تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حق الإنسان في الكلمة هو الحق الذي من دونه يفقد الإنسان هويته كإنسان
محمد عابد الجابري : حاورته رشا التونسي
نشر في الشعب يوم 19 - 06 - 2010

محمد عابد الجابري ، أول من حول النص إلى خطاب ، وإقترح بنية للعقل العربي ، وأكثر المفكرين الذين ساهموا في الربط المعرفي بين المشرق والمغرب ، مواقفه الجريئة كانت دوماً واضحة ومتميزة في التعرف على القضايا العربية ، ومكانة العقل العربي في عواصف هذا العالم المضطرب. وعندما نكتب عن الجابري ، نكتب سنوات طويلة من البحث والدراسة لتأسيس أدوات منهجية لقراءة مخطوطات تعد من أهم أمهات الكتب على صعيد الفكر والثقافة.
تخرج محمد عابد الجابري من جامعة دمشق قسم آداب سنة 1959 ، وكان زميلاً على مقاعد الدراسة الجامعية لجورج طرابيشي ، ثم بدأ مسيرته المهنية مدرساً ثم موجهاً تربوياً لأساتذة الفلسفة بالتعليم الثانوي بالرباط ، تحصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة من كلية الآداب جامعة محمد الخامس ،عام 1969، قبل أن ينال في عام 1970 الدكتوراه في الفلسفة , كان ناشطاً فعالاً ضمن خلابا العمل الوطني ضد الإستعمار الفرنسي للمغرب في بداية الخمسينات ، و قيادياً بارزاً في حزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية ، الذي شغل لفترة طويلة عضوية مكتبه السياسي، قبل تفرغه للشؤون الأكاديمية .
يمتلك الأستاذ الجابري للكلاسيكية والحداثة ، رؤية محددة تقول باقتران العلمية والعقلانية معا في التفكير الأرسطي الإغريقي?. واستنادا إلى تلك الرؤية قسم الفكر الإسلامي الكلاسيكي من حيث الرؤى والمناهج إلى ثلاثة تيارات كبرى: البيان والعرفان والبرهان? وقد فصّل ذلك في سائر كتبه، فرأى غلبة المنهج البياني لدى المشارقة، دون أن يهمل الاختراقات التي قال إن العرفان حققها في ذلك المجال? ثم رأى أن الفكر المغربي والأندلسي يتميز بوجود تيار برهاني كبير تأسس في المشرق على يد الفارابي، لكنه ساد في المغارب، فيما بين ابن رشد وابن حزم والشاطبي وآخرين كثيرين وتابع أن تلك البرهانية العقلانية ذات الأصل الأرسطي الإغريقي، أنجز المغاربة والأندلسيون تطويرات كبيرة فيها، ثم انتقلت من عندهم إلى أوروبا فوقعت في أصل النهوض الأوروبي وقد تعرضت رؤية الجابري هذه لنقد قوي من جانب الكثير من الدارسين، لكنه ما تراجع عنها، كما لم يستطع أحد مجاراته في إنجاز تصور آخر لنشوء الفكر العربي الإسلامي وتطوراته في المرحلة الكلاسيكية كما إهتم الجابري أيضا بنقد الخطابات العربية الحديثة والمعاصرة، وأفضى من النقد إلى التوفيق في مجال إشكاليات الفكر العربي، والانشغالات التي أدخلتها الإحيائية الإسلامية عليه
في كتابه "تكوين العقل العربي " يذكر عابد الجابري أن " باب الاجتهاد لم يقفل في الأصل ولكن انغلق عندما انغلق الفكر الذي كان يمارسه"، وتطرق في كتابه " قضايا الفكر المعاصر " للحديث عن عدة قضايا منها تأكيده أن التصدي لأثر العولمة الفادح على المصالح العربية الاقتصادية منها والقومية والثقافية يتطلب أكثر من التنديد بتلك الأخطار، داعيا لقيام مجموعة عربية متضامنة تنسق خططها التنموية وسياستها الاقتصادية.
أما في كتابه "نقد الحاجة إلى الإصلاح" فتحدث عن السلفية مستخلصاً أفضل نماذجها والوجه القابل للحداثة فيها، وهو النموذج الذي تخلص من الماضوية حين يكون نموذجا يمارس "العودة إلى الماضي ليس من أجل الماضي نفسه، بل من أجل التحرر مما تراكم من انحرافات وظلمات ، موضحاً أن الناس لا تقبل الأفكار الإصلاحية إلا إذا قدمت لهم بوصفها ذات أصول في تراثهم.
