالك يوم الدين.
وصلى الله وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، وإمام الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، وأسأل الله العظيم أن يجعل مجلسنا هذا مجلس خير وبر وبركة، وأن يجعله شاهدا لنا يوم العرض عليه، وأن يبيض به وجوهنا يوم الوقوف بين يديه، إنه على كل شيء قدير.
أما بعد..
أحبتي في الله.. فحياكم الله وتقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال، وأهلا ومرحبا بكم في هذا المجلس الكريم، حيث نتذاكر معا أوامر ربنا تبارك وتعالى ومنهاج نبينا صلي الله عليه وسلم ونعيش في روضة من رياض الجنة، ما أمس حاجتنا إليها، في ظل هجير الحياة اللاهث، وشدائدها المتتابعة، يحتاج الإنسان إذا اشتدت به الأمور، إلى صدر يسند إليه رأسه، وإلى شديد ينزل عنده حاجته، وإلى سبب من أسباب القوة يركن إليه، ولا ركن أقوى من ركن الله رب العالمين، ولا سبيل أكثر شرحا للصدر، أفضل من ذكر الله تبارك وتعالى، ولا طريق لهدوء النفس أفضل وأكرم من أن تهدأ عند ربها تبارك وتعالى، وصدق الله مولانا العظيم: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد/28].
ولقد كان النبي صلي الله عليه وسلم من أول بعثته حريصا على هذه المجالس التي تتباهى بها الملائكة؛ لما تحدثه من آثار نفسية روحية عميقة، تصفي كدر الحياة، وتريح القلب المتعب، وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يلجأ إلى الطاعات إذا اشتدت الكربات، ويرى أن في قربه من ربه غسلا لهمه، وتفريجا لكربه. وحياتنا اليوم هي مجموعة من المشاهد المؤلمة أحيانا، والمسيئة أحيانا، لولا بصيص من نور وأشعة من خير تبثها مجالس المؤمنين بعضهم مع بعض، يحييها الله تبارك وتعالى بنور الأخوة والإيمان، فيطمئن القلق، وينشط الكسول، ويجتهد المجد.. ومجلسنا اليوم أراه مجلسا من هذه المجالس، فأسأل الله العظيم أن يجعله لنا يوم القيامة شافعا ونورا.. وفي بعض الآثار، أن المؤمنين إذا التقيا في الجنة، قال أحدهما للآخر –من جملة ما يقولون تساؤل يطرحه أهل الإيمان، نرجو الله أن نكون منهم- يا فلان، تدري متى غفر الله لنا حتى أحلنا هذا المحل الكريم السَّنِيّ، وأنزلنا هذا المنزل القريب الدني، تدري متى غفر الله لنا؟ يقول: نعم، يوم جلسنا في ساعة كذا نذكر الله..
وهذا له شاهد واضح من حديث النبي صلي الله عليه وسلم، المعروف في الملائكة الذين يلتمسون الذكر، ففي الحديث، يقول الله تبارك وتعالى للملائكة: أُشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم.
وهكذا.. بعد أن ينكشف الغطاء، يدرك الناس قيمة هذه المجالس الكريمة..
أيها الأحبة.. كان لا بد من التقديم لفضيلة ما نحن فيه، ولا بد للنفس أن تتذكر المرة بعد المرة، والفينة بعد الفينة قيمة ما تعمل؛ حتى لا تعتبر أمثال هذه المجالس مجرد أمور دورية لا معنى لها، بل هي في الحقيقة عبادات وطاعات، نحن في أمس الحاجة إليها، وتعظم الحاجة إليها كلما اشتدت حاجة القلب إلى راحة.. وكلما اشتدت حاجة الصدر إلى سعادة، وكلما اشتدت حاجة الناس إلى ربهم جل وعلا، يحتاجون إلى هذه المجالس الكريمة..
وهذا أحد أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، عبد الله بن رواحة ، يقول عنه أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ ، يَقُولُ : تَعَالَ نُؤْمِنُ بِرَبِّنَا سَاعَةً ، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ ، فَغَضِبَ الرَّجُلُ ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَلاَ تَرَى إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ ، يَرْغَبُ عَنْ إِيمَانِكَ إِلَى إِيمَانِ سَاعَةٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم : «يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ رَوَاحَةَ ، إِنَّهُ يُحِبُّ الْمَجَالِسَ الَّتِي تَتَبَاهَى بِهَا الْمَلاَئِكَةُ ، عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ» (أخرجه أحمد)
اللهم اجعل مجلسنا هذا من المجالس التي تتباهى بها الملائكة، واجعلنا على طريقة ابن رواحة ممن يحبون المجالس التي تتباهى بها الملائكة..
