الرابطة الأولى: النادي الصفاقسي يطالب بصافرة أجنبية في الكلاسيكو    استعمال'' الدرون'' في تونس : وزارة الدفاع تكشف مستجدات المشروع الجديد    مدنين: قريبا تركيز وحدة الاساليب الحسية لتذوق حليب الابل بمعهد المناطق القاحلة    الهند: ارتفاع حصيلة انفجار السيارة إلى 12 قتيلا    أطباء بلا حدود تكشف: الأوضاع الإنسانية بغزة ما تزال مروعة..    نواب ينتقدون مشروع ميزانية الدولة لسنة 2026: "استنساخ للسابقة واعتماد مفرط على الجباية"    الترجي الرياضي: توغاي يعود إلى تونس.. ورحة بأيام ل"بن سعيد"    لا تفوتوا مباراة تونس وموريتانيا اليوم..تفاصيل البث التلفزي..#خبر_عاجل    محاولة سطو ثانية على لاعب تشلسي... واللاعب وأطفاله ينجون بأعجوبة    عاجل : مداخيل'' البروموسبور'' تحقق قفزة وقانون جديد على قريب    عاجل: هزة أرضية بقوة 5.36 ريختر تُحسّ بها عاصمة بلد عربي    ائتلاف السوداني يحقق "فوزاً كبيراً" في الانتخابات التشريعية العراقية    فنزويلا: مادورو يوقّع قانون الدفاع الشامل عن الوطن    انطلاق معرض الموبيليا بمركز المعارض بالشرقية الجمعة 14 نوفمبر 2025    يوم مفتوح لتقصي مرض الانسداد الرئوي المزمن يوم الجمعة 14 نوفمبر بمركز الوسيط المطار بصفاقس    وزارة المالية: أكثر من 1770 انتدابا جديدا ضمن ميزانية 2026    قفصة: وفاة مساعد سائق في حادث جنوح قطار لنقل الفسفاط بالمتلوي    النجم الساحلي: زبير بية يكشف عن أسباب الإستقالة.. ويتوجه برسالة إلى الأحباء    تونس تشارك في بطولة العالم للكاراتي بمصر من 27 الى 30 نوفمبر بخمسة عناصر    تعاون ثقافي جديد بين المملكة المتحدة وتونس في شنني    أحمد بن ركاض العامري : برنامج العامين المقبلين جاهز ومعرض الشارقة للكتاب أثر في مسيرة بعض صناع المحتوى    "ضعي روحك على يدك وامشي" فيلم وثائقي للمخرجة زبيدة فارسي يفتتح الدورة العاشرة للمهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان بتونس    ليوما الفجر.. قمر التربيع الأخير ضوي السما!...شوفوا حكايتوا    تحطم طائرة شحن تركية يودي بحياة 20 جندياً...شنيا الحكاية؟    معهد باستور بتونس العاصمة ينظم يوما علميا تحسيسيا حول مرض السكري يوم الجمعة 14 نوفمبر 2025    تحب تسهّل معاملاتك مع الديوانة؟ شوف الحل    سباق التسّلح يعود مجددًا: العالم على أعتاب حرب عالمية اقتصادية نووية..    عاجل/ هذه حقيقة الأرقام المتداولة حول نسبة الزيادة في الأجور…    اسباب ''الشرقة'' المتكررة..حاجات ماكش باش تتوقعها    خطير: تقارير تكشف عن آثار جانبية لهذا العصير..يضر النساء    الجبل الأحمر: 8 سنوات سجن وغرامة ب10 آلاف دينار لفتاة روّجت المخدرات بالوسط المدرسي    حادث مؤلم أمام مدرسة.. تلميذ يفارق الحياة في لحظة    عاجل/ بعد وفاة مساعد السائق: فتح تحقيق في حادث انقلاب قطار تابع لفسفاط قفصة..    