أثرى الجابري الساحة الفكرية بالعديد من الدراسات والمؤلفات والتي تجاوزت الثلاثين، وتوصل خلال حياته إلى أن العقل العربي بحاجة إلى إعادة الابتكار، ويأتي على رأس مؤلفاته كتابه في "نقد العقل العربي"، الذي صدر في أربعة أجزاء هي " تكوين العقل العربي، وبنية العقل العربي، والعقل السياسي العربي"، و"العقل الأخلاقي العربي"، وأثار هذا الكتاب الهام للمفكر المغربي نقاشات مهمة في الساحة الفكرية العربية مشرقاً ومغرباً
و من أعماله الأخرى "نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي" 1980، و"العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي" 1971، "مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي" 1982، و "إشكاليات الفكر العربي"، " المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل،.
كما قدم "حوار المغرب والمشرق " مع د. حسن حنفي"، " الدين والدولة وتطبيق الشريعة"، و"في نقد الحاجة على الإصلاح"، و"معرفة القرآن الحكيم أو التفسير الواضح حسب أسباب النزول" في ثلاثة أجزاء، و"مدخل إلى القرآن "
كانت أخر مشروعاته التي عمل على إنجازها حول فهم وتفسير "القرآن الكريم" والذي قال عنه الجابري أنه مشروع العمر بالنسبة له، وهدف من خلال أجزائه إلى التعريف بالقرآن الكريم تعريفاً "ينأى به عن التوظيف الأيدلوجي والاستغلال الدعوي الظرفي من جهة، ويفتح أعين الكثيرين على الفضاء القرآني كنص محوري مؤسس لعالم جديد كان ملتقى لحضارات وثقافات شديدة التنوع. ومما يحسب للجابري انه قام بالإشراف على تحقيق علمي ونشر الكتب الأصيلة لابن رشد أي تلك التي ألفها (خارج شروحه على أرسطو) مع تزويدها بمدخل ومقدمة تحليلية وشروح وذلك للكتب التالية: افصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، الذي يدافع فيه ابن رشد عن الفلسفة موظفاً فهمه العقلاني للعلاقة بين الدين والفلسفة وبالكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، الذي انتقد فيه طريقة المتكلمين الأشاعرة في إثبات العقيدة الإسلامية، وبتهافت التهافت الذي رد فيها على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة وكتاب الكليات في الطب وكتاب الضروري في السياسة،وهو تلخيص السياسة لأفلاطون الذي تعاون الجابري فيه مع زميل له بترجمة النسخة الوحيدة المتبقية من الكتاب من اللغة العبرية إلى العربية وإعادة صياغة عبارات الكتاب وفق أسلوب ابن رشد واصطلاحه.
وختم الجابري تحقيقه لأعمال ابن رشد بكتاب خاص بعنوان: ابن رشد سيرة وفكر شرح فيه مراحل حياة ابن رشد ومشاريعه الإصلاحية في الفقه والنحو والعقيدة والطب والفلك والفلسفة والسياسة.
ويرفض الجابري القراءات التي تقوم على ما أسماه 'الفهم التراثي للتراث' ويدعو للتعامل مع التراث بشكل يجعله "معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا في آن واحد" وبالتالي يجب أن نتطلع إلى بناء مستقبلنا من فهم واع لمعطيات واقعنا وخصوصية تاريخنا ومقوما لشخصيتنا.
كتب حسن حنفي بعد وفاة الجابري:
لا يوجد مفكر عربي إلا وتأثر بالجابري إيجاباً أو سلباً، ولا يستطيع واحد منهم أن يملأ فراغه بعد رحيله، وهو الفرق بين الكوكب والنجوم. أصبح يمثل الفكر العربي المعاصر، يشار إليه داخل الوطن العربي وخارجه، في العالم الإسلامي وفي العالم الغربي.
عُرف الجابري بمشروعه النقدي الثلاثي ''نقد العقل العربي'' وللمرة الأولى يُستعمل لفظ ''نقد'' كما استعمله ''كانط'' في القرن الثامن عشر بعد قرنين من النهضة، السادس عشر ونزعته الإنسانية، والسابع عشر ونزعته العقلانية، وأول مرة يُستعمل لفظ ''العقل'' كما استعمله الأنثروبولوجيون الفرنسيون مثل ليفي بريل، ووصفه بالعربي ومضمونه إسلامي.