أيها الأحبة:
كنت أريد في الحقيقة أن أتكلم عن الهجرة، لكن بدا لي قبل ساعة من الآن أن أغير الموضوع إلى عنوان آخر متعلق باليوم الذي نحياه، (يوم عاشوراء) وما فيه من دروس، وأتناول فيه عدة نقاط على النحو التالي
(1) حكم الاحتفال بالمناسبات الدينية والقومية:
سأبدأ بقضية يكثر فيها الكلام، وهي قضية الاحتفالات بالمناسبات المختلفة؛ لأن صيام عاشوراء أحد الأصول الأساسية التي يعتمد عليها في مشروعية الاحتفال بالمناسبات، سواء كانت مناسبات –بالتعبير الحديث- قومية، أو مناسبات دينية، أو بأي شكل من الأشكال.. طالما أنها مناسبات فيها خير يُذكر الناس بخير معين.
هذا اليوم الكريم (يوم عاشوراء).. كلنا يحفظ الحديث المتفق عليه، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ صلي الله عليه وسلم: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُم» فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
وفي رواية عند الشيخين: أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمًا -يَعْنِي عَاشُورَاءَ- فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ .فَقَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ» فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
وفي رواية عند الشيخين : ... فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ... الحديث.
وأخرج الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدًا، قَالَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم: « فَصُومُوهُ أَنْتُمْ».
وفي رواية عند مسلم : كَانَ أَهْلُ خَيْبَرَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا، وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حُلِيَّهُمْ وَشَارَتَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: « فَصُومُوهُ أَنْتُمْ ».
وفي الحقيقة أنه لم تكن في هذا بداية صيام عاشوراء على ما هو مفهوم في الأذهان، إنما كان يوم عاشوراء يوما من أيام العرب يعظمه العرب في الجاهلية، وكانت قريش تصومه، وكان النبي صلي الله عليه وسلم يصومه؛ لأن هناك نقطة في غاية الأهمية، حين جاء النبي صلي الله عليه وسلم، لم يكن جل غرضه أن يغير الواقع أيّا كان، إنما كان يبحث عن مواطن الفساد في الواقع ليغيرها، أما ما كان في هذا الواقع من خير فقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يحبه ويحض عليه، وهذه طبيعة الدعوة الإسلامية.. ليست الفكرة عندما يتنادى الدعاة إلى الإصلاح أن نغير المجتمع بمعنى أن نقلب المجتمع ظهرا لبطن، وإنما الفكرة أن ننظر في كل صالح في هذا المجتمع فنبقي عليه، ونحبذه، ونقدمه، ثم نبحث عن مواطن الفساد فنغيرها؛ ولذلك جاء النبي صلي الله عليه وسلم فرأى الناس يعظمون يوما من أيام الله لهم فيه مناسبات طيبة، يعظمونه بطريقة مناسبة، فكان النبي صلي الله عليه وسلم مثلهم في هذا، ولم يرَ أي حرج في أن يصوم يوم عاشوراء وهو في مكة.. وهذا أيضا جاء في حديث صحيح متفق عليه، فعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِصلي الله عليه وسلم يَصُومُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِصلي الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ هُوَ الْفَرِيضَةَ، وَتُرِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ».
وفي رواية عند البخاري : قَالَتْ: «كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ، فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ رَمَضَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صصلي الله عليه وسلم:«مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَلْيَتْرُكْهُ».
وأخرج البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ عَاشُورَاءُ يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ قَالَ: «مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْهُ».
وفي رواية عند مسلم : أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم صَامَهُ وَالْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ رَمَضَانُ، فَلَمَّا افْتُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم :« إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ ».
وفي رواية أخرى عند مسلم :أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: « كَانَ يَوْمًا يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كَرِهَ فَلْيَدَعْهُ ».