أحكام بالسجن والإعدام في قضية الهجوم الإرهابي بأكودة استشهد خلالها عون حرس    بش تغيّر العمليات الديوانية: شنوّا هي منظومة ''سندة2''    تحذير عاجل: الولايات المتحدة تسحب حليب أطفال بعد رصد بكتيريا خطيرة في المنتج    عاجل: امكانية وقوع أزمة في القهوة في تونس..هذه الأسباب    فريق تونسي آخر يحتج رسميًا على التحكيم ويطالب بفتح تحقيق عاجل    طقس الاربعاء كيفاش باش يكون؟    تقديرا لإسهاماته في تطوير البحث العلمي العربي : تكريم المؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي في الإمارات بحضور كوكبة من أهل الفكر والثقافة    محمد علي النفطي يوضّح التوجهات الكبرى لسياسة تونس الخارجية: دبلوماسية اقتصادية وانفتاح متعدد المحاور    الديوانة تُحبط محاولتين لتهريب العملة بأكثر من 5 ملايين دينار    عاجل/ الرصد الجوي يصدر نشرة استثنائية..    الكتاب تحت وطأة العشوائية والإقصاء    الحمامات وجهة السياحة البديلة ... موسم استثنائي ونموّ في المؤشرات ب5 %    3 آلاف قضية    وزارة الثقافة تنعى الأديب والمفكر الشاذلي الساكر    عاجل/ غلق هذه الطريق بالعاصمة لمدّة 6 أشهر    عاجل/ تونس تُبرم إتفاقا جديدا مع البنك الدولي (تفاصيل)    فريق من المعهد الوطني للتراث يستكشف مسار "الكابل البحري للاتصالات ميدوزا"    تصريحات صادمة لمؤثرة عربية حول زواجها بداعية مصري    عاجل/ وزارة الصناعة والمناجم والطاقة تنتدب..    مؤلم: وفاة توأم يبلغان 34 سنة في حادث مرور    عاجل/ وزير الداخلية يفجرها ويكشف عن عملية أمنية هامة..    الدكتور صالح باجية (نفطة) .. باحث ومفكر حمل مشعل الفكر والمعرفة    صدور العدد الجديد لنشرية "فتاوي تونسية" عن ديوان الإفتاء    شنيا الحاجات الي لازمك تعملهم بعد ال 40    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته ( محمد عابد الجابري ) منير السايبي
نشر في الفجر نيوز يوم 26 - 01 - 2011

لا يختلف اثنان في أن الواقع السياسي العربي الراهن قد تردى إلى دركات خطيرة أصبحت تعيق نهوض الأمة وتقدمها على كل المستويات ، الأمر الذي يجعل مهمة تحرير إرادة مجتمعاتنا العربية والإسلامية من مخالب الاستبداد السياسي الغاشم هي أولوية الأولويات في المشروع الإصلاحي الشامل لمجتمعاتنا المعاصرة .
إن كتاب " العقل السياسي العربي " للدكتور محمد عابد الجابري هو دراسة جادة وهادئة وعميقة تحاول فهم رواسب الاستبداد السياسي في عالمنا العربي القديم والمعاصر ومعرفة جملة المحددات التي شكلت عقلنا السياسي والكيفيات التي تحقق " فيها أو من خلالها أو بواسطتها " هذا العقل عبر مسيرته التكوٌنية منذ بداية الدعوة المحمدية إلى يومنا هذا . كما أن هذا الكتاب يُعتبر وصفة من الوصفات الجادة الموجودة على الساحة للقضاء على مرض ونوابت الاستبداد السياسي في عالمنا المعاصر .