تجمع ثلاثيته بين كانط وهيجل معاً، العقل النقدي، والعقل التاريخي، فالعقل النقدي هو تراث الأمة وإنتاجها الفكري، أي تاريخ وعيها كما فعل هيجل في ''ظاهريات الروح'': التكوين يسبق البنية، والبنية نتاج التكوين.
خلال زيارتي للمغرب في شهر مارس الماضي ، عندما سألني صديقي مصطفى قباج : هل أريد أن أرافقه لزيارة المفكر عابد الجابري للإطمئنان على صحته ، لم أتردد لحظة ، رغم أنني عادة أخجل من زيارة الناس دون علمهم ، كان يظهر عليه بعض الإعياء نتيجة أوجاع في الكلى ، لم يتكلم عن مرضه والعلاج الذي يتبعه إلا قليلاً ، كان هناك بعض أصدقائه ، لم أكن اعرف منهم إلا محمد الفاسي أستاذ كلية الحقوق سابقاً ونور الدين أفاية الناقد المسرحي المعروف ، بقينا بعد مغادرة الآخرين لما تربطه مع قباج من صداقة ،سأله فجأة صديقي هل هو مستعد لحوار صحفي معي ، لم أتوقع ذلك فأنا أحضر حواراتي لمدة أسابيع أحياناً رهبة وإحتراماً لمن أسأل, وافق قائلاً أنه سينصحني الأسئلة ، لم نكمل الحوار في نفس الليلة بسبب تعبه ، لكنني عدت في الغد وكان حواراً مطولاً أعرض بعض ما فيه على هذه الصفحات ، مختارة المواضيع الأكثر تحييناً للأحداث الراهنة .
❊ طلب وزير "الهجرة والادماج والهوية الوطنية" من الفرنسيين خوض "نقاش واسع" خلال شهرين (من 2 جانفي إلى 28 فيفري 2010) حول الهوية الوطنية الفرنسية، محددا موضوع النقاش في سؤالين رئيسيين هما : "بأي معنى يجب أن يُفهَم اليوم كونُ الفرنسي فرنسيا ؟ وما هو نصيب الهجرة في الهوية الوطنية الفرنسية؟وفي كتاباتك ذكرت أن الفلسفة الأوروبية الحديثة هي أساساً فلسفة الهوية . فما رأيك في هذا النقاش المطروح ؟
- الفلسفة الأوربية الحديثة هي فلسفة "الذات الأنا" : الإنسان ذات في مقابل العالم الذي هو موضوع لها. والفكرة المؤسسة لفلسفة "الذات" هذه هي كوجيتو ديكارت: لقد أراد ديكارت أن يَحمِل الناس على اعتماد التفكير النقدي والتخلص من "الأفكار المتلقاة"، فاتخذ "الشك" منهجا لإعادة بناء علاقة "الأنا" بالعالم، وذلك انطلاقا من "اصطناع" الشك في كل شيء، ف "مسح الطاولة" مسحا كليا بما في ذلك حواسه وجسمه الخ، إلى أن لم يبق لديه شيء يستعصي على الشك سوى كونه يشك، أي يفكِّر، ومن هنا قولته الشهيرة: "أنا أفكر إذن أنا موجود".
و يقول الفيلسوف اللاهوتي، العالم الفرنسي، بليز باسكال : "للأنا خاصيتان، فمن جهة هو في ذاته غير عادل من حيث إنه يجعل من نفسه مركزا لكل شيء، وهو من جهة أخرى مضايق للآخرين من حيث إنه يريد استعبادهم؛ ذلك لأن كل "أنا" هو عدو، ويريد أن يكون المسيطر على الكل. هل نملك الحق في الإجابة على سؤال وزير "الهجرة والادماج والهوية الوطنية"؟ سواء كان الجواب بالإيجاب أم بالنفي، فقد تكفي قراءة اسم وزارته ابتداء من آخره هكذا: الهوية الوطنية (=الأنا) والادماج (=السيطرة) والهجرة (=الآخر:) موضوع السيطرة.