ولما كانت الأنصار لا تعرف صيامه ، وتراه من شعائر اليهود الخاصة؛ فقد دعاهم النبي صلي الله عليه وسلم إلى صيامه ، فقد أخرج الشيخان عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: «مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ» قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ.
وأخرج الشيخان عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ: «أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ: أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ».
وأخرج الشيخان عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ: «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَكْتُبْ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ».
وأخرج مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا عِنْدَهُ.
والشاهد هنا أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يصومه لكونه يوما من أيام العرب الطيبة، ولهم فيه ذكريات مناسبة طيبة، وهذا دليل على جواز الاحتفال بالمناسبات القومية.
ولم ير النبي صلي الله عليه وسلم أي حرج على الإطلاق في هذا، ولم يقل لا.. هذا كان من فعل قريش فلا نفعله..
ولما وجد اليهود يصومونه رأى أنه أولى من اليهود، فكان هذا سبب إضافي، بل حينما وجد أن اليهود تصومه بسبب أمر أكثر تقربا إلى الله تبارك وتعالى، وأكثر أثرا، وهو نجاة الحق من بطش الباطل، ونجاة موسى وبني إسرائيل من كيد فرعون؛ حوّل الصيام من مجرد عادة كان يعتادها إلى فريضة فرضت، وصار صيام عاشوراء فريضة.. إلى أن فرض الله رمضان.. فصامه المسلمون سنة واحدة فقط على أنه فريضة، ثم فرض الله رمضان في السنة الثانية فصار صيام عاشوراء موجود على حاله احتفالا واحتفاءً بنجاة موسى عليه السلام وبني إسرائيل، وهلاك فرعون ومن معه..
لم يقل النبي صلي الله عليه وسلم أنا سأصومه احتفالا بنجاة موسى وألغي السبب الآخر، إذ لو كان الأمر كذلك لبينه النبي صلي الله عليه وسلم، إنما جاء بالمنهج الإسلامي المميز، وهو ألا يكون مجرد تقليد ولا نقل، ولذلك أمر بصيامه مع صيام التاسع، أو بصيام الحادي عشر، أو بصيامهما معا؛ حتى يخالف اليهود، إنما أصل المناسبة ما يزال موجود، وأصل المشروعية ما يزال موجود..
هذه نقطة أحببت أن أبدأ بها، وهي الاحتفال بالمناسبات الطيبة التي تحيي في الأمة الطيبة معاني الخير، ومعاني الفضل والنبل، ومعاني الكرم، ومعاني الإيمان..
أمر مشروع بشكل عام، سواء ثبت بعد ذلك أن النبي صلي الله عليه وسلم احتفل بهذا اليوم أم لم يحتفل، لأن النبي صلي الله عليه وسلم حينما رأى اليهود يصومونه سأل عن السبب، بالرغم من أنه كان يصومه عادة واتباعا لقومه فيما يرى أنه لا يخالف دينا، فرأى أن السبب يغري كل مؤمن بأن يتذكره، والعبرة ليست بأن يُصام هذا اليوم –لأنه كان يصومه طبيعة وعادة- لكن رأى سببا أهم للمشروعية، وهي قضية النجاة، فكان هذا سببا مبينا لمشروعية الاحتفال؛ ولذلك كانت عبارته صلي الله عليه وسلم واضحة، "فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُم".
ولذا كان الاحتفال بيوم عاشوراء بالصيام، وتذكر مثل هذا الأمر مشروع، وينبني عليه كل ما جاء مثله مما فيه خير البشرية، فإذا أردت أن أحتفل بميلاد النبي صلي الله عليه وسلم، فهذا حدث عظيم، وذكره مهم، وهي نعمة تستحق الشكر، وقد صام النبي صلي الله عليه وسلم بصورة أوضح، بأن صامه كل أسبوع، وهذا لا يمنع أن يأخذ الاحتفال السنوي صورة أوضح وأكبر وأجلى تتضح بها الصورة وتُذكر فيها القصة، ويعلم الناس حقيقة النور الذي جاء به رسول الله صلي الله عليه وسلم.
أقول لو كانت القضية صيام وفقط، فلم يكن هناك داعيا للفظة صامه موسى، وإنما أراد أن يتذكر الناس عند صيامه قصة الصراع الحاصل بين الحق والباطل، وكيف نجّا الله الحق وأهله.
وإلى لقاء مع الدرس الثاني بمشيئة الله تعالى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.