فما هي إذن هذه المحددات التي شكلت العقل السياسي العربي ؟. وكيف تجلت هذه المحددات في المسيرة التكونية لهذا العقل كما رآها الدكتور محمد عابد الجابري ؟. وما هو الحل الذي يطرحه للتخلص من داء الإستبداد في واقعنا المعاصر ؟
عرض الجابري في المدخل العام للكتاب جملة من المفاهيم التي رآها ضرورية لتأطير رؤيته للعقل السياسي في الثقافة العربية الإسلامية ماضيا وحاضرا كمفهوم "اللاشعور السياسي " و " المخيال الاجتماعي " وهي في نظره مفاهيم إجرائية ضرورية لملامسة الجانب النفسي / الاجتماعي في الظاهرة السياسية . كما شرح الدكتور مفهوم " المجال السياسي " الذي تشكٌل في أوروبا الرأسمالية كمجال خاص ينقسم إلى بنيتين واضحتين ، تحتية تشكل الصناعة عمودها الفقري ، وفوقية قوامها أجهزة الدولة ومؤسساتها ، على عكس " المجال السياسي " للمجتمعات ما قبل الرأسمالية التي ليس فيها تمايز واضح بين البنيتين .. بل الغالب فيها هو تداخل عناصرهما بصورة تجعل المجتمع برمته عبارة عن بنية كلية واحدة " (20) .
هذا الفرق بين المجال السياسي في أوروبا الرأسمالية وبين المجال السياسي في واقعنا العربي الإسلامي هو الذي جعل الجابري يعترض على عملية نقل وإسقاط المفاهيم والنظريات التي استُخلصت من دراسة بنية المجتمع الرأسمالي كما هي لتطبٌق على مجتمعاتنا العربية الإسلامية التي تختلف في تركيبتها ودرجة تطورها عن المجتمع الرأسمالي ، واعتبر أن التحرر " من سلطة مقولات الأيديولوجيات والعلوم الاجتماعية الخاصة بالمجتمعات الغربية الرأسمالية المتطورة ..هي الخطوة الأولى الضرورية التي بدونها لن نتمكن من رؤية واقعنا كما هو ، واقعنا في الماضي وواقعنا في الحاضر" 34 .
يدعو الجابري إذن في مدخل الكتاب إلى ضرورة تجاوز المنطق الدغمائي الذي يقوم في جوهره على تقديم " مفتاح وحيد يفتح جميع الأبواب "48 ويتعامل مع الماضي إما تعاملا " بوليسيا "يستنطق الماضي بقوة القوالب الجاهزة ليعطي " ما تقرره النظرية سلفا "48 أو تعاملا " لصوصيا " يقتطف من الماضي "على عجل ما يروي ظمأنا لفترة ثم نعود لنقتطف ثانية وثالثة لنفس الغرض "48 .
ولتناول التجربة العربية الإسلامية " تناولا علميا يرتقي في عمقه وشموله إلى المستوى الذي يجعله يعبر فعلا عن خصوصية هذه التجربة "45 وقراءة تاريخها السياسي قراءة هادئة وموضوعية يقترح الجابري لهذه القراءة ثلاثة مفاتيح أساسية هي :
القبيلة : بكل ما تعنيه من قرابات " ذات الشحنة العصبية مثل الانتماء إلى مدينة أو جهة أو طائفة أو حزب ، حين يكون هذا الانتماء هو وحده الذي يتعين به " الأنا " و " الآخر " في ميدان الحكم والسياسة "48 شعاره " أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب "79 .
الغنيمة : بكل ما تعنيه من أدوار يقوم بها " العامل الاقتصادي في المجتمعات التي يكون فيها الاقتصاد قائما أساسا وليس بصورة مطلقة على الخراج والريع "49 ويتلخص في معنى " المُلك بالجُند والجند بالمال "165 .
العقيدة : جُملة الرموز المخيالية التي تُؤسس الاعتقاد والإيمان وتكون قادرة على تأطير وتحريك الأفراد والجماعات سواء كانت " على شكل دين موحى به أو على صورة أيديولوجيا يُشيٌد العقل صرحها "50 " من الوثنية إلى التوحيد ، من التنزيل إلى التأويل " 228 .