❊ طرح مثل هذا السؤال في فرنسا هو مايسميه الفلاسفة " شقاء الوعي " أي أن يحب الإنسان شيئاً ويكرهه في نفس الوقت ،ففرنسا في حاجة للمهاجرين إقتصادياً و عملياً ؟
- الفرنسي يريد أن يكون فرنسيا قحا، والهوية الوطنية الفرنسية يجب أن لا تضم إلا الفرنسيين "الأقحاح"، لكنَّ هذا الفرنسي لا يستطيع الاستغناء عن المهاجرين، لا يستطيع إسقاطهم من مكونات وجوده، لقد أصبحوا جزءا من هذا الوجود يحملون ورقة تعريف (هوية) مكتوب عليها "فرنسي الجنسية"
❊ وما هو نصيب الهجرة في الهوية الوطنية الفرنسية؟
الجواب الذي يفرض نفسه هو أن نصيبها يتزايد حجمه مع مرور السنين. وبالتالي قد يأتي يوم لا يكون فيه معنى لكون الفرنسي فرنسيا، ولا الألماني ألمانيا، ولا الإنجليزي إنجليزيا إلا من خلال "هوية" تطبعها الازدواجية : الجنسية القانونية من جهة، ومن جهة ثانية الانتماء لبلد أجنبي على صعيد "الهوية الحضارية"، التي يُعدُّ "العرق" وأحيانا الدين أيضا- من مكوناتها الأساسية
❊ اليوم تطرح قضية الهوية من مستوى الدول وعلى لسان حكوماتها ، ما أسباب هذه الظاهرة الجديدة وعوامل كونها وظهورها ؟
- إذا نحن ركزنا انتباهنا في الجهات التي تطرح اليوم هذا النوع من الطرح لمسألة الهوية وجدنا على رأسها البلدان التي تستقطب وتجذب العمالة من خارج أرضها ، وبالتالي تعاني اليوم مما يسمى "مشكل الهجرة" بعد أن كانت الهجرة إليها، إلى وقت قريب، لا ينظر إليها على أنها مشكل على صعيد الهوية الوطنية، بل على أنها ضرورة من ضرورات بناء الوطن وإعادة البناء ومواصلة السير على طريق التقدم والرقي.والجهتين اللتين يصدق عليهما هذا "التوصيف" هما منطقة الخليج من جهة، وأوروبا الغربية من جهة أخرى.
إن فسيفساءَ ديموغرافيةِ بلدانِ الخليج تجعل من الهوية الوطنية فيها (باستثناء السعودية) شبحا يصعب الإمساك به، خصوصا وقد صار كل من هذه البلدان لا يتصور الهوية ولا يطلبها إلا ضمن حدود سياسية تفصل بين قبائل، وليس بين أوطان، حدود تجعل مَن يقع داخلها يماهي -بشعور أو بدون شعور- بين الهوية والقبيلة.
بالنسبة لأوروبا أصبحت الهجرة اليوم تتم عبر تيارين: الأول ينطلق من دول شرق أوربا بالتحديد، وقد كان وما يزال محل ترحيب، أو على الأقل موضوع قبول. والثاني ينطلق من جنوبها (من إفريقيا والعالم العربي)، ولكن هذه المرة، ليس كهجرة مطلوبة بل كهجرة ترى فيها شرائح عديدة في المجتمعات الأوربية تهديدا لهويتها. وقد تنامى هذا الشعور بعد أن أصبح المهاجرون أجيالا ثلاثة وصار كثير منهم يحملون "الجنسية القانونية" للبلد الذي يقيمون فيه (خاصة في فرنسا) مما جعل المواطنين في تلك المجتمعات صنفين : مواطنون بالهوية الوطنية ومواطنون بالجنسية القانونية.
❊ كانت اللغة العربية ركيزة الهوية العربية ؟
منذ العصر العباسي الأول ، كانت "الهوية العربية الجامعة" هوية ثقافية: لغتها العربية ومضمونها تراث عربي إسلامي : جل حامليه من غير العرب. أما بعد هذا العصر، فقد تركت اللغة العربية مكانتها الثقافية للغة الفارسية شرق العراق. وكان هذا التحول قد حدث تدريجيا منذ ابن سينا والغزالي الذين كانا من كبار علماء الإسلام الذين دشنوا التأليف بالفارسية بحروف عربية. ثم تعمم هذا التحول ليؤدي إلى قطيعة نهائية على مستوى الهوية، إذ لم تعد هناك "هوية جامعة" واحدة، بل هويتان: هوية عربية إسلامية جامعة من المحيط إلى الخليج من جهة وهويات أخرى، شرق الخليج، لقوميات متعددة لم يكن يجمعها سوى التدين بالإسلام. وسيتعمم هذا الوضع مع قيام الإمبراطورية العثمانية
❊ عاد الحديث هذه الأيام عن "الشرق" بالتبشير ب "الشرق الأوسط الجديد"، فكيف يتحدد مفهوم "الشرق" و"الشرق الأوسط" عندنا وعندهم؟
- استعمل لفظ المشرق والمغرب، بالإفراد والتثنية والجمع؛ ففي القرآن: "رب المشرق والمغرب" ، و"رب المشرقين ورب المغربين" ، و"رب المشارق والمغارب". وليس في هذا التعدد ما يتجاوز المعنى الجغرافي. ذلك لأن المقصود ب"المشرقين والمغربين" هو مكان شروق الشمس في الصيف ومكان غروبها في الشتاء. أما "المشارق والمغارب" فهما أمكنة شروقهما وغروبهما كل يوم خلال السنة. قالوا "إن الشمس تطلع في ثلاثمائة وستين كوّة، فإذا طلعت في كوّة لم تطلع منها حتى العام المقبل"، ومثل ذلك غروبها. وهذا النوع من التفسير يستجيب لواقع تنقل العرب في الصحراء مسترشدين بمواقع النجوم التي كانت لها عندهم أهمية خاصة عبر عنها القرآن الكريم بلفظ القسم " فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عظيم "
ولم يتجاوز مفهوم الزوج مشرق/مغرب هذا المعنى الجغرافي على مدى عصور الحضارة العربية الإسلامية. فعندما اتسعت رقعة هذه الحضارة وصار مركزها دمشق ثم بغداد احتفظ المفهومان بدلالتهما الجغرافية، فاستعمل لفظ "المشرق" في بغداد للإشارة إلى فارس وخراسان وما إليهما، بينما استعمل لفظ المغرب في هذين للإشارة إلى بغداد وما يليها غربا.
أما في المغرب والأندلس فقد استعمل لفظ "المشرق" للدلالة على الأقطار الإسلامية التي تقع شرق "المغرب". والمغرب قد تعدد معناه بعد الفتح العربي حينما صار الفاتحون والمؤرخون يميزون فيه بين "المغرب الأدنى" (ليبيا تونس) و"المغرب الأوسط" (الجزائر) و"المغرب الأقصى" الذي أطلق عليه في ما بعد اسم عاصمته "مراكش".
هذا بالنسبة لمضمون الزوج مشرق/مغرب في الحضارة العربية الإسلامية، وهو مضمون بقي جغرافيا باستمرار، خال من كل دلالة إيديولوجية. ذلك لأن أيا منهما لم تكن له أية علاقة مفهومية مع الزوج الأنا والآخر. فسواء تعلق الأمر بما يحيل إليه "المشرق" أو يشير إليه "المغرب" فهما معا عنصران مندمجان في "الأنا"، كلاهما ينظر إليه داخل دار الإسلام.
ومع التوسع الاستعماري الأوربي صارت الزوج غرب/شرق يكتسي مضامين سياسية. فالغرب هو الأنا والشرق هو الآخر. وهذا الآخر يتحدد جغرافيا بحسب موقعه من الأنا (الغرب). وكان يقصد به الدول التي توجد في الشرق بالنسبة لفرنسا، وخاصة منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، فالكلمة هنا في مقابل "أوربا". ثم هناك منطقة البحر الأبيض المتوسط ، الذي إكتسى مضموناً صريحاً , أثناء الحرب الباردة حينما تخصصت للدلالة على دول المعسكر الشيوعي ، وذلك مقابل الغرب ، والذي يعنى به دول المعسكر الراسمالي ..
وهكذا يبدو واضحا أن اصطلاح "الغرب والشرق"، في الخطاب العربي المعاصر هو ترجمة من اللغات الأوربية. واللافت للنظر أن الدلالة الإيديولوجية لهذا المصطلح قد نقلت معكوسة إلى العربية مع الترجمة. ف"الشرق" عندنا "نحن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" أصبح هو "الأنا"، بينما الغرب" هو الآخر". ولم يكن هذا واردا في الوعي العربي الإسلامي قبل القرن الماضي. وإذن فالزوج شرق/غرب يحيل في وعينا، صراحة أو ضمنا، إلى علاقة خاصة هي علاقة المستعْمَر، المعتدَى عليه ، مع الغرب المستعْمِر المعتدي.