شرح الجابري في القسم الأول من الكتاب الكيفية التي حضرت فيها القبيلة والغنيمة والعقيدة كمحددات أساسية للعقل السياسي العربي ابتداء من مرحلة الدعوة المحمدية في مكة ونشأة الدولة في المدينة مرورا بمرحلة الردة وصولا إلى الفتنة الكبرى مُنبٌها إلى ما شاع بعدها من وضع للأحاديث النبوية التي تتحدث عن هذه المحددات الثلاث وتتعرض لقضايا السياسة يرويها الأمويٌون وخصومهم وهي " أحاديث سياسية لا يمكن أن تكون صحيحة لتناقضها بعضها مع بعض من جهة ولتعارضها مع الخُلقيٌة الإسلامية من جهة أخرى "136 .
في القسم الثاني من الكتاب بيٌن الجابري كيف أن العقل السياسي العربي بعد الفتنة الكبرى قد تجلى في دولة "المُلك " التي أسسها معاوية باعتبارها حالة انتقال من دولة الشورى التي هي دولة يؤسس فيها الدين السياسة ويحكمها ، تكون فيها هذه الأخيرة ( السياسة ) تطبيقا للدين وخادمة له ، إلى دولة المُلك القائمة على منطق القوة والغلبة "231 دولة جديدة في الإسلام تقوم على منطق " القبيلة " الخلافة فيها " ليست للعرب كلهم بل لقريش فقط ، وليست لقريش كلهم بل لبني عبد مناف وحدهم ، وليست لبني عبد مناف كلهم بل لبني أمية خاصة"252 . ولتثبيت منطق القبيلة اتٌخذ بنو أمية " الغنيمة " كعنصر تحفيز للموالين وأداة إغراء للمعارضين والثائرين وكل ذلك مسنود ب "عقيدة " جبرية لا ترحم ، مفادها ما قاله معاوية وهو بصدد أخذ البيعة لابنه يزيد كولي عهد بعده " إن أمر يزيد قضاء وقدر وليس للعباد الخيرة من أمرهم " 260 .
ولمزيد تثبيت أركان هذه الدولة المُتغلٌبة قال المتكلٌمون والفقهاء أن العمل ليس شرطا ضروريا في الإيمان ، وهو قول يُبقي" الخلفاء الأمويين المتهمين بالظلم والفسق في دائرة الإيمان ، وبالتالي عدم جواز الثورة ضدهم " 315 . إنه تأسيس جديد لدولة استبدادية ترتدي جبٌة وضع حد للفتنة من أجل الحفاظ على وجود الأمة ككيان وعلى الإسلام كدين . وهو من منظور الجابري نموذج للدولة بقي سائدا منذ ذلك الحين إلى اليوم ، القبيلة إطاره ، والغنيمة محرٌكه ، والعقيدة غطاؤه الأيديولوجي .
كما اعتبر الجابري أن ظهور نظرية الإمامة في الفكر الشيعي بعد حسم الصراع بين علي ومعاوية لصالح هذا الأخير كانت له دوافع سياسية واضحة بدأت تتشكل ملامحها مع المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي حاول إنشاء قوة عسكرية من عامة الناس والأعاجم من أجل الثأر لأهل بيت النبي ( ص ) من بني أمية و تحقيق طموحاته السياسية ، فأطلق على محمد بن على بن أبي طالب ( محمد بن الحنفية )ألقابا كثيرة مثل " المهدي " و"وارث علوم السر من أبيه " و" الوصي " مما فتح بابا واسعا لانتقال الوصية عبر أشخاص لا تربطهم علاقة النسب الطبيعي ، فادعى كل من خدم إماما من الأيمة أنه أوصى إليه وأورثه "العلم السري" الأمر الذي فتح بابا واسعا أمام الميثولوجيا لكي تعيش وتزدهر في أوساط الشيعة 282 .