❊ في كتابك العقل السياسي العربي تحدثت عن الإيمان والتكفير، اليوم من يصلي ركعتين يعتبر نفسه مؤهلا لتكفير كل من يخالفه الرأي ؟
- هناك دور رائد قام به من سموا ب "القدرية" في التأسيس لنوع من المعالجة العقلانية لهذه المسائل التي حصرتها إيديولوجيا "التكفير الخارجي"، وربيبتها "الجبر الأموي" في منطق "إما... وإما"، المنطق الذي يلغي العقل والجدل والتجاوز وجميع القيم الوسطى.
تجمع المصادر على أن أهم شخصية في صفوف القدريين الأوائل هو غيلان الدمشقي وتنسب إليه دورا أساسيا في نشر فكر تنويري واجه به إيديولوجيا الجبر الأموي وإيديولوجيا التكفير الخارجي. كما تبرز مصادرنا كونه استطاع أن يستقطب أتباعا كثيرين من مختلف الأوساط، بما في ذلك حاشية الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي كان قد اختاره مؤدبا لولده سعيد. كما تبرز مصادرنا أن عمر بن عبد العزيز قد قربه واستمع إلى مواعظه واعتمد عليه في تنفيذ بعض إصلاحاته. على أن تواجده وسط حاشية بعض الملوك الأمويين لم يمنعه من نشر أفكاره التنويرية، بل لقد عرف كيف يبثها وسط هذه الحاشية نفسها ويستقطب فيها أنصارا ومؤيدين. أضف إلى ذلك أنه لم يقتصر على "الكلام" في الإيمان و"القدر" (حرية الإرادة)، بل تعدى ذلك إلى قضايا سياسية أساسية، وعلى رأسها قضية القضايا، قضية الخلافة.
كان الأمويون قد روجوا (من خلال حديث نبوي رواه معاوية) لفكرة أن "الإمامة في قريش"، وهو حديث يستبعد بكيفية مباشرة المعارضين للأمويين من غير قريش وفي مقدمتهم الخوارج. أما غيلان الدمشقي، وكان مولى لبني مروان، فقد قال بالعكس من ذلك: إن الخلافة "تصلح في غير قريش، وإن كل من كان قائما بالكتاب والسنة كان مستحقا لها، وإنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة". وهذا موقف متميز ومتقدم جدا: فهو يعارض الأمويين الذين يحصرون الخلافة في قريش وحدها، ويخالف الشيعة الذين يجعلونها في علي وذريته فقط، ويختلف مع الخوارج باشتراطه "الإجماع". ومعلوم أن الخوارج لا يعترفون ب "الإجماع"، بل يضعون جميع مخالفيهم من المسلمين في "دار الكفر". إن اشتراط الإجماع في اختيار الخليفة موقف متقدم جدا لأنه ينطلق من الاعتراف بالرأي المخالف، ويجعل مسألة الحكم من اختصاص الأمة وليس من احتكار القبيلة ولا من حق الورثة والأوصياء وحدهم..