حافظت المعارضة الشيعية حسب الجابري على أهم العناصر والمفاهيم المكونة لميثولوجيا الإمامة مثل الوصية ، العلم السري ، البداء ، الغيبة ، الرجعة ، المهدية ، التقية ،العصمة ، وهي مفاهيم تُؤسس لمعارضة سياسية تُحرٌك مخيال الجماهير وتُعبئه ، مقصدها رفض "الهزيمة والإنهيار "288 والتمسك بالأمل .
في أواخر العهد الأموي ومن داخل رحم الفكر الشيعي أصبح العباسيون في حاجة " إلى نظرية جديدة تُؤسس شرعية حكمهم ، حكمهم هم وحدهم ..فقالوا إن الإمامة بعد رسول الله ( ص ) كانت للعباس بن عبد المطلب فهو عمه ووارثه وأولى الناس به ، لأن العم أحق بالوراثة من ابن العم ومن أبناء البنات ( أبناء فاطمة ) 297 .
حافظ العباسيون إذن على صورة الإمام كما رسمتها ميثولوجيا الإمامة ولكنهم نزعوا عنها الطابع الشيعي وأحلٌوا محله الطابع السني " لتصبح منزلة الخليفة .. منزلة تقع خارج منزلة "الخاصة" وتعلو عليها " 335 . فهي بذلك امتداد لثقافة العصور القديمة والوسطى حيث كانت مسألة إنزال الناس منازلهم هي مظهر من مظاهر العدل ، فأصبح المجتمع العباسي مجتمعا هرمي الشكل يتألف من منازل ثلاث :
الخليفة في القمة ، وهي مكانة حددها أبو جعفر المنصور لنفسه في خطبة له يوم عرفات قال فيها :" أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه وتسديده ، وأنا خازنه على فيئه أعمل بمشيئته وأقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه . قد جعلني الله عليه قفلا إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني ، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني " 338 .
في هذا التقسيم الهرمي للمجتمع العباسي أصبح الخليفة في منزلة عليا لا تضاهيها منزلة ، فهو شخص اختاره الله ليتصرف بإرادة حرة هي إرادته . وهو في منزلة تعلو على التشبيه والمحاسبة في إطار أيديولوجيا سلطانية مطلقة " تضع الخليفة في منزلة الشخص المُتألٌه .
الخاصة : وهم جُملة الوزراء والولاٌة وقادة الجند والكُتٌاب والمتكلمين والفقهاء الذين يخدمون الخليفة ويُؤسسون لمنطق الدولة والإبقاء على الأمر الواقع كبديل عن منطق الثورة .
لخٌص ابن المقفع مهمة هذه النخبة في علاقتها يالخلفاء قائلا : " طاعتهم في المكروه عندك ، وموافقتهم فيما خالفك ، وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك ،..والتزيين لرأيهم وعلى قلة الاستقباح لما فعلوا إذا أساؤوا ،..وحسن الستر لمساوئهم "342 " تشكرهم ولا تُكلٌفهم الشكر ، بصيرا بأهوائهم ، مُؤثرا لمنافعهم ، ذليلا إن ظلموك ، راضيا إن أسخطوك " 345 " نطيع الأئمة في كل أمورنا ولا نُفتٌش عن طاعة الله ولا معصيته ولا يكون أحد منا عليهم حسيبا ، هم ولاٌة الأمر وأهل العلم ونحن الأتباع وعلينا الطاعة والتسليم "348 فالمهمة الأساسية لهذه الشريحة الاجتماعية الوسطى ( الخاصة ) هي " حمل العامة على طاعة الأمير "342 .
العامٌة : وهم الجند وبقية الناس .