أما موقفه من إيديولوجيا الجبر الأموي فقد عبر عنه في عدة رسائل لم يصلنا منها سوى رسالة يعظ فيها عمر بن العزيز، وقد جاء فيها: "ولن تجد داعيا يقصد الله- يقول : تعالوا إلى النار! إذن لا يتبعه أحد! لكن الدعاة إلى النار هم الدعاة إلى معاصي الله. فهل وجدت يا عمر حكيما يعيب ما يصنع، أو يصنع ما يعيب، أو يعذب على ما قضى، أو يقضي ما يعذب عليه؟ أم هل وجدت رشيدا يدعو إلى الهدى ثم يُضٍلُّ عنه، أم هل وجدت رحيما يكلف العباد فوق الطاقة ويعذب على الطاعة؟ أم هل وجدت عدلا يحمل الناس على الظلم والتظالم؟ وهل وجدت صادقا يحمل الناس على الكذب أو التكاذب بينهم"؟
أما اعتراضات غيلان على الاحتكار والاستغلال الذين عرف بهما رجال الدولة الأموية فلقد كانت من الجذرية إلى درجة التحريض على "الثورة". وكمثال على ذلك ما تذكره مصادرنا من أنه عندما عرض عليه عمر بن عبد العزيز أن يسند منصبا إليه طلب أن يتولى وظيفة "بيع الخزائن ورد المظالم"! تولى غيلان هذه الوظيفة بالفعل. وتذكر المصادر أنه أخرج يوما "خزائن" بعض رجال أهل الدولة وهي مما وقعت مصادرته، فأخذ يهتف في الناس : "تعالوا إلى متاع الخونة، تعالوا إلى متاع الظلمة، تعالوا إلى متاع من خلف في الرسول أمته بغير سنته وسيرته، من يعذرني ممن يزعم أن هؤلاء كانوا أيمة الهدى... وهذا متاعهم، والناس يموتون جوعا". وتقول الرواية إن هشام بن عبد الملك، الذي لم يكن قد أصبح خليفة بعد، مر به وسمع ذلك فقال: "إن هذا يعيبني ويعيب آبائي، والله إن ظفرت به لأقطعن يديه ورجليه". بالفعل كانت نهاية غيلان على يد هشام بن عبد الملك عندما صار خليفة. لقد قطع يديه ورجليه، لكن غيلان استمر في انتقاد الأمويين فأمر هشام بقطع لسانه، فمات". مات غيلان الشخص، ولكن أفكاره بقيت حية تزداد انتشارا وعمقا... فجعلته من الخالدين حقا.
❊ ذكرت أن هناك مرآة مهشمة تعكس الوضع الثقافي اليوم ؟
- المفارقة هو التحول على مستوى الأفكار والتصورات والمطالب الذي عرفته أوروبا في القرن السابع عشر والذي اتسع وتعمق في القرنين التاليين، لم تجد طريقها إلى العالم العربي إلا بعد منتصف القرن التاسع عشر، أي في وقت لم يكن فيه المجتمع العربي مهيأ للتجاوب معها من قاعدته، ولا قادراً على إعطائها الفرصة لتنغرس في جسم المجتمع ككل. ذلك أن المجتمع العربي لم يكن قد تحول من المجتمع الإقطاعي إلى الصناعي فالرأسمالي، بل لم يكن قد مر من مرحلة المجتمع الإقطاعي على النمط الأوروبي الذي كان له الدور الكبير في تذويب مجتمع القبيلة والطائفة، بقي المجتمع العربي محافظا على كل ما عرفه تاريخه من أطر اجتماعية، من القبيلة والطائفة، و"العامة" و"الخاصة"، إلى "النخبة العصرية" التي أفرزها الاحتكاك مع الغرب الأوربي، الذي لم ينفصل مضمونه العام عن التوسع الاستعماري بكل مضامينه وآفاقه.
❊ ما هي الصور المتداخلة التي تقدمها المرآة المهشمة عن مشهد الثقافة العربية في الوقت الراهن؟
- لهذه الصور إشكالية ذو بعدين:
البعد الأول يمكن التعبير عنه بالسؤال التالي: إلى أي مدى يمكن غرس أفكار وتصورات ومطالب منقولة من مجتمعات عرفت تطورات خاصة معينة، إلى مجتمعات لم تعرف ما يوازن تلك التطورات؟ نحن هنا نتحدث على مستوى النقل فقط: كيف يمكن إفهام الراعي أو عضو القبيلة أو الطائفة أو "المَتْعَلَّمْ" في دكان "المْعَلَّمْ" أن هناك مشكلة يعاني منها هي أساس بؤسه، وأن هذه المشكلة تتلخص في كلمة واحدة "الاستغلال" هذا إذا استجاب لما نعنيه ب"بؤسه"، إذ الغالب أنه يشعر بالسعادة التامة إذا أحس أن سيده أو رئيسه على مستوى القبيلة أو الطائفة، راض عنه.