يرى الجابري أن الأدبيات السلطانية التي سادت في العصر العباسي هي أدبيات وقع نقلها عن " الأدبيات السلطانية الفارسية "339 ساد في إطارها " إتجاه المماثلة بين الله والخليفة هذه المماثلة التي تتحول في الخطاب الأدبي إلى مطابقة تخلع فيها على الأمير صفات الألوهية مباشرة " 356 . فالعقل السياسي العربي انطلاقا من الدولة الأموية مرورا بالعصر العباسي وصولا إلى واقعنا السياسي الراهن هو عقل بقي حسب الجابري حقل التفكير فيه محاصرا بأيديولوجيات لا عقلية هي : أيديولوجيا الجبر الأموي ، وأيديولوجيا التكفير الخارجي ، وميثولوجيا الإمامة الشيعية " 310 . كما بقيت الممارسة السياسية التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية تُكرر نفسها في إطار مُحددات أساسية " هي : القبيلة ، الغنيمة ، العقيدة " 365 مع اختلافات بسيطة بقيت كالزهرات القليلة في حقول الشوك الشاسعة ، لم تغير من طبيعة المسار العام لهذه الممارسة شيئا ، حيث بقي الصدام العنيف والإقتتال هو الحل الغالب بين الفرقاء السياسيين سببه عدم إقرار طريقة واحدة مُقننة لتعيين الخليفة وعدم تحديد مدة ولايته وعدم تحديد اختصاصاته .
لتحرير عقلنا السياسي من هذه الأُطر اللاعقلانية في الممارسة السياسية طرح الجابري في خاتمة هذا الكتاب حلا يبدأ ب " تعرية الاستبداد بالكشف عن مرتكزاته الأيديولوجية والاجتماعية واللاهوتية والفلسفية "365 التي هيمنت على عقلنا السياسي مع إبراز المحطات المشرقة في مساره التاريخي واعتبار مسألة الحكم في الإسلام مسألة اجتهادية مبنية على مبدأ الشورى ، أي أنها مسألة خلافية يجب الفصل فيها بشكل سلمي بعيدا عن العنف وعن المنطق الأيديولوجي والميثولوجي المنغلق .
بمعنى آخر ، يرى الجابري أن عملية تجديد العقل السياسي العربي لا يمكنها أن تتحقق بدون إعادة النظر في أصول الفقه السياسي الإسلامي وإقرار نظام دستوري ديمقراطي ينفي ويتجاوز المحددات التقليدية التي تحكمت في مسار عقلنا السياسي لأن عصرنا الراهن في رأيه لا يحتمل غير "اساليب الديمقراطية الحديثة ، التي هي إرث للإنسانية كلها " 372 ، وأن حلقة تجديد عقلنا السياسي لا تكتمل إلا إذا قام الفكر العربي المعاصر بالمهام التالية :
أ تحويل القبيلة في مجتمعنا إلى لا قبيلة : أي تحويل القبيلة إلى " تنظيم مدني سياسي اجتماعي ( أحزاب ، نقابات ، جمعيات حرة ، مؤسسات دستورية ) 374 لإيجاد مجال جديد تمارس فيه السياسة وفيه تمايز بين الدولة والمجتمع المدني ينبعث من خلال " تطور عام اقتصادي اجتماعي سياسي " 374 .
ب تحويل الغنيمة إلى ضريبة : أي " تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاجي ..في إطار سوق عربية مشتركة تفسح المجال لقيام وحدة اقتصادية بين الأقطار العربية هي وحدها الكفيلة بإرساء الأساس الضروري لتنمية عربية مستقلة " 374 .
ج تحويل العقيدة إلى مجرد رأي : " فبدلا من التفكير المذهبي الطائفي المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة يجب فسح المجال لحرية التفكير ، لحرية المغايرة والاختلاف ، وبالتالي التحرر من سلطة الجماعة المُغلقة ، دينية كانت أو حزبية أو إثنية " وبعث آليات جديدة للتعامل يُحركها "عقل اجتهادي نقدي " 374.
تبدأ إذن الرؤية التجديدية لمحددات العقل السياسي العربي كما يراها الجابري بالقيام بعملية نقد جذري للمحددات التقليدية للعقل ولأصول الفقه السياسي لأنه " بدون ممارسة هذه الأنواع من النقد بروح علمية سيبقى كل حديث عن النهضة والتقدم والوحدة في الوطن العربي حديث أمان وأحلام "374 .
يمكننا القول أن هذا الكتاب هو دراسة تحليلية ومحاولة تقويمية متانية لتراثنا السياسي من أجل الوعي بما يشتمل عليه من بذور ومنابت تربوية ونفسية واجتماعية واقتصادية تُؤصل للاستبداد وتُثبٌت الأمر الواقع منذ بداية الدولة الأموية إلى يومنا هذا .
نبٌه الجابري في مقدمة الكتاب إلى خطورة نقل مفاهيم ونظريات وحلول استُخلصت من دراسة بنية المجتمع الرأسمالي وعوامل تطوٌره ونقلها كما هي لتطبٌق كما هي على مجتمعاتنا العربية الإسلامية التي تختلف في تركيبها ودرجة تطوٌرها عن المجتمعات الرأسمالية إلا أننا نراه قد وقع فيما حذٌر منه عندما اعتبر في خاتمة الكتاب أن " الديمقراطية الحديثة " هي الحل الوحيد لخروج مجتمعاتنا من الاستبداد إلى الحرية ومن التخلف إلى التقدم والنهضة دون أن يوضح طبيعة النمط الديمقراطي الحديث الذي يدعو إليه . هل هي ديمقراطية اللائكية الفرنسية المتطرفة في فصل الدين عن الدولة التي إذا أُسقطت على واقعنا كما هي ستُقصي بالضرورة الإسلاميين وتحرمهم من حقهم في العمل السياسي القانوني ؟
هل هي ديمقراطية ( الجنس الأبيض ) كما تجلت مع النظام العنصري في جنوب إفريقيا وبلغت مداها في التجربة النازية والفاشية وكأننا أمام تجربة ديمقراطية تتعصب ل " القبيلة " ؟ .
هل هي الديمقراطية الحديثة التي تتحكم في نتائجها الشركات الاقتصادية الكبرى من أجل الهيمنة على الشعوب المستضعفة في الخارج وشراء الأحزاب والضمائر في الداخل كما يحدث الآن في التجربة الديمقراطية الإيطالية مع الأمبراطور برلوسكوني وكأننا أمام تجربة ديمقراطية يُوجهها من يتحكم في " الغنيمة " ؟ .
هل هي الديمقراطية الحديثة التي تتحكم فيها النزعة الدينية كما يحدث الآن في الديمقراطية الإسرائيلية حيث انتهت إلى تجربة ديمقراطية تتحكم فيها "العقيدة " اليهودية " ؟ .
أعتقد أننا في حاجة ماسة للقيام بعملية نقد جذري لتراثنا السياسي وللتراث السياسي الغربي من أجل استشراف معالم ديمقراطية إنسانية جديدة تحاول أن تقطع مع الاستبداد بكل أشكاله كما تقطع مع الاستغلال الداخلي والخارجي ومع التعصب الديني الأعمى . ديمقراطية معتدلة تنبني على أسس حداثية جديدة تنتصر لكرامة الإنسان وتحارب النوازع الأنانية فيه وتحمي حقوق الأقليات والضعفاء . نمط ديمقراطي متزن ينبني على أسس حداثية جديدة نابعة من نقد موضوعي لتراثنا العربي الإسلامي ولتجربة الحداثة الغربية . ديمقراطية معتدلة تشُدٌها أوتاد حداثة جديدة متناغمة ومُتآلفة مع وجودنا الخاص بدأ الدكتور طه عبد الرحمان التأصيل لها في كتابيه " سؤال الأخلاق " و " روح الحداثة " .
منير السايبي سويسرا 26 / 01 / 2011


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.