أما البعد الثاني فيتعلق بمشكلة الفارق الزمني: ومن أجل تقريبها إلى الأذهان بأيسر طريق أستعين بواقعة مرت أمامي، لا أقول إنها أيقظتني من غفلتي عن هذا الأمر، فقد كنت أعيه وعيا فكريا تاما منذ زمان، ولكنها جعلتني أدركها إدراكا ملموسا ... كان ابني الصغير في شجار مع أخيه الأكبر منه، لا أذكر موضوعه ولا تفاصيله، ولكنني أذكر جيدا أنني سمعت، في ختام شجارهما، ابني الصغير (حوالي أربع سنوات) يقول لأخيه (الذي يكبره بعشرة عوام): "اسمع، يوم أكبر وأصبح مثلك (مساويا لك في العمر سأنتقم منك). وما أثار انتباهي واستغرابي هو أن الابن الصغير كان يعتقد أنه سيكبر ويزداد عمره سنوات وأنه سيلتحق بأخيه، وكأن هذا الأخير سيبقى جامدا في عمره الراهن آنذاك. وما يعني هذا المثل بالنسبة لي هنا هو أن تاريخ علاقتنا بالفكر الأوربي في العصر الحديث تحكمه هذه المفارقة: إن أية فكرة جديدة تظهر في الغرب تنتقل إلينا أو ننقلها نحن -ففضلا عن كونها لا تجد ما يحملها اجتماعيا- فإنها ما إن تبدأ أصداؤها تتردد في فكرنا وبالتالي في تصوراتنا ومطالبنا حتى تكون قد تجاوزت في مسقط رأسها أو في طريقها إلى أن تصبح متجاوزة.
عندما كانت أفكار عصر الأنوار تجد طريقها إلى بعض الأقطار العربية التي كانت مهيأة بصورة ما لتتردد لها فيها بعض الأصداء، وكان ذلك في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت تلك الأفكار ?أفكار عصر الأنوار- قد فقدت "أنوارها" وأصبحت تنعت ب "الإيديولوجية البرجوازية"، بمعنى الفكر الذي يخدم مصالح ألأغنياء، أصحاب رأس المال. وهكذا حلت محلها أفكار أخرى هي الفكر اليساري على العموم، الذي شكلت الماركسية بصورة أو أخرى عموده الفقري.
وهكذا لم تبدأ أفكار عصر الأنوار التي كانت تُسرَّبُ، إلى المجتمع العربي تلتمس لها حيزا من الوجود على مستوى الفكر العربي، وبنسبة أقل كثيرا على مستوى حاملها في المجتمع، حتى لحقت بها أفكار "اليسار" الماركسي في الغالب، تزاحمها وتحاربها وتتخذ منها العدو الذي يجب أن يهزم أولا قبل غيره. وهكذا أحذت الأحزاب الشيوعية في الظهور في بعض الأقطار العربية، بعضها تابع لأحزاب شيوعية في أوروبا وبعضها نابت في صفوف الأقليات العرقية لشعور هذه الأقليات بالتهميش وهضم الحقوق الخ... لكن الشيء الذي كان يجري في أوربا بعد "تحريف" لينين لجوهر الماركسية بمناداته بإمكان قيام الاشتراكية في بلد واحد، هو روسيا، دون الأخذ بعين الاعتبار تخلفها الصناعي /النسبي ولكن الواسع- عن ألمانيا التي كان ماركس وإنجلز يريان أنها المهيأة لقيادة قافلة التحول الاشتراكي نظرا لتقدمها الصناعي المتفوق، أقول إن ما كان يجري في أوربا -عندما أخذ الفكر الماركسي اللينيني يجد له حيزا ما في الفكر العربي خاصة بعد الحرب العالمية الثانية- هو قيام كثير من المفكرين الأوربيين اليساريين برفع شعار: "الماركسية في حاجة إلى ماركس جديد". نعم كانت "الماركسية في حاجة إلى ماركس جديد" في الوقت الذي كان فيه من سبقت شيوعيتُهم ماركسيتَهم، في العالم العربي، يتكلمون "ماركسية غير ماركسية" متمسكين باستالينية امبراطورية.
واليوم بعد قيام العولمة بجانبها الإيديولوجي الإمبراطوري الذي يقوم على "الفوضى الخلاقة" التي تعني تكسير الأطر الاجتماعية التي تقوم على فكرة الوطن والحزب وفسح المجال لانبعاث نقيضيهما أعني القبيلة والطائفة، اليوم يسود العالم العربي، صنفان من الألقاب لما كان يدعى من قبل ب "الإنسان العربي" : صنف يدعو نفسه ب"الإنسان المواطن" وصنف يسمي نفسه ويسميه خصومه "الإنسان الإسلامي